Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 115-115)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الجملة معطوفة على جملة { أفغير الله أبْتغي حَكَما } الأنعام 114 لأنّ تلك الجملة مَقولُ قول مقدّر ، إذ التّقدير قل أفغير الله أبتغي حكماً باعتبار ما في تلك الجملة من قوله { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } الأنعام 114 فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله ، ووصف بوضوح الدّلالة بقوله { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } الأنعام 114 ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنَّه من عند الله بقوله { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك } الأنعام 114 ، أعلَم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة ، ناهض الحجّة ، على كلّ فريق من مؤمن وكافر ، صادق وعدُه ووعيده ، عادل أمره ونهيه . ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { وجعلنا لكلّ نبي عَدوّاً } وما بينهما اعتراض ، كما سنبيّنه . والمراد بالتمام معنى مجازي إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه ، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافراً أجزاءه ، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه ، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه ، يقال تَم ما أخبر به فلان ، ويقال أتم وعده ، أي حقّقه ، ومنه قوله تعالى { وإذِ آبتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتَمَّهُن } البقرة 124 أي عمل بهنّ دون تقصير ولا ترخّص ، وقوله تعالى { وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } الأعراف 137 أي ظهر وعده لهم بقوله { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض } القصص 5 الآية ، ومن هذا المعنى قوله تعالى { والله متمّ نوره } الصف 8 أي محقّق دينه ومثبتُه ، لأنَّه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازاً أيضاً . وقوله { كلمات ربك } قرأه الجمهور ــــ بصيغة الجمع ــــ وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف كَلمة ــــ بالإفراد ــــ فقيل المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن ، وهو قول جمهور المفسّرين ، ونقل عن قتادة ، وهو الأظهر ، المناسب لجعْل الجملة معطوفة على جملة { والذين آتيناهم الكتاب } الأنعام 114 . فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله ، فهو من كلامه وقوله . والكلمة والكلام يترادفان ، ويقول العربُ كلمة زهير ، يعنون قصيدته ، وقد أطلق في القرآن الكلمات على الكتب السّماوية في قوله تعالى { فآمِنوا بالله ورسوله النّبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته } الأعراف 158 أي كتبه . وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات . أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر ، ونهي ، وتبشير ، وإنذار ، ومواعظ ، وإخبار ، واحتجاج ، وإرشاد ، وغير ذلك . ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافياً بما يتطلّبه القاصد منه . واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من { كلمات ربك } ــــ بالجمع أو الإفراد ــــ القرآن ، واستظهر أنّ المراد منها قول الله ، أي نفذ قوله وحكمه . وقريب منه ما أُثر عن ابن عبّاس أنّه قال كلمات الله وَعده . وقيل كلمات الله أمره ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، وفسّر به في « الكشاف » ، وهو قريب من كلام ابن عطيّة ، لكنّ السّياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر . وانتصب { صدقاً وعدلاً } على الحال ، عند أبي عليّ الفارسي ، بتأويل المصدر باسم الفاعل ، أي صادقة وعادلة ، فهو حال من { كلمات } وهو المناسب لكون التّمام بمعنى التّحقّق ، وجعلهما الطّبري منصوبين على التّمييز ، أي تمييز النّسبة ، أي تمّت من جهة الصّدق والعدل ، فكأنّه قال تَمّ صدقُها وعدلها ، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشّيء أحسنَ ما يطلب من نوعه . وقال ابن عطيّة هذا غير صواب . وقلت لا وجه لعدم تصويبه . والصّدق المطابقة للواقع في الإخبار وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد ، والنّفوذ في الأمر والنّهي ، فيشمل الصّدقُ كلّ ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق . ويطلق الصّدق مجازاً على كون الشّيء كاملاً في خصائص نوعه . والعدل إعطاء من يستحقّ ما يستحقّ ، ودفع الاعتداء والظلممِ على المظلوم ، وتدبير أمور النّاس بما فيه صلاحهم . وتقدم بيانه عند قوله تعالى { وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل } في سورة النّساء 58 . فيشمل العدل كلّ ما في كلمات الله من تدبير شؤون الخلائق في الدّنيا والآخرة . فعلى التّفسير الأوّل للكلمات أو الكلمة ، يكون المعنى أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب في وضوح الدّلالة ، وبلاغة العبارة ، وأنّه الصّادق في أخباره ، العادل في أحكامه ، لا يُعثر في أخباره على ما يخالف الواقع ، ولا في أحكامه على ما يخالف الحقّ فذلك ضرب من التحدّي والاحتجاج على أحقّيّة القرآن . وعلى التّفسيرين الثّاني والثّالث ، يكون المعنى نفذ ما قاله الله ، وما وَعَدَ وأوْعَد ، وما أمر ونهى ، صادقاً ذلك كلُّه ، أي غير متخلّف ، وعادلاً ، أي غير جائر . وهذا تهديد للمشركين بأنْ سيحقُّ عليهم الوعيد ، الّذي توعّدهم به ، فيكون كقوله تعالى { وتمَّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } الأعراف 137 أي تَمّ ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها الّتي بارك فيها ، وقوله { وكذلك حقّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنّهم أصحاب النّار } غافر 6 أي حقّت كلمات وعيده . ومعنى { لا مبدل لكلماته } نفي جنس من يبدل كلمات الله ، أي من يبطل ما أراده في كلماته . والتّبديل تقدّم عند قوله تعالى { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } من سورة البقرة 61 ، وتقدّم هناك بيان أنّه لا يوجد له فعل مجرّد ، وأنّ أصل مادّته هو التّبديل . والتّبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر ، فيكون في الذّوات كما قال تعالى { يوم تُبدّل الأرض غير الأرض } إبراهيم 48 وقال النّابغة @ عهدتُ بها حيّاً كراماً فبُدّلت خنَاظِيل آجَالِ النِّعَاج الجَوافل @@ ويكون في الصّفات كقوله تعالى { وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا } النور 55 . ويستعمل مجازاً في إبطال الشّيء ونقضه ، قال تعالى { يريدون أن يبدّلوا كلام الله } الفتح 15 أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه ، وهو قوله { قُل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل } الفتح 15 . وذلك أنّ النقض يستلزم الإتيان بشيء ضدّ الشّيء المنقوض . فكان ذلك اللّزوم هو علاقة المجاز . وقد تقدّم عند قوله تعالى { فمن بدّله بعد ما سمعه } في سورة البقرة 181 . وقد استعمل في قوله { لا مبدل لكلماته } مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التّمام من قوله { وتمت كلمات ربك } ونفي المبَدّل كناية عن نفي التَبْديل . فإن كان المراد بالكلمات القرآن ، كما تقدّم ، فمعنى انتفاء المبدّل لكلماته انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه ، بأن يُظهر أنّ فيه ما ليس بتمام . فإن جاء أحد بما ينقضه كذباً وزوراً فليس ذلك بنقض . وإنَّما هو مكابرة في صورة النقض ، بالنّسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه ، وانتفاءُ ما يبطل معانيَه وحقائقَ حكمته ، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكَم به . وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النّهي عن أن يخالفهُ المسلمون . وبذلك يكون التّبديل مستعملاً في حقيقته ومجازه وكنايته . ويجوز أن تكون جملة { وتمت كلمات ربك } عطفاً على جملة { جعلنا لكلّ نبي عدوّا } الأنعام 112 وما بينهما اعتراضاً ، فالكلمات مراد بها ما سنّه الله وقدّره من جعل أعداءَ لكلّ نبي يزخرفون القول في التّضليل ، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويتبّعوهم ، ويقترفوا السيئات ، وأنّ المراد بالتّمام التّحقّق ، ويكون قوله { لا مبدل لكلماته } نفي أن يقدر أحد أن يغيّر سنّة الله وما قضاه وقدّره ، كقوله { فلن تجد لِسُنَّتِ الله تبديلاً ولن تجد لِسُنَّتِ الله تحويلاً } فاطر 43 فتكون هذه الآية في معنى قوله { ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات الله } الأنعام 34 . ففيها تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتطمين له وللمؤمنين بحلول النّصر الموعود به في إبَّانه . وقوله { وهو السميع العليم } تذييل لجملة { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته } أي وهو المطّلع على الأقوال ، العليم بما في الضّمائر ، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته ، فالسّميع العالم بأصوات المخلوقات ، الّتي منها ما توحي به شياطين الإنس والجنّ ، بعضهم إلى بعض ، فلا يفوته منها شيء والعالم أيضاً بمن يريد أن يبدّل كلمات الله ، على المعاني المتقدّمة ، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه من تبييت الكيد والإبطال له . والعليم أعمّ ، أي العليم بأحوال الخلق ، والعليم بمواقع كلماته ، ومَحَالّ تمامها ، والمنظم بحكمته لتمامها ، والموقت لآجال وقوعها . فذكر هاتين الصّفتين هنا وعيد لمن شملته آيات الذمّ السابقة ، ووعد لمن أُمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم ، وبالتحاكم معهم إلى الله ، والّذين يعلمون أنّ الله أنزل كتابه بالحقّ .