Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 151-151)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادّعوا تحريمه من لحوم الأنعام ، إلى دعوتهم لمعرفة المحرّمات ، التي علمُها حقّ وهو أحقّ بأنْ يعلموه ممّا اختلقوا من افترائهم وموّهوا بجدلهم . والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقامُ تعليم وإرشاد ، ولذلك ابتدىء بأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدّم آنفاً . وعُقّب بفعل { تعالوا } اهتماماً بالغرض المنتقل إليه بأنَّه أجدى عليهم من تلك السّفاسف التي اهتمّوا بها وهذا على أسلوب قوله تعالى { ليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر } البقرة 177 الآيات . وقوله { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر } التوبة 19 الآية ، ليعلموا البون بين ما يَدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام ، من جلائل الأعمال ، فيعلموا أنَّهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم . وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أنّ الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض . وقد تلا عليهم أحكاماً قد كانوا جارين على خلافها ممّا أفسد حالهم في جاهليتهم ، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم ممّا يؤخذ من النّهي عنها والأمر بضدّها . وقد انقسمت الأحكام التي تضمّنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثّلاث المفتتحة بقوله { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى ثلاثة أقسام الأوّل أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامَّة بين النّاس وهو ما افتتح بقوله { ألاَّ تشركوا به شيئاً } . الثّاني ما به حفظ نظام تعامل النّاس بعضِهم مع بعض وهو المفتتح بقوله { ولا تَقْرَبوا مال اليتيم } الأنعام 152 . الثّالث أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتّباع طريق الإسلام والتّحرّز من الخروج عنه إلى سبل الضّلال وهو المفتتح بقوله { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } الأنعام 153 . وقد ذيّل كلّ قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله { ذلكم وصاكم به } ثلاث مرّات . وتعالَ فعل أمر ، أصله يُؤْمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه ، ولعلّ ذلك لأنَّهم كانوا إذا نَادوا إلى أمر مهمّ ارتقَى المنادي على ربوة ليُسمَع صوته ، ثمّ شاع إطلاق تَعالَ على طلب المجيء مجازاً بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية ، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلّف الاعتلاء ثمّ نقل إلى طلب الإقبال مطلقاً ، فقيل هو اسم فعللِ أمر بمعنى اقدَمْ ، لأنَّهم وجدوه غير متصرّف في الكلام إذ لا يقال تعاليتُ بمعنى قَدِمت ، ولا تعالَى إليّ فلان بمعنى جاء ، وأيّاً ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال تعالوا وتَعالَيْن . وبذلك رجَّح جمهور النّحاة أنَّه فعل أمر وليس باسْم فِعل ، ولأنَّه لو كان اسم فعل لما لحقتْه العلامات ، ولكان مثل هَلُمّ وهَيْهات . و { أتْلُ } جواب { تعالوا } ، والتّلاوة القراءة ، والسّردُ وحكاية اللّفظ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } البقرة 102 . و { ألاَّ تشركوا } تفسير للتّلاوة لأنَّها في معنى القول . وذُكرَت فيما حرّم الله عليهم أشياءُ ليست من قبيل اللّحوم إشارة إلى أنّ الاهتمام بالمحرّمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة ، تعريضاً بصرف المشركين همتّهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكفّ المفاسد عن النّاس ، ونظيره قوله { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده } الأعراف 32 إلى قوله { إنَّما حرم ربِّي الفواحش ما ظهر منها } الأعراف 33 الآية . وقد ذُكرت المحرّمات بعضها بصيغة النّهي ، وبعضها بصيغة الأمر الصّريح أو المؤوّل ، لأنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه ، ونكتة الاختلاف في صيغة الطّلب لهاته المعدودات سنبيّنها . و { أنْ } تفسيرية لفعل { أتل } لأنّ التّلاوة فيها معنى القول . فجملة { ألا تشركوا } في موقع عطف بيان . والابتداء بالنَّهي عن الإشراك لأنّ إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل ، والفلاح في الآجل . وقوله { وبالوالدين إحسانا } عطف على جملة { ألاَّ تشركوا } . و { إحسانا } مصدر ناب مناب فعله ، أي وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النّهي عن ضدّه وهو الإساءة إلى الوالدين ، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حَرّم الله لأنّ المحرّم هو الإساءة للوالدين . وإنَّما عدل عن النّهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين ، لأن الله أراد برهما ، والبرّ إحسان ، والأمرُ به يتضمّن النَّهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب ، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة ، فكان الأولاد لا يوقّرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر . فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين . وقوله { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النّهي عن الوأد ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى في هذه السّورة 137 { وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } ومِنْ تعليلية ، وأصلها الابتدائيّة فجعل المعلول كأنَّه مبتدىء من علّته . والإملاق الفقر ، وكونه علّة لقتل الأولاد يقع على وجهين أن يكون حاصلاً بالفعل ، وهو المراد هنا ، وهو الذي تقتضيه من التّعليلية ، وأن يكون متوقَّع الحصول كما قال تعالى ، في آية سورة الإسراء 31 { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } لأنَّهم كانوا يئدون بناتهم إمّا للعجز عن القيام بهنّ وإمَّا لتوقّع ذلك . قال إسحاق بن خلف ، وهو إسلامي قديم @ إذَا تذكرتُ بنتي حين تندبني فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم أحاذر الفقر يوماً أن يُلِمّ بها فيُكشفَ السترُ عن لحم على وضم @@ وقد تقدّم عند قوله تعالى وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم في هذه السورة 137 . وجملة { نحن نرزقكم وإياهم } معترضة ، مستأنفة ، علّة للنّهي عن قتلهم ، إبطالاً لمعذرتهم لأنّ الفقر قد جعلوه عذراً لقتل الأولاد ، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعياً لقتل النّفس ، فقد بيّن الله أنَّه لمّا خَلق الأولاد فقد قدّر رزقهم ، فمن الحماقة أن يظنّ الأب أنّ عجزه عن رزقهم يخوّله قتلهم ، وكان الأجدر به أن يكتسِبَ لهم . وعُدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله { ما حرم ربكم } إلى طريق التكلّم بضمير نرزقكم تذكيراً بالذي أمر بهذا القول كلّه ، حتى كأنّ الله أقحمَ كلامَه بنفسه في أثناء كلام رسوله الّذي أمره به ، فكلّم النّاس بنفسه ، وتأكيداً لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم . وذكَرَ الله رزقهم مع رزق آبائهم ، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنَّه كما رزق الآباء ، فلم يموتوا جوعاً ، كذلك يرزق الأبناء ، على أن الفقر إنَّما اعترى الآباء فلِمَ يُقتل لأجله الأبناء . وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي . هنا لإفادة الاختصاص أي نحن نرزقكم وإيَّاهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم . وقد بيّنتُ آنفاً أنّ قبائل كثيرة كانت تئد البنات . فلذلك حذروا في هذه الآية . وجملة { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } عطف على ما قبله . وهو نهي عن اقتراف الآثام ، وقد نهى عن القرب منها ، وهو أبلغ في التّحذير من النّهي عن ملابستها لأنّ القرب من الشّيء مظنّة الوقوع فيه ، ولمّا لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مراداً به الكناية عن ملابسة الإثم أقلّ ملابسة ، لأنَّه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة في الأمكنة إذا قيل لا تقرب منها فُهم النّهي عن القرب منها ليكون النّهي عن ملابستها بالأحرى ، فلمّا تعذّر المعنى المطابقي هنا تعيّنت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه . والفواحش الآثام الكبيرة ، وهي المشتملة على مفاسد ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى { إنَّما يأمركم بالسّوء والفحشاء } في سورة البقرة 169 . و { ما ظهر منها } ما يظهرونه ولا يسْتَخْفُون به ، مثل الغضب والقذف . { وما بطن } ما يستخْفون به وأكثره الزّنا والسّرقة وكانا فاشيين في العرب . ومن المفسّرين من فسّر الفواحش بالزّنا ، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا ، وبما بطَن اتَّخاذ الأخدان سِرّاً ، وروي هذا عن السُدّي . وروي عن الضحّاك وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة يرون الزّنا سِراً حلالاً ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزّنى في السرّ والعلانية . وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التّفسير الأوّل كقوله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } النجم 32 . ولعلّ الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزّنى قوله في سورة الإسراء 32 في آيات عَدَّدت منهيات كثيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحداً . وتقدّم القول في { ما ظهر منها وما بطن } عند قوله تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في هذه السّورة 120 . وأعقب ذلك بالنّهي عن قتل النّفس ، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعمّ ، تخصيصاً له بالذّكر لأنَّه فساد عظيم ، ولأنّه كان متفشياً بين العرب . والتّعريف في النّفس تعريف الجنس ، فيفيد الاستغراق . ووصفت بـ { التي حَرّم الله } تأكيداً للتّحريم بأنَّه تحريم قديم فإنّ الله حرّم قتل النّفس من عهد آدم ، وتعليق التّحريم بالنّفس هو على وجه دلالة الاقتضاء ، أي حرّم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التّحريم والتّحليل بأعيان الذّوات أنَّه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذّات فيه كقوله { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } المائدة 1 أي ، أكلها ، ويجوز أن يكون معنى { حرم الله } جعلها الله حَرَماً أي شيئاً محترماً لا يعتدى عليه ، كقوله تعالى { إنَّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها } النمل 91 . وفي الحديث " وإنِّي أحَرّم ما بين لابَتَيْها " وقوله { إلا بالحق } استثناء مفرّغ من عموم أحوال ملابسة القتل ، أي لا تقتلوها في أيَّة حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلاّ بسبب الحقّ ، فالباء للملابسة أو السببيّة . والحقّ ضدّ الباطل ، وهو الأمر الذي حَقّ ، أي ثبت أنّه غير باطل في حكم الشّريعة وعند أهل العقول السّليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصّة ، فيكونُ الأمرَ الذي اتَّفقت العقول على قبوله ، وهو ما اتَّفقت عليه الشّرائع ، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصّة على أنَّه يحقّ وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصّة بأمّة أو زمن . فالتّعريف في { الحق } للجنس ، والمراد به ما يتحقّق فيه ماهية الحقّ المتقدّم شرحها ، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام ، وقد فصّل الإسلام حقّ قتل النّفس بالقرآن والسنّة ، وهو قتل المحارب والقصاص ، وهذان بنصّ القرآن ، وقتل المرتدّ عن الإسلام بعد استتابَته ، وقتل الزّاني المحصن ، وقتل الممتنع من أداء الصّلاة بعد إنظاره حتّى يخرج وقتها ، وهذه الثّلاثة وردت بها أحاديث عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ومنه القتل الناشىء عن إكراه ودفاععٍ مأذوننٍ فيه شرعاً وذلك قتل من يُقتل من البغاة وهو بنصّ القرآن ، وقتل من يقتل من مانعي الزّكاة وهو بإجماع الصّحابة ، وأمّا الجهاد فغير داخل في قوله { إلا بالحق } ، ولكنّ قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقّاً ، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء . والإشارة بقوله { ذلكم وصاكم به } إلى مجموع ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور ، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحاً ، ومنه { كل أولئك كان عنه مسؤلاً } الإسراء 36 . وتقدّم معنى الوصاية عند قوله { أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا } الأنعام 144 آنفاً . وقوله { لعلكم تعقلون } رجاء أن يعقلوا ، أي يصيروا ذوي عقول لأنّ ملابسة بعض هذه المحرّمات ينبىء عن خساسة عقل ، بحيث ينزّل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رُجي أن يعقلوا . وقوله { ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } تذييل جعل نهاية للآية ، فأومأ إلى تنهية نوع من المحرّمات وهو المحرّمات الرّاجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعيّة للأمّة ، بإصلاح الاعتقاد ، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد ، وحفظ النّوع بترك التّقاتل .