Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 61-63)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فصلت جملة { قال } على طريقة فَصْل المحاورات . والنّداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر ، ولم يخصّ خطابَه بالذين جاوبوه ، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلّهم ، لأنّ جوابه مع كونه مجادلة للملأ من قومه هو أيضاً يتضمّن دعوة عامة ، كما هو بيِّن ، وتقدّم آنفاً نكتة التّعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره ، فأعاد ذلك مرّة ثانية استنزالاً لطائر نفوسهم ممّا سيَعقُب النّداء من الرد عليهم وإبطال قولهم { إنّا لنراك في ضلال مبين } الأعراف 60 . والضّلالة مصدر مثل الضّلال ، فتأنيثه لَفْظي محض ، والعرب يستشعرون التّأنيث غالباً في أسماء أجناس المعاني ، مثل الغواية والسّفاهة ، فالتّاء لمجرّد تأنيث اللّفظ وليس في هذه التّاء معنى الوحدة لأنّ أسماء أجناس المعاني لا تراعَى فيها المُشخّصات ، فليس الضّلال بمنزلة اسم الجمع للضّلالة ، خلافاً لِما في « الكشاف » ، وكأنَّه حاول إثبات الفرق بين قول قومه له { إنّا لنراك في ضلال } الأعراف 60 ، وقوله هُو { ليس بي ضلالة } وتبعه فيه الفخر ، وابن الأثير في « المثل السّائر » ، وقد تكلّف لتصحيحه التفتزاني ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنّ التّخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التّفنّن حيث سبق لفظ ضلال ، وموجب سبقه إرادة وصفه بــــ { مبين } الأعراف 60 ، فلو عبّر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبيّنة غير مألوف الاستعمال ، ولما تقدّم لفظ { ضلال } الأعراف 60 استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السّورة دفعاً لثقل الإعادة فقوله { ليس بي ضلالة } ردّ لقولهم { إنا لنراك في ضلال مبين } الأعراف 60 بمساويه لا بأبلغ منه . والباء في قوله { بي } للمصاحبة أو الملابسة ، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهم { في ضلال } الأعراف 60 فإنّهم جعلوا الضّلال متمكّنا منه ، فنفى هو أن يكون للضّلال متلبّس به . وتجريد { ليس } من تاء التّأنيث مع كون اسمها مؤنّث اللّفظ جرى على الجواز في تجريد الفعل من علامة التّأنيث ، إذا كان مرفوعه غير حقيقي التّأنيث ، ولمكان الفصل بالمجرور . والاستدراك الذي في قوله { ولكني رسول } لرفع ما توهّموه من أنّه في ضلال حيث خالف دينهم ، أي هو في حال رسالة عن الله ، مع ما تقتضي الرّسالة من التّبليغ والنّصح والإخبارِ بما لا يعلمونه ، وذلك ما حسبوه ضلالاً ، وشأن لكن أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها ، ولا تدلّ عليه الجملة السّابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعةُ له لكِنّ فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين إما في المسند نحو { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكنّ الله سَلَّم } الأنفال 43 أو في المسند إليه نحو { وما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى } الأنفال 17 فلا يحسن أن تقول ما سافرت ولكنّي مقيم ، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية ، لأنّ النّفي معنى واسع ، فيكثر أن يحتاج المتكلّم بعده إلى زيادة بيان ، فيأتي بالاستدراك ، ومن قال إنّ حقيقة الاستدراك هو رفْعُ ما يتوَهَّم السّامع ثبوتَه أو نفيه فإنّما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ ، وليس مرادُهم أنّ حقيقة الاستدراك لا تتقوم إلاّ بذلك . واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسِل لما تؤذن به من تفخيم المُضاف ومن وجوب طاعته على جميع النّاس ، تعريضاً بقومه إذ عصوه . وجملة { أبلغكم رسالات ربي } صفة لرسول ، أو مستأنفة ، والمقصود منها إفادة التّجدّد ، وأنّه غير تارككٍ التّبليغَ من أجل تكذيبهم تأييساً لهم من متابعته إياهم ، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلاً من معنى قوله { ولكني رسول } ، ولذلك جمع الرّسالات لأنّ كلّ تبليغ يتضمّن رسالة بما بلَّغَه ، ثمّ إن اعتُبرت جملة { أبلغكم } صفة ، يكُن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التّكلّم في قوله { أبلغكم } وقولِه { ربي } التفاتاً ، باعتبار كون الموصوف خبراً عن ضمير المتكلّم ، وإن اعتُبرت استينافاً ، فلا التفات . والتّبليغ والإبلاغ جعل الشّيء بالغاً ، أي واصلاً إلى المكان المقصود ، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمُه ، فكأنّه ينقله من مكان إلى مكان . وقرأ الجمهور { أُبَلِّغكم } ــــ بفتح الموحّدة وتشديد اللاّم ــــ وقرأه أبو عَمرو ، ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف اللاّم من الإبلاغ والمعنى واحد . ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله { رسالات ربي } هو ما تؤذن به إضافة الرّب إلى ضمير المتكلّم من لزوم طاعته ، وأنّه لا يسعه إلاّ تبليغُ ما أمره بتبليغه ، وإن كَرِه قومه . والنّصح والنّصيحة كلمة جامعة ، يعبّر بها عن حسن النّيّة وإرادة الخير من قوللٍ أو عملٍ ، وفي الحديث " الدّين النّصحية " ــــ وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم . ويكثر إطلاق النّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضّر . وضدّه الغشّ . وأصل معناه أن يتعدّى إلى المفعول بنفسه ، ويكثر أن يُعدّى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدّلالة على أنّ النّاصح أراد من نصحه ذات المنصوح ، لا جلب خير لنفس النّاصح ، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنّها وقعت خالصة للمنصوح ، مقصوداً بها جانبه لا غير ، فربّ نصيحة ينتَفع بها النّاصح فيقصد النّفعين جميعاً ، وربّما يقع تفاوت بين النّفعين فيكون ترجيح نفع النّاصح تقصيراً أو إجحافاً بنفع المنصوح . وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم ، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم . وعقب ذلك بقوله { وأعلم من الله ما لا تعلمون } جمعاً لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييداً لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم ، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم ، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك ، فجاء بهذا الكلام الجامع ، ويتضمّن هذا الإجمالُ البديعُ تهديداً لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل ، وتنبيهاً للتّأمّل فيما أتاهم به ، وفتحاً لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه ، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبولِ ما جاءهم به . و { من } ابتدائية أي صار لي علم وارد من الله تعالى ، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يُسلِّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح ، وتلك هي أحواله ، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين ، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم . وانتقَل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قولَه { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } مفتتحاً الجملةَ بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف ، وهذا مشعر بأنّهم أحالوا أن يكون رسولاً ، مستدلّين بأنّه بشر مثلهم ، كما وقعت حكايته في آية أخرى { ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم } المؤمنون 24 . واختير الاستفهام دون أن يقول لا عَجب ، إشارة إلى أنّ احتمال وقوع ذلك منهم ممّا يتردّد فيه ظن العاقل بالعقلاء . فقولهّ { أو عجبتم } بمنزلة المنع لقضية قولهم { إنا لَنَراك في ضلالٍ مبين } الأعراف 60 لأنّ قولهم ذلك بمنزلة مقدمةِ دليل على بطلان ما يدعوهم إليه . وحقيقة العَجَب أنّه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوففٍ ، وقد يكون العجب مشوباً بإنكار الشّيء المتعجب منه واستبعاده واحالته ، كما في قوله تعالى { بل عَجِبُوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً ذلك رَجْع بعيد } ق 2 ، 3 وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى { وإنْ تَعْجَب فَعَجَبٌ قولهم أإذا كنا تراباً إنَّا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربّهم } الرعد 5 والذي في هذه الآية كناية عن الإنكار كما في قوله تعالى { قالوا أتَعْجَبين من أمر الله } هود 73 أنكروا عليها أنّها عدت ولادتها ولَدا ، وهي عَجوز ، مُحالاً . وتنكير { ذِكْرٌ } و { رَجُلٍ } للنّوعية إذ لا خصوصية لذِكْر دون ذِكْر ولا لِرَجُل دون رَجل ، فإنّ النّاس سواء ، والذّكْر سواء في قبوله لمن وفقه الله ورده لمن حُرم التّوفيقَ ، أي هذا الحدث الذي عظمتموه وضجِجتم له ما هو إلاّ ذِكْر من ربّكم على رَجُل منكم . ووصْفُ { رجل } بأنّه منهم ، أي من جنسهم البشري فضحٌ لشبهتهم ، ومع ما في هذا الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضاً ردّ لها بأنّهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استِبْعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان ، إذ الشأن أن ينظروا في الذّكر الذي جاءهم من ربّهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به ، وأن يعلموا أن كونَ المُذَكِّر رجلاً منهم أقربُ إلى التّعقّل من كون مُذكِّرِهم من جنس آخر من مَلَك أو جِنِّي ، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل ، وهو يتنزّل منزلة سَنَد المنع في علم الجدل . ومعنى على من قوله { على رجل منكم } يشعر بأنّ { جاءكم } ضُمّن معنى نَزل أي نزل ذكر من ربّكم على رجل منكم ، وهذا مختار ابن عطيّة ، وعن الفرّاء أنّ على بمعنى مع . والمجرور في قوله { لينذركم } ظرف مستقر في موضع الحال من رجل ، أو هو ظرف لَغو متعلّق بقوله { جاءكم } وهو زيادة في تشويه خَطَئهم إذ جعلوا ذلك ضلالاً مبيناً ، وإنّما هو هدى واضح لفائدتكم بتحذيركم من العقوبة ، وإرشادكم إلى تقوى الله ، وتقريبكم من رحمته . وقد رُتّبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود ، فإنّ الإنذار مقدّم لأنّه حَمْلٌ على الإقلاع عمّا هم عليه من الشّرك أو الوثنية ، ثمّ يحصل بعده العمل الصّالح فتُرجى منه الرّحمة . والإنذار تقدّم عند قوله تعالى { إنَّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونَذيراً } في سورة البقرة 119 . والتّقوى تقدّم عند قوله تعالى { هدى للمتّقين } في أوّل سورة البقرة 2 . ومعنى لعلّ تقدّم في قوله تعالى { لعلّكم تتّقون } في سورة البقرة 21 . والرّحمة تقدّمت عند قوله تعالى { الرحمٰن الرّحيم } في سورة الفاتحة 3 .