Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 45-46)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمّا عرّفهم الله بنعمه ودلائل عنايته ، وكشف لهم عن سرّ من أسرار نصره إيّاهم ، وكيف خذل أعداءهم ، وصرفهم عن أذاهم ، فاستتبَّ لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم ، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيءّ لهم النصر في المواقع كلّها ، ويستدعي عناية الله بهم وتأييدَه إيّاهم ، فجمع لهم في هذه الآية ما به قِوام النصر في الحروب . وهذه الجمل معترضة بين جملة { وإذ يريكموهم } الأنفال 44 وجملة { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } الأنفال 48 . وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتماماً بها ، وجُعل طريق تعريف المنادى طريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى ، لأنّ ذلك أخصّ صفاتهم تلقاءَ أوامر الله تعالى ، كما قال تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } النور 51 . واللقاء أصله مصادفة الشخص ومواجهته ، باجتماع في مكان واحد ، كما تقدّم عند قوله تعالى { فتلقى آدم من ربه كلمات } البقرة 37 وقوله { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة البقرة 223 . وقد غلب إطلاقه على لقاء خاصّ وهو لقاء القتال ، فيرادف القتال والنزال . وقد تقدم اللقاء قريباً في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا } الأنفال 15 وبهذا المعنى تعيّن أنّ المراد بالفئة فئة خاصّة وهي فئة العدوّ ، يعني المشركين . و « الفئة » الجماعة من الناس ، وقد تقدّم اشتقاقها عند قوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } في سورة البقرة 249 . وذكِر الله ، المأمور به هنا هو ذكره باللسان ، لأنّه يتضمّن ذكر القلب ، وزيادة فإنّه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه ، وسَمِع الذكرَ بسمعه ، وذكَّر مَن يليه بذلك الذّكر ، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرّد ، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهرُ وصفهِ بـ " كثير " لأنّ الذكر بالقلب يوصف بالقوة ، والمقصود تذكر أنّه الناصر . وهذان أمران أمروا بهما وهما يَخصّان المجاهد في نفسه ، ولذلك قال { لعلكم تفلحون } . فهما لإصلاح الأفراد ، ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم ، وهي علائق بعضهم مع بعض ، وهي الطاعة وترك التنازع ، فأمّا طاعة الله ورسوله فتشمل اتّباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين ، مثل الغنائم . وكذلك ما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من آراء الحرب ، كقوله للرُّماة يوم أحد " لا تبرحوا من مكانكم ولو تَخَطَّفَنَا الطيرُ " وتشمل طاعةُ الرسول عليه الصلاة والسلام طاعةَ أمرائه في حياته ، لقوله " ومن أطاع أميري فقد أطاعني " وتشمل طاعة أمراء الجيوش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمساواتهم لأمرائه الغائبين عنه في الغزوات والسرايا في حكم الغَيبة عن شخصه . وأمّا النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك بالتفاهم والتشاور ، ومراجعة بعضهم بعضاً ، حتّى يصدروا عن رأي واحد ، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم لقوله تعالى { ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } النساء 83 . وقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } النساء 59 . والنهي عن التنازع أعّم من الأمر بالطاعة لوُلاَة الأمور لأنّهم إذا نهوا عن التنازع بينهم ، فالتنازع مع ولي الأمر أَوْلَى بالنهي . ولمّا كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء ، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسَطَ القرآن القولَ فيه ببيان سيّىءِ آثاره ، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله { فتفشلوا وتذهب ريحكم } فحذّرهم أمرين معلوماً سوءُ مَغبتهما وهما الفشلَ وذهاب الريح . والفشل انحطاط القوة وقد تقدّم آنفاً عند قوله { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } الأنفال 43 وهو هنا مراد به حقيقة الفشل في خصوص القتال ومدافعة العدوّ ، ويصحّ أن يكون تمثيلاً لحال المتقاعس عن القتال بحال من خارت قوته وفشلت أعضاؤه ، في انعدام إقدامه على العمل . وإنّما كان التنازع مفضياً إلى الفشل لأنّه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم ، ويحدث فيهم أن يتربّص بعضهم ببعض الدوائرَ ، فيَحدث في نفوسهم الإشتغال باتّقاء بعضهم بعضاً ، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال ، فيصرف الأمّة عن التوجّه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم ، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم ، فيتمكّن منهم العدوّ ، كما قال في سورة آل عمران 152 { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم } والريح حقيقتها تحرّك الهواء وتموّجه ، واستعيرت هنا للغلبة ، وأحسب أنّ وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أنّ الريح لا يمانع جَريها ولا عملَها شيء فشبه بها الغلب والحكم وأنشد ابن عطية ، لعَبيد بن الأبرص @ كما حميناك يوم النعب من شطب والفضل للقوم من ريح ومن عدد @@ وفي الكشّاف قال سليك بن السلكة @ يا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَ حيَّ بالوادي إلاّ عبيدٌ قعودٌ بين أذواد هل تنظران قليلاً ريثَ غفلتهم أو تعدوان فإنّ الريح للعادي @@ وقال الحريري ، في ديباجة « المقامات » « قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدَت في هذا العصر ريحه » . والمعنى وتَزولَ قوتكم ونفوذُ أمركم ، وذلك لأنّ التنازع يفضي إلى التفرّق ، وهو يوهن أمر الأمّة ، كما تقدّم في معنى الفشل . ثم أمرهم الله بشيء يعمّ نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه ، ويسهل عليهم الأمور الأربعة ، التي أمروا بها آنفاً في قوله { فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } وفي قوله { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } الآية . ألاَ وهو الصبر ، فقال { واصبروا } لأنّ الصبر هو تحمّل المكروه ، وما هو شديد على النفس ، وتلك المأمورات كلّها تحتاج إلى تحمّل المكاره ، فالصبر يجمع تحمّل الشدائد والمصاعب ، ولذلك كان قوله { واصبروا } بمنزلة التذييل . وقوله { إن الله مع الصابرين } إيماء إلى منفعة للصبرِ إلهيةٍ ، وهي إعانة الله لمن صبر امتثالاً لأمره ، وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها . وجملة { إن الله مع الصابرين } قائمة مقام التعليل للأمر ، لأنّ حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع ، كما تقدّم في مواضع .