Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 69-69)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قيل هذا الخطاب التفات ، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين ، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة ، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأنّ آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة ، وأن يحقّ عليهم الخسران . فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دلّ عليه ضمير الخطاب ، تقديره أنتم كالذين من قبلكم ، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدّر ، أي فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، فهو في موضع المفعول المطلق الدالّ على فعله ، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب @ حتّى إذا الكلاَّب قال لها كاليومِ مطلوباً ولا طالِبا @@ أراد لم أر كاليوم ، إلاّ أنّ عامل النصب مختلف بين الآية والبيت . وقيل هذا من بقية المَقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قوله { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } التوبة 65 الآية . فيكون ما بينهما اعتراضاً بقوله { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } التوبة 67 إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار . والإتيان بالموصول لأنّه أشمل وأجمع للأمم التي تقدّمت مثل عاد وثمود ممّن ضرب العرب بهم المثل في القوة . و { أشَدّ } معناه أقوى ، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } فصلت 15 أو يُراد بها العزّة وعُدّة الغلب باستكمال العَدد والعُدد ، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز الــــ { أشد } كما أوقعت مضافاً إليه شديد في قوله تعالى { علمه شديد القوى } النجم 5 . وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة منها طيب الأرض للزرع والغرس ورَعِي الأنعام والنحلِ ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم ، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر ، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضّة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات ، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت . وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس ، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان ، ومن حسن المُناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة ، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع . والاستمتاع التمتّع ، وهو نوال أحدٍ المتاعَ الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدّم عند قوله تعالى { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف 24 . والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتّع . والخلاق الحَظ من الخير وقد تقدّم عند قوله تعالى { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق } في سورة البقرة 200 . وتفرّع فاستمتعوا بخلاقهم على { كانوا أشد } لأنّ المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي . وتفرَّع { فاستمتعتم بخلاقكم } على ما أفاده حرف الكاف بقوله { كالذين من قبلكم } من معنى التشبيه ، ولذلك لم تعطف جملة { فاستمتعتم } بواو العطف ، فإنّ هذه الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرّع عليه ، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة { فاستمتعوا بخلاقهم } لولا قصد الموعظة بالفريقين المشبّهِ بهم ، والمشبّهين ، في إعراض كليهما عن أخذ العدّة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتّع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين ، قصداً للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الاطناب ولو اقتصر على قوله { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } ولم يذكر قبله { فاستمتعوا بخلاقهم } لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين . ولذلك لمّا تقرّر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله { وخضتم كالذي خاضوا } . وقوله { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } تأكيد للتشبيه الواقع في قوله { كالذين من قبلكم } ــــ إلى قوله ــــ { فاستمتعتم بخلاقكم } للتنبيه على أنّ ذلك الجزء بخصوصه ، من بين الحالة المشبهةِ والحالةِ المشبه بها ، هو محلّ الموعظة والتذكير ، فلا يغرّهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج ، فقدّم قوله { فاستمتعوا بخلاقهم } وأتى بقوله { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } مؤكِّداً له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير ، ليتأتى التأكيد ، ولأنّ تقديم ما يتمّم تصوير الحالة المشبّه بها المركّبة ، قبل إيقاع التشبيه ، أشدّ تمكيناً لمعنى المشابهة عند السامع . وقوله { كالذي خاضوا } تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله { ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } التوبة 65 ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له . أي وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك ، فأنتم وهم سواء ، فيوشك أن يَحيق بكم ما حاق بهم ، وكلامنا في هذين التشبيهين أدقّ ما كتب فيهما . و { الذي } اسم موصول ، مفرد ، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعيّن أن يكون المراد بــــ { الذي } تأويله بالفريق أو الجَمْع ، ويجوز أن يكون { الذي } هنا أصله الذين فخُفّف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي @ وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هُم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالد @@ ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصّاً بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق عندهم على الآية ، ونحاة الكوفة يجوزّونه ولو لم تطل الصلة ، كما في الآية ، وقد ادّعى الفرّاء أنّ { الذي } يكون موصولاً حرفياً مؤوّلاً بالمصدر ، واستشهد له بهذه الآية ، وهو ضعيف . ولمّا وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنّهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم ، فقال تعالى { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } وفيه تعريض بأنّ الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك ، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم . والخوض تقدّمت الحوالة على معرفته آنفاً . والحبط الزوال والبطلان ، وتقدّم في قوله تعالى { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في سورة البقرة 217 . والمراد بأعمالهم ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما ، ومعنى حبْطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم ، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم ، كقوله تعالى { ونرثه ما يقول } مريم 80 ــــ أي في الدنيا ــــ { ويأتينا فرداً } مريم 80 ــــ أي في الآخرة ـــ لا مال له ولا ولد ، كقوله { ما أغنى عنّي ماليه هلك عني سلطانيه } الحاقة 28 ، 29 . وفي هذا كلّه تذكرة للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنْ لا يظنّوا أن الله لمّا أمهل المنافقين قد عفا عنهم . ولمّا كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلاً خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله { وأولئك هم الخاسرون } قصراً مقصوداً به المبالغة . وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدّث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع .