Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 103, Ayat: 1-2)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

العصر : اسم للزمن كله أو جزء منه . ولذا اختلف في المراد منه ، حيث لم يبين هنا . فقيل : هو الدهر كله ، أقسم الله به لما فيه من العجائب ، أمة تذهب وأمة تأتي ، وقدر ينفذ ، وآية تظهر ، وهو لا يتغير ، ليل يعقبه نهار ، ونهار يطرده ليل ، فهو في نفسه عجب . كما قيل : موجود شبيه المعدوم ، ومتحرك يضاهي الساكن . كما قيل : @ وأرى الزمان سفينة تجري بنا نحو المنون ولا نرى حركاته @@ فهو في نفسه آية ، سواء في ماضيه لا يعلم متى كان ، أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي ، أو في مستقبله . واستدل لهذا القول بما جاء موقوفاً على علي رضي الله عنه ، ومرفوعاً من قراءة شاذة : والعصر ونوائب الدهر . وحمل على التفسير إذ لم يصح قرآناً ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس . وعليه قول الشاعر : @ سبيل الهوى وعر ، وبحر الهوى غمر ويوم الهوى شهر ، وشهر الهوى دهر @@ وقيل العصر : الليل والنهار . قال حميد بن ثور : @ ولم يلبث العصران يوم ليلة إذا طلبا أن يدركا ما يتمما @@ والعصران : أيضاً الغداة العشي . كما قيل : @ وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم @@ والمطل : التسويف وتأخير الدين . كما قيل : @ قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها @@ وقيل : إن العشي ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ، وهو قول الحسن وقتادة . ومنه قول الشاعر : @ تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر @@ وعن قتادة أيضاً : هو آخر ساعة من ساعات النهار ، لتعظيم اليمين فيه ، وللقسم بالفجر والضحى . وقيل : هو صلاة العصر لكونها الوسطى . وقيل : عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته ، لأنه يشبه عصر عمر الدنيا . والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان : إما العموم بمعنى الدهر للقراءة الشاذة ، إذ أقل درجاتها التفسير ، ولأنه يشمل بعمومه بقية الأقوال . وإما عصر الإنسان أي عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران لإشعار السياق ، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعاً . ويرجع لهذا المعنى ما يكتنف هذه السورة من سور التكاثر قبلها ، والهمزة بعدها ، إذ الأولى تذم هذا التلهي والتكاثر بالمال والولد ، حتى زيارة المقابر بالموت ، ومحل ذلك هو حياة الإنسان . وسورة الهمزة في نفس المعنى تقريباً ، في الذي جمع مالاً وعدده ، يحسب أن ماله أخلده . فجمع المال وتعداده في حياة الإنسان وحياته محدودة ، وليس مخلداً في الدنيا ، كما أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان . وعليه ، فإما أن يكون المراد بالعصر في هذه السورة العموم لشموله الجميع وللقراءة الشاذة ، وهذا أقواها . وإما حياة الإنسان ، لأنه ألزم له في عمله ، وتكون كل الإطلاقات الأخرى من إطلاق الكل ، وإرادة البعض ، والله تعالى أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } . لفظ الإنسان وإن كان منفرداً ، فإن أل فيه جعلته للجنس . وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، وتقدم التنبيه عليه مراراً ، فهو شامل للمسلم والكافر ، إلا من استثنى الله تعالى . وقيل : خاص بالكافر ، والأول أرجح للعموم . وإن الإنسان لفي خسر ، جواب القسم ، والخسر : قيل : هو الغبن ، وقيل : النقص : وقيل ، العقوبة ، وقيل : الهلكة ، والكل متقارب . وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ، النقص من رأس المال ، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ، بل أطلق ليعم ، وجاء بحرف الظرفية ، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة . ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها ، لا تضّح هذا العموم ، لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور : عدم الإيمان وهو الكفر ، وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد ، وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية أو التواصي بالباطل ، وعدم التواصي بالصبر ، وهو إما انعدام التواصي كلية أو الهلع والجزع . والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد ، بغية الغنى والتكثر فيه ، وضده ضياع المال والولد وهو الخسران . فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر ، وفي الإسلام وهو ترك العمل ، وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح والتلهي في الباطل وترك الحق ، وفي الهلع والفزع . ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه ، وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله كالآتي : أما الخسران بالكفر . فكما في قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الزمر : 65 ] . وقوله : { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 31 ] ، أي لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء ، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم ، وحظهم في الآخرة . وأما الخسران بترك العمل ، فكما في قوله تعالى : { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم } [ الأعراف : 9 ] ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] . ومثله : { وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } [ النساء : 119 ] ، لأنه سيكون من حزب الشيطان { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } [ المجادلة : 19 ] ، أي بطاعتهم إياه في معصية الله . وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا بالضلال ، والحق هو الإسلام بكامله ، وقد نال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] . وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع ، فكما قال تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآُخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] . تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره . كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا ، فهي له كالسوق . فإن أعمله في خير ربح ، وإن أعمله في شر خسر . ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] . وقوله : { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الصف : 10 - 11 ] الآية . وفي الحديث عند مسلم : " الطهور شطر الإيمان " . وفي آخره " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره . ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ } [ فاطر : 37 ] . وعلى هذا قالوا : إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى . وهدى كل إنسان النجدين ، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار . فمن آمن وعمل صالحاً كان مآله إلى منزلة الجنة ، وسلم من منزلة النار ، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار ، وترك منزلته في الجنة . كما جاء في حديث القبر " أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمناً يفتح له باب إلى النار ، ويقال له : ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له : هذا منزلك يوم تقوم الساعة ، فيقول : رب ، أقم الساعة " . وإن كان كافراً كان على العكس تماماً ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيأخذ كل منزلته فيها ، وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية فيتوارثها أهل الجنة ، وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية ، فتوزع على أهل النار ، وهنا يظهر الخسران المبين ، لأنه من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار ، فهو بلا شك خاسر ، وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلاً منها منزلة غيره في النار ، كان هو الخسران المبين ، عياذاً بالله . أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين ، فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يُحسّ بالخسران في القوت الذي فرط فيه ، ولم يناقش في فعل الخير ، لينال أعلى الدرجات . فهذه السورة فعلاً دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح ، ودرجات الجنة رفيعة ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ، فإن أمامه مجال للكسب والربح ، نسأل الله التوفيق والفلاح . وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزيناً ، فإن كان مسيئاً فعلى إساءته ، وإن كان محسناً فلتقصيره ، وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] . فالخوف من المستقبل أمامهم ، والحزن على الماضي خلفهم ، والله تعالى أعلم . ويبين خطر هذه المسألة : أن الإنسان إذا كان في آخر عمره ، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة ، وأراد زيادة يوم فيها ، يتزوّد منها أو ساعة وجيزة يستدرك بعضاً مما فاته ، لم يستطع لذلك سبيلاً ، فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة ، كان من الممكن أن تكون مربحة له ، وفي الحديث الصحيح : " نعمتان مغبون فيهما الإنسان : الصحة والفراغ " . أي أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة ، فيفوتان عليه بدون عوض يذكر ثم يندم ، ولات حين مندم . كما قيل في ذلك : @ بدلت جمة برأس أزعرا وبالثنايا البيض الدر دررا كما اشترى المسلم إذ تنصرا @@ تنبيه في سورة التكاثر تقبيح التلهي بالتكاثر بالمال والولد ونحوه ، ثم الإشعار بأنه سببه الجهل ، لأنهم لو كانوا يعلمون علم اليقين لما ألهاهم ذلك حتى باغتهم الموت . وهنا إشعار أيضاً بأن سبب هذا الخسران الذي يقع فيه الإنسان ، هو الجهل الذي يجر إلى الكفر والتمادي في الباطل ، ويساعد على هذا قسوة القلب ، وطول الأمد . كما قال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] . تنبيه آخر قوله تعالى : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ، نص على الإنسان على ما تقدم وقد جاءت آية أخرى تدل على أن الجن كالإنس في قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } [ الأحقاف : 18 ] . وتقدم بيان تكليف الجن بالدعوة واستجابتهم لها . والدعوة إليها .