Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 28-28)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ } . أي الاستسلام والخضوع . والمعنى أظهروا كمال الطاعة والانقياد ، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق . وذلك عندما يعاينون الموت ، أو يوم القيامة . يعنى أنهم في الدنيا يشاقون الرسل أي يخالفونهم ويعادونهم ، فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم أي خضعوا واستسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم ذلك . ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم الخضوع والاستسلام قوله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } النساء 94 على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام . بمعنى الانقياد والإذعان . وقوله { فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ } النساء 90 ، وقوله { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ } النساء 91 الآية . والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين الصلح والمهادنة لا ينافي ما ذكرنا . لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق عليه من ترك السوء . وقوله { وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } النحل 87 فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد . والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع ، كما قدمنا ، وكما دلت عليه آيات كثيرة . كقوله { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ } النساء 18 الآية ، وقوله { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } غافر 85 الآية ، وقوله { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } يونس 91 ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون } . يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وقالوا ما كنا نعمل من سوء . فقوله { ما كنا نعمل من سوء } معمول قول محذوف بلا خلاف . والمعنى أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء ، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي . وقد بين الله كذبهم بقوله { بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . وبين في مواضع أخر أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا . وبين كذبهم في ذلك أيضاً . كقوله { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } الأنعام 23 - 24 ، وقوله { قَـالُواْ ضَـلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلْكَافِرِينَ } غافر 74 . وقوله { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } المجادلة 18 ، وقوله { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } الفرقان 22 أي حراماً محرماً أن تمسونا بسوء . لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله هنا { بلى } تكذيب لهم في قولهم { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ } . تنبيه لفظة " بلى " لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين لا ثالث لهما الأول - أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام ، فهي نقيضة " لا " . لأن " لا " لنفي الإثبات ، و " بلى " لنفي النفي . كقوله هنا { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ } فهذا النفي نفته لفظة " بلى " أي كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي . وكقوله { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } التغابن 7 ، وكقوله { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } سبأ 3 وقوله { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } البقرة 111 فإنه نفى هذا النفي بقوله جل وعلا { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } البقرة 112 الآية ، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب . الثاني - أن تكون جواباً لاستفهام مقترن بنفي خاصة . كقوله { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } الأعراف 172 وقوله { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ } يس 81 ، وقوله { قَالُوۤاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَىٰ } غافر 50 ، وهذا أيضاً كثير في القرآن وفي كلام العرب . أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه بـ " نعم " لا بـ " بلى " وجواب الاستفهام المقترن بنفي و " نعم " مسموع غير قياسي . كقوله @ أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك لنا تداني نعم ، وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني @@ فالمحل لـ " بلى " لا لـ " نعم " في هذا البيت . فإن قيل هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي ، كقوله عنهم { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } الأنعام 23 ، وقوله { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ } ، ونحو ذلك . مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثاً في قوله { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } النساء 42 . فالجواب - هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم والله ربنا ما كنا مشركين . فيختم الله على أفواههم . وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون . فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة . وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم . والعلم عند الله تعالى .