Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 52-53)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } . الدين هنا الطاعة . ومنه سميت أوامر الله ونواهيه ديناً . كقول { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } آل عمران 19 ، وقوله { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً } المائدة 3 ، وقوله { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } آل عمران 85 . والمراد بالدين في الآيات طاعة الله بامتثال جميع الأوامر ، واجتناب جميع النواهي . ومن الدين بمعنى الطاعة قول عمرو بن كلثوم في معلقته @ وأياماً لنا غراً كراماً عصينا الملك فيها أن ندينا @@ أي عصيناه وامتنعنا أن ندين له ، أي نطيعه . وقوله { واصباً } أي دائماً . أي له جلَّ وعلا الطاعة والذل والخضوع دائماً . لأنه لا يضعف سلطانه ، ولا يعزل عن سلطانه ، ولا يموت ولا يغلب ، ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا . فإن الواحد منهم يكون مطاعاً له السلطنة والحكم ، والناس يخافونه ويطمعون فيما عنده برهة من الزمن ، ثم يعزل أو يموت ، أو يذل بعد عز ، ويتضع بعد رفعة . فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد . فسبحان من لم يتخذ ولداً ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيراً . وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه جل وعلا في مواضع أخر . كقوله { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } آل عمران 26 ، وقوله { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } الواقعة 3 لأنها ترفع أقواماً كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا ، وتخفض أقواماً كانوا ملوكاً في الدنيا ، لهم المكانة الرفيعة0 وقوله { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } غافر 16 . ونظير هذه الآية المذكورة قوله { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } الصافات 8 - 9 أي دائم . وقيل عذاب " موجع مؤلم " والعرب تطلق الوصب على المرض ، وتطلق الوصب على الدوام . وروي عن ابن عباس أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } قال له الوصب الدائم ، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي @ وله الدين واصباً وله الملـ ك وحمد له على كل حال @@ ومنه قول الدؤلي @ لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوماً بذم الدهر أجمع واصباً @@ وممن قال بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة وميمون بن مهران ، والسدي وقتادة ، والحسن والضحاك ، وغيرهم . وروي عن ابن عباس أيضاً واصباً أي واجباً . وعن مجاهد أيضاً واصباً أي خالصاً . وعلى قول مجاهد هذا ، فالخبر بمعنى الإنشاء . أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئاً ، وأخلصوا لي الطاعة - وعليه فالآية كقوله { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } آل عمران 83 ، وقوله { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } الزمر 3 ، وقوله { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } البينة 5 وقوله " واصباً " حال عمل فيه الظرف . وقوله تعالى { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } . أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره ، لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا من بيده النفع كله والضر كله . لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك ، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك . وقد أشار تعالى هنا إلى أن إنكار اتقاء غير الله ، لأجل أن الله هو الذي يرجى منه النفع ، ويخشى منه الضر ، ولذلك أتبع قوله { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } بقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } النحل53 ومعنى تجأرون ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد . ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة @ فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا @@ وقول الأعشى @ يراوح من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا @@ ومنه قوله تعالى { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } المؤمنون 64 - 65 قد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر . كقوله { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } الأنعام 17 ، وقوله { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } يونس 107 الآية ، وقوله { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } فاطر 2 الآية ، وقوله { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا } التوبة 51 الآية ، وقوله { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } الزمر 38 الآية ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " الَّلهمَّ لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ " وفي حديث ابن عباس المشهور " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " .