Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 13-14)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في قوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ } وجهان معروفان من التفسير الأول - أن المراد بالطائر العمل من قولهم طار له سهم إذا خرج له . اي ألزمناه ما طار له من عمله . الثاني - أن المراد بالطائر ماسبق له في علم الله من شقاوة أوسعادة . والقولان متلازمان . لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة . فإذا عرفت الوجهين المذكورين فاعلم - أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها للعلماء قولان أو أقوال ، وكلها حق ، ويشهد له قرآن - فنذكر جميع الأقوال وأدلتها من القرآن . لأنها كلها حق ، والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما يشهد له قرآن . أما على القول الأول بأن المراد بطائره عمله - فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جداً . كقوله تعالى { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } النساء123 الآية ، وقوله { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } الطور16 ، وقوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } الانشقاق6 ، وقوله { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } فصلت46 ، وقوله { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } الزلزلة7و8 . والآيات بمثل هذا كثيرة جداً . وأما على القول بأن المراد بطائره نصيبه الذي طار له في الأزل من الشقاوة أو السعادة - فالآيات الدالة على ذلك أيضاً كثيرة ، كقوله { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } التغابن2 ، وقوله { وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُم } هود119 أي للاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم . وقوله { فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } الأعراف30 ، وقوله { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } الشورى7 ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { في عنقه } أي جعلنا عمله أو ما سبق من شقاوة في عنقه . أي لازماً له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه . ومنه قول العرب تقلدها طوق الحمامة . وقولهم الموت في الرقاب . وهذا الأمر ربقة في رقبته . ومنه قول الشاعر @ اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامه @@ فالمعنى في ذلك كله اللزوم وعدم الانفكاك . وقوله جلًّ وعلا في هذه الآية الكريمة { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة مكتوباً في كتاب يلقاه منشوراً ، أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره . وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشوراً في آيات أخر . فبين أن من صفاته أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه ، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضراً ليس منه شيء غائباً ، وأن الله جلَّ وعلا لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئاً . وذلك في قوله جلَّ وعلا { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } الكهف49 . وبين في موضع آخر أن بعض الناس يؤتى هذا الكتاب بيمينه - جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم . وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حساباً يسيراً ، ويرجع إلى أهله مسروراً ، وأنه في عيشة راضية ، في جنة عالية ، قطوفها دانية . قال تعالى { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } الانشقاق7 - 9 ، وقال تعالى { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } الحاقة19 - 23 . وبين في موضع آخر أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته ، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم ، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعاً . وذلك في قوله { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } الحاقة25 - 32 أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من النار ، ومما قرب إليها من قوله وعمل . وبين في موضع آخر أن من أوتي كتابي وراء ظهره يصلى السعير ، ويدعو الثبور . وذلك في قوله { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } الانشقاق10 - 12 ، وقوله تعالى { ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } الإسراء14 يعني أن نفسه تعلم أنه لم يظلم ، ولم يكتب عليه إلا ما عمل . لأنه في ذلك الوقت يتذكر كل ما عمل في الدنيا من أول عمره إلى آخره . كما قال تعالى { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } القيامة13 . وقد بين تعالى في مواضع أخر أنه إن أنكر شيئاً من عمله شهدت عليه جوارحه . كقوله تعالى { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يس65 ، وقوله { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } فصلت31 - 32 ، وقوله جلَّ وعلا { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } القيامة14 - 15 ، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة القيامة . تنبيه لفظة " كفى " تستعمل في القرآن واللغة العربية استعمالين تستعمل متعدية ، وهي تتعدى غالباً إلى مفعولين ، وفاعل هذه المتعدية لا يجر بالباء . كقوله { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } الأحزاب25 ، وكقوله { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } الزمر36 الآية ، وقوله { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّه } البقرة137 الآية ، ونحو ذلك من الآيات . وتستعمل لازمة ، ويطرد جر فاعلها بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية . كقَوْله في هذه الآية الكريمة { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } الإسراء14 ، وقوله تعالى { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } الأحزاب3و48 ، وقوله { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } النساء6 ونحو ذلك . ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء . وزعم بعض علماء العربية أن جر فاعلها بالباء لازم . والحق أنه يجوز عدم جره بها ، ومنه قول الشاعر @ عميرة ودع إن تجهزت غاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا @@ وقول الآخر @ ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا @@ وعلى قراءة من قرأ { يلَقَّاه } بضم الياء وتشديد القاف مبنياً للمفعول - فالمعنى أن الله يلقيه ذلك الكتاب يوم القيامة . فحذف الفاعل فبني الفعل للمفعول . وقراءة من قرأ { يَخْرج } بفتح الياء وضم الراء مضارع خرج مبنياً للفاعل - فالفاعل ضمير يعود إلى الطائر بمعنى العمل وقوله { كتاباً } حال من ضمير الفاعل . أي ويوم القيامة يخرج هو أي العمل المعبر عنه بالطائر في حال كونه كتاباً منشوراً . وكذلك على قراءة { يخرج } بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول ، فالضمير النائب عن الفاعل راجع أيضاً إلى الطائر الذي هو العمل . أي يخرج له هو أي طائره بمعنى عمله ، في حال كونه كتاباً . وعلى قراءة " يخرج " بضم الياء وكسر الراء مبنياً للفاعل ، فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى ، وقوله { كتاباً } مفعول به . أي ويوم القيامة يخرج هو أي الله له كتاباً يلقاه منشوراً . وعلى قراءة الجمهور منهم السبعة - فالنون في { نخرج } نون العظمة لمطابقة قوله { ألزمناه } و { كتاباً } مفعول به لنخرج كما هو واضح . والعلم عند الله تعالى .