Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 16-16)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في معنى قوله { أّمرنا مترفيها } في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير الأول - وهو الصواب الذي يشهد له القرآن ، وعليه جمهور العلماء - أن الأمر في قوله { أمرنا } هو الأمر الذي هو ضد النهي ، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره . والمعنى { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } بطاعة الله وتوحيده ، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به { فَفَسَقُواْ } اي خرجوا عن طاعة أمر ربهم ، وعصوه وكذبوا رسله { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } اي وجب عليها الوعيد { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } أي أهلكناها إهلاكاً مستاصلا . وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم . وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة . كقوله { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } الأعراف28 الآية . فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أنه قوله { أمرنا مترفيها ففسقوا } أي أمرناهم بالطاعة فعصوا . وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا . لأن الله لا يأمر بالفحشاء . ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } سبأ34 - 35 . فقوله في هذه الآية { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } الآية . لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم إنا بما أرسلتم به كافرون ، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم . والآيات بمثل ذلك كثيرة . وبهذا التحقيق تعلم أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أي أمرناهم بالفسق ففسقوا . وأن هذا مجاز تنزيلاً لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك - كلام كله ظاهر السقوط والبطلان . وقد اوضح إبطاله أبو حيان في " البحر " ، والرازي في تفسيره ، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه . وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف ، من قولهم أمرته فعصاني . اي أمرته بالطاعة فعصى . وليس المعنى امرته بالعصيان كما لا يخفى . القول الثاني في الآية - هو أن الأمر في قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا امر كوني قدري ، اي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له . لأن كلاً ميسر لما خلق له . والأمر الكوني القدري كقوله { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } القمر50 ، وقوله { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } الأعراف166 ، وقوله { أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } يونس24 ، وقوله { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } يس82 . القول الثالث في الآية - أن " أمَرْنَا " بمعنى أكثرنا . أي أكثرنا مترفيها ففسقوا وقال أبو عبيدة { أمرنا } بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد . ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " خير مال امرىء مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة " . قال ابن كثير قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب المأمورة كثيرة النسل . والسكة الطريقة المصطفة من النخل . والمأبورة من التأبير ، وهو تعليق طلع الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها . ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجرداً عن الزوائد ، متعد بنفسه إلى المفعول . فيتضح كون أمره بمعنى أكثر . وأنكر غير واحد تعدى أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول وقالوا حديث سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الأزدواج ، كقولهم الغدايا والعشايا ، وكحديث " ارجعن مأزورات غير مأجورات " لأن الغدايا لا يجوز ، وإنما ساغ للازدواج مع العشايا ، وكذلك مازورات بالهمز فهو على غير الأصل . لأن المادة من الوزر بالواو . إلا أن الهمز في قوله " مأزورات " للازدواج مع " مأجورات " . والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم . وعليه فقوله " مأمورة " إتباع لقوله " مأبورة " وإن كان مذكوراً قبله للمناسبة بين اللفظين . وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة قوله تعالى { أمرنا } قرأ أبو عثمان النهدي ، وأبو رجاء ، وأبو العالية ، والربيع ، ومجاهد ، والحسن " أمرنا " بالتشديد . وهي قراءة علي رضي الله عنه . أي سلطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم . وقال أبو عثمان النهدي " أمَّرنا " بتشديد الميم جعلناهم أمراء مسلطين . وقاله ابن عزيز وتأمر عليهم تسلط عليهم . وقرأ الحسن أيضاً ، وقتادة ، و وأبو حيوة الشامي ، ويعقوب وخارجة عن نافع ، وحماد بن سلمة عن أبن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما " آمرنا " بالمد والتخفيف . أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها . قاله الكسائي . وقال أبو عبيدة " آمرته - بالمد - وأمرته لغتان بمعنى أكثرته . ومنه الحديث " خير المَال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " أي كثيرة النتاج والنسل . وكذلك قال ابن عزيز آمرنا وأمرنا بمعنى واحد . أي أكثرنا . وعن الحسن ايضاً ، ويحيى بن يعمر أمرنا - بالقصر وكسر الميم - على فعلنا ، ورويت عن ابن عباس . قال قتادة والحسن المعنى أكثرنا ، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد . وأنكره الكسائي وقال لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد ، وأصلها أأمرنا فخفف - حكاه المهدوي . وفي الصحاح قال أبو الحسن أمر ماله - بالكسر - أي كثر . وأمر القوم أي كثروا . قال الشاعر وهو الأعشى @ طرفون ولادون كل مبارك أمرون لا يرثون سهم القعدد @@ وآمر الله ماله - بالمد . الثعلبي ويقال للشيء الكثير أمر . والفعل منه أمر القوم يأمرون أمراً إذا كثروا . قال ابن مسعود كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا أمر أمر بني فلان قال لبيد @ كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوماً يصيروا للهلك والنكد @@ قلت وفي حديث هرقل الحديث الصحيح . لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك بني الأصفر . اي كثر . وكلها غير متعد ، ولذلك أنكره الكسائي . والله أعلم . قال المهدوي ومن قرأ أمر فهي لغة . ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة . فعدى كما عدى عمر - إلى أن قال وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء . لأن العرب تقول أمير غير مأمور ، اي غير مؤمر . وقيل معناه بعثنا مستكبريها . قال هارون وهي قراءة أبي بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها - ذكره الماوردي . وحكى النحاس وقال هارون في قراءة أبي وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول اهـ محل الغرض من كلام القرطبي . وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا . فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه . تنبيه في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال إن الله اسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } الإسراء16 مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } الإسراء16 يعني القرية ، ولم يستثن منها غير المترفين ؟ والجواب من وجهين الأول - أن غير المترفين تبع لهم . وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم . لأن غيرهم تبع لهم . كما قال تعالى { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } الأحزاب67 ، وكقوله { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } البقرة166 الآية ، وقوله { حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا } الأعراف38 الآية ، وقوله تعالى { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْء } إبراهيم21 . الآية ، وقوله { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّـارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْـبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ ٱلنَّارِ } غافر47 إلى غير ذلك من الآيات . الوجه الثاني - أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع . كماقال تعالى { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } الأنفال25 ، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها لما سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرٍّ قد اقتربْ ، فتح اليوم من ردم ياجوج ومأجوج مثل ، هذه " - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت له يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال " نعم ، إذا كثر الخبث " وقد قدمنا هذا المبحث موضحاً في سورة المائدة .