Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 64-64)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة هذا أمر قدري . كقوله تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } مريم83 أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً ، وتسوقهم إليها سوقاً انتهى . قال مقيدة عفا الله عنه الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله { وَٱسْتَفْزِزْ } ، وقوله { وَأَجْلِبْ ً } ، وقوله { وَشَارِكْهُمْ } إنما هي للتهديد ، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة . كقوله { إٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } فصلت40 وبهذا جزم أبو حيان " في البحر " ، وهو واضح كما ترى . وقوله { وَٱسْتَفْزِزْ } أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم . فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه . والاستفزاز الاستخفاف . ورجل فز أي خفيف . ومنه قيل لولد البقرة فز . لخفة حركته . ومنه قول زهير @ كما استغاث بسيىء فز غيطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك @@ " والسيىء " في بيت زهير بالسين المهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وآخره همز اللبن الذي يكون في أطراف الأخلاف قبل نزول الدرة . والحشك أصله السكون . لأنه مصدر حشكت الدرة إذا امتلأت ، وإنما حركه زهير للوزن . والغيطلة هنا بقرة الوحش ذات اللبن . وقوله { بِصَوْتِكَ } قال مجاهد هو اللهو والغناء والمزامير . أي استخف من استطعت أن تستخفه منهم باللهو والغناء والمزامير . وقال ابن عباس صوته يشمل كل داع دعا إلى معصية . لأن ذلك إنما وقع طاعة له . وقيل { بِصَوْتِكَ } أي وسوستك . وقوله { وَأَجْلِبْ } أصل الإجلاب السوق بجلبة من السائق . والجلبة الأصوات . تقول العرب أجلب على فرسه ، وجلب عليه إذا صاح به من خلف واستحثه للسبق . والخيل تطلق على نفس الأفراس ، وعلى الفوارس الراكبين عليها ، وهو المراد في الآية . والرجل جمع راجل ، كما قدمنا أن التحقيق جمع الفاعل وصفا على فعل بفتح فسكون وأوضحنا أمثلته بكثرة ، واخترنا أنه جمع موجود أغفله الصرفيون إذ ليست فعل بفتح فسكون عندهم من صيغ الجموع . فيقولون فيما ورد من ذلك كراجل ورجل ، وصاحب وصحب ، وراكب وركب ، وشارب وشرب - إنه اسم جمع لا جمع . وهو خلاف التحقيق . وقرأ حفص عن عاصم " ورجلك " بكسر الجيم لغة في الرجل جمع راجل . وقال الزمخشري هذه القراءة على أن فعلاً بمعنى فاعل ، نحو تعب وتاعب ومعناه وجمعك الرجل اهـ أي الماشيين على أرجلهم . { وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ } . أما مشاركته لهم في الأموال - فعلى أصناف منها - ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له . كالبحائر والسوائب ونحو ذلك ، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى ، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعاً كالربا والغصب وأنواع الخيانات . لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له . أما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضاً منها - قتلهم بعض أولادهم طاعة له . ومنها - أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة . ومنها - تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك ، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيداً لغير الله طاعة له . ومن ذلك أولاد الزنى . لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة طاعة له إلى غير ذلك . فإذا عرفت هذا - فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنته هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد ، كقوله { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } الأنعام140 فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته . وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضاً . وكقوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا } الأنعام136 الآية ، وكقوله { وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } الأنعام138 ، وقوله { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } يونس59 ، إلى غير ذلك من الآيات . ومن الأحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر - ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " ، وما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان " انتهى . فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم ، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم في الحديث الأول ، وضرها لهم لو تركوا التسمية في الحديث الثاني - كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم . وقوله " فاجتالتهم " أصله افتعل من الجولان أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال . يقال جال واجتال إذا ذهب وجاء ، ومنه الجولان في الحرب واجتال الشيء إذا ذهب به وساقه . والعلم عند الله تعالى . والأمر في قوله { وَعِدْهُمْ } كالأمر في قوله { وَٱسْتَفْزِزْ } ، وقوله { وَأَجْلِب } . وقد قدمنا أنه للتهديد . وقوله { وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل . كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى ، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة ، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة . وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر . كقوله { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } النساء120 ، وقوله { وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } الحديد14 ، وقوله { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } إبراهيم22 ، إلى غير ذلك من الآيات .