Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 55-55)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم ، وكلاهما تدل على مقتضاه آيات من كتاب الله تعالى ، وأحد الوجهين أظهر عندي من الآخر . الأول منهما - أن معنى الآية وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إذ جاءتهم الرسل بالبينات الواضحات ، إلا ما سبق في علمنا من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين أي سنتنا في إهلاكهم بالعذاب المستأصل . أو يأتيهم العذاب قبلاً . والظاهر أن " أو " في هذه الآية مانعة خلو ، فهي تجوز الجمع لإمكان إهلاكهم بالعذاب المستأصل في الدنيا كسنة الله في الأوبين من الكفار ، وإتيان العذاب إياهم يوم القيامة قبلاً . وعلى هذا القول فالآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جداً ، كقوله تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } يونس 96 - 97 ، وقوله { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } يونس 101 ، وقوله تعالى { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } النحل 37 ، وكقوله تعالى { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } المائدة41 . والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة . القول الثاني - أن في الآية الكريمة مضافاً محذوفاً ، تقديره وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلاً . والآيات الدالة على طلبهم الهلاك والعذاب عناداً وتعنتاً كثيرة جداً ، كقوله عن قوم شعيب { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } الشعراء 187 ، وكقوله عن قوم هود { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } الأحقاف 22 ، وكقوله عن قوم صالح { وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } الأعراف 77 وكقوله عن قوم لوط { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } العنكبوت 29 وكقوله عن قوم نوح { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } هود 32 . فهذه الآيات وأمثالها في القرآن - ذكر الله فيها شيئاً من سنة الأولين أنهم يطلبون تعجيل العذاب عناداً وتعنتاً . وبين تعالى أنه أهلك جميعهم بعذاب مستأصل ، كإهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة ، وقوم هود بالريح العقيم ، وقوم لوط بجعل عالي قراهم سافلها . وإرسال حجارة السجيل عليهم ، كما هو مفصل في الآيات القرآنية . وبين في آيات كثيرة أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم ، كقوله { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الأنفال 32 ، وقوله { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } ص 16 وأصل القط ، كتاب الملك الذي فيه الجائزة ، وصار يطلق على النصيب فمعنى { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي نصيبنا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك ، كالنصيب الذي يقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة ، ومنه قول الأعشى @ ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق @@ وقوله " يأفق " أي يفضل بعضاً على بعض في العطاء . والآيات بمثل ذلك كثيرة . والقول الأول أظهر عندي ، لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر . والله تعالى أعلم . وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وجه الجمع بين قوله تعالى هنا { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } الكهف55 الآية وبين قوله تعالى { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } الإسراء 94 بما حاصله باختصار أن المانع المذكور في سورة " الإسراء " مانع عادي يجوز تخلفه ، لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب . فالحصر في قوله تعالى { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } حصر في المانع العادي . وأما الحصر في قوله هنا { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } فهو حصر في المانع الحقيقي ، لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم ، وحكمه عليهم بذلك ، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره . وقوله في هذه الآية الكريمة { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } قرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي " قبلاً " بضم القاف والباء . وقرأه الأربعة الباقون من السبعة وهم نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر " قبلاً " بكسر القاف وفتح الباء . أما على قراءة الكوفيين فقوله " قبلاً " بضمتين جمع قبيل . والفعيل إذا كان اسماً يجمع على فعل كسرير وسرر ، وطريق وطرق ، وحصير وحصر ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله @ وفعل لاسم رباعي بمد قد زيد قبل لام اعلالاً فقد @@ ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف … إلخ . وعلى هذا ، فمعنى الآية { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } أي أنواعا مختلفة ، يتلو بعضها بعضاً . وعلى قراءة من قرأوا " قبلاً " كعنب ، فمعناه عياناً ، أي أو يأتيهم العذاب عياناً . وقال مجاهد رحمه الله " قبلاً " أي فجأة . والتحقيق أن معناه عياناً وأصله من المقابلة ، لأن المتقابلين يعاين كل واحد منهما الآخر . وذكر أبو عبيد أن معنى القراءتين واحد ، وأن معناهما عياناً ، وأصله من المقابلة . وانتصاب " قبلاً " على الحال على كلتا القراءتين . وهو على القولين المذكورين في معنى " قبلاً " إن قدرنا أنه بمعنى عياناً ، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مراراً . وعلى أنه جمع قبيل فهو اسم جامد مؤول بمشتق ، لأنه في تأويل أو يأتيهم العذاب في حال كونه أنواعاً وضروباً مختلفة . والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله { أن يؤمنوا } في محل نصب . لأنه مفعول " منع " الثاني ، والمنسبك من " أّنْ " وصلتها في قوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } في محل رفع ، لأنه فاعل " منع " لأن الاستثناء مفرغ ، وما قبل " إلا " عامل فيما بعدها ، فصار التقدير منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين ، على حد قوله في الخلاصة @ وإن يفرغ سابق إلا لما بعد يكن كما لو إلا عدما @@ والاستغفار في قوله { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ } هو طلب المغفرة منه جل وعلا لجميع الذنوب السالفة بالإنابة إليه ، والندم على ما فات ، والعزم المصمم على عدم العود إلى الذنب .