Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 12-15)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أولاً - أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكرشيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر ، فإنا نبينها . وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك ، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام ، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا - فإذا علمت ذلك - فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى ، وقد ذكر شيئاً من صفاته أيضاً في غير هذا الموضع . وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا ، والمذكور في غير هذا الموضع . اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } ووصفه بقوله { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ } إلى قوله { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . فقوله { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ } مقول قول محذوف . أي وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة . والكتاب التوراة . أي خذ التوراة بقوة . أي بجد واجتهاد ، وذلك بتفهم المعنى أولاً حتى يفهمه على الوجه الصحيح ، ثم يعمل به من جميع الجهات ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويتأدب بآدابه ، ويتعظ بمواعظه ، إلى غير ذلك من جهات العمل به . وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا التوراة . وحكى غير واحد عليه الإجماع . وقيل هو كتاب أنزل على يحيى ، وقيل هو اسم جنس يشمل الكتب المتقدمه . وقيل هو صحف إبراهيم . والأظهر قول الجمهور إنه التوراة كما قدمنا . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ } أي أعطيناه الحكم ، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة ، مرجعها إلى شيء واحد ، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب . أي إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبياً . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } أي الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه - وهو صغير حدث . قال عبد الله بن المبارك قال معمر قال الصبيان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب ، فقال ما للعب خلقنا ! فلهذا أنزل الله { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } . وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } يقول تعالى ذكره وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال . وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبدالله بن المبارك قال أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية " وآتيناه الحكم صبياً " قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى اذهب بنا نلعب . فقال ما للعب خلقنا ، فأنزل الله { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } وقال الزمخشري في الكشاف { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ } أي الحكمة ، ومنه قول نابغة ذبيان @ واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد @@ وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية والحكم النبوة ، أو حكم الكتاب ، أو الحكمة ، أو العلم بالأحكام . أو اللب وهو العقل ، أو آداب الخدمة ، أو الفراسة الصادقة . أقوال قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له الذي يظهر لي - هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به ، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهماً صحيحاً ، والعمل به حقاً ، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة . وأصل معنى " الحكم " المنع ، والعلم النافع . والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان . وقوله تعالى { صبياً } أي لم يبلغ ، وهو الظاهر . وقيل صبياً أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة - ذكره أبو حيان وغيره ، والظاهر الأول . قيل ابن ثلاث سنين ، وقيل ابن سبع ، وقيل ابن سنتين . والله أعلم . وقوله في هذه الآية الكريمة { وحناناً } معطوف على { الحكم } أي وآتيناه حناناً من لدنا . والحنان هوما جبل عليه من الرحمة ، والعطف والشفقة . وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب ، ومنه قولهم حنانك وحنانيك يا رب ، بمعنى رحمتك . ومن هذا المعنى قول امرىء القيس @ أبنت الحارث الملك بن عمرو له ملك العراق إلى عمان ويمنحها بنو شمجي بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان @@ يعني رحمتك يا رحمن . وقول طرفة بن العبد @ أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض @@ وقول منذر بن درهم الكلبي @ وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف فقالت حنان ما أتى بك ها هنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف @@ فقوله " حنان " أي أمري حنان . أي رحمة لك ، وعطف وشفقة عليك وقول الحطيئة أو غيره @ تحن على هداك المليك فإن لكل مقام مقالا @@ وقوله تعالى { من لدنا } أي من عندنا ، وأصح التفسيرات في قوله " وزكاةً " أنه معطوف على ما قبله أي أو أعطيناه زكاة ، أي طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة ، والتقرب إلى الله بما يرضيه وقد قدمنا في سورة " الكهف " الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية " وزكاةً " الزكاة التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير . أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم . وقيل المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنساناً . وقيل " زكاةً " صدقة على أبويه . قاله ابن قتيبة - انتهى كلام القرطبي . وهو خلاف التحقيق في معنى الآية . والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا ، من أن المعنى وأعطيناه زكاة أي طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى . وقول من قال من العلماء بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح ، راجع إلى ما ذكرنا لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وكان تقياً } أي ممتثلاً لأوامر ربه مجتنباً كل ما نهى عنه . ولذا لم يعمل خطيئة قط ، ولم يلم بها ، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره . وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة ، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعاً ، إما بانقطاع ، وإما بعنعنة مدلس وإما بضعف راو ، كما أشار له ابن كثير وغيره . وقد قدمنا معنى " التقوى " مراراً وأصل مادتها في اللغة العربية . وقوله تعالى { وبراً بوالديه } البر بالفتح هو فاعل البر - بالكسر - كثيراً أي وجعلناه كثير البر بوالديه ، أي محسناً إليهما ، لطيفاً بهما ، لين الجانب لهما . وقوله " وبراً " معطوف على قوله " تقياً " ، وقوله " ولم يكن جباراً عصياً " أي لم يكن مستكبراً عن طاعة ربه وطاعة والديه ، ولكنه كان مطيعاً لله ، متواضعاً لوالديه ، قاله ابن جرير . والجبار هو كثير الجبر ، أي القهر للناس ، والظلم لهم . وكل متكبر على الناس يظلمهم فهو جبار . وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } الشعراء 130 وعلى من يتكرر منه القتل في قوله { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } القصص19 الآية . والظاهر أن قوله " عصياً " فعول قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله @ @ إن يسكن السابق من واو ويا @@ واتصلا ومن عروض عريا فياء الواو اقلبن مدغماً وشذ معطى غير ما قد رسما @@ فأصل " عصياً " على هذا " عصوياً " كصبور ، أي كثير العصيان . ويحتمل أن يكون أصله فعيلاً وهي من صيغ المبالغة أيضاً ، قاله أبو حيان في البحر . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } قال ابن جرير وسلام عليه أي أمان له . وقال ابن عطية والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف من الأمان ، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة ، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول - انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية ، ومرجع القولين إلى شيء واحد ، لأن معنى سلام ، التحية ، الأمان ، والسلامة مما يكره . وقول من قال هو الأمان . يعني أن ذلك الأمان من الله . والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره . والظاهر المتبادر أن قوله { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة وقوله { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } مبتدأ ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء ، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته ، ووقت موته ، ووقت بعثه ، في قوله { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ } الآية ، لأنها أوحش من غيرها . قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم . ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم . قال فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها . رواه عنه ابن جرير وغيره . وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى استغفر لي ، أنت خير مني . فقال الآخر استغفر لي ، أنت خير مني . فقال عيسى أنت خير مني ، سلمت على نفسي وسلم الله عليك . وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى . ثم قال انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم - فضل عيسى بأن قال إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه ، قال ابن عطية ولكل وجه . انتهى كلام القرطبي . والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } الآية أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } مريم 33 كما هو ظاهر . تنبيه الفتحة في قوله { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصباً على الظرفية . ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك ، والأجود أن تكون فتحة " يوم ولد " فتحة بناء ، وفتحة { وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ } فتحة نصب ، لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع ، والجملة الاسمية أجود عن بنائه ، كما عقده في الخلاصة بقوله @ وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا وقبل فعل معرب أو مبتدأ أعرب ومن بنى فلن يفندا @@ والأحوال في مثل هذا أربعة الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصلياً وهو الماضي ، كقول نابغة ذبيان @ على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع @@ فبناء الظرف في مثل ذلك أجود ، وإعرابه جائز . الثاني - أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عاوضاً ، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة . كقول الآخر @ لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم @@ وحكم هذا كما قبله . الثالث - أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب . كقول أبي صخر الهذلي @ إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر @@ فإعراب مثل هذا أجود ، وبناؤه جائز . الرابع - أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية . كقول الشاعر @ ألم تعلمي يا عمرك الله أنني كريم على حين الكرام قليل @@ وقول الآخر @ تذكر ما تذكر من سليمى على حين التواصل غير دان @@ وحكم هذا كما قبله . واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي . وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى ، كقوله { وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ } فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية . فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع . وأجاز ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية بقلة ، كقوله تعالى { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } الذاريات 13 وقول سواد بن قارب @ وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب @@ لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } قال أبو حيان فيه تنبيه على كونه من الشهداء ، لقوله تعالى فيهم { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } آل عمران 169 . قال مقيده عفا الله عنه وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها ، وصف لصاحبها . وعليه فبعثه مقيد بكونه حياً ، وتلك حياة الشهداء ، وليس بظاهر كل الظهور . والله تعالى أعلم . هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات يحيى ، وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع ، كقوله في " آل عمران " { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } آل عمران 39 ومعنى كونه { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّه } أنه مصدق بعيسى ، وإنما قيل لعيسى كلمة لأن الله أوجده بكلمة هي قوله " كن " فكان ، كما قال تعالى { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } النساء 171 الآية . وقال { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } آل عمران 45 الآية . وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّه } وقيل المراد بكلمة الكتاب ، أي مصدقاً بكتاب الله . والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد ، كقوله { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ } الأعراف 137 ، وقوله { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } الأنعام 115 ، وقوله { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } المؤمنون100 إلى غير ذلك من الآيات ، وباقي الأقوال تركناه لظهور ضعفه . والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا . وقوله " وسيداً " وزن السيد بالميزان الصرفي فيعل وأصل مادته س و د سكنت ياء الفعيل الزائدة قبل الواو التي هي في موضع العين ، فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة إن يسكن السابق من واو ويا البيتين المتقدمين آنفاً . وأصله من السواد وهو الخلق الكثير . فالسيد من يطيعه ، ويتبعه سواد كثير من الناس . والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه ساد يسود بالواو ، وتقول سودوه إذا جعلوه سيداً . والتضعيف يرد العين إلى أصلها ، ومنه قول عامر بن الطفيل العامري @ وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب @@ وقال الآخر @ وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد @@ وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه . والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس ، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما " إن ابني هذا سيد " الحديث . " وأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم " قوموا لسيدكم " والتحقيق في معنى قوله " حصوراً " أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلاً منه ، وانقطاعاً لعبادة الله . وكان ذلك جائزاً في شرعه . وأما سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم فهي التزوج وعدم التبتل . أما قول من قال إن الحصور فعول بمعنى مفعول وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن - فليس بصحيح ، لأن العنة عيب ونقص في الرجال ، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها . فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا ، واختاره غير واحد من العلماء . وقول من قال إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال الأخطل @ وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار @@ قول ليس بالصواب في معنى الآية . بل معناها هو ما ذكرنا وإن كان إطلاق الحصور على ذلك صحيحاً لغة . وقوله " ونبيئاً " على قراءة نافع بالهمزة معناه واضح ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، من النبأ وهو الخبر الذي له شأن ، لأن الوحي خبر له شأن يخبره الله به . وعلى قراءة الجمهور بالياء المشددة فقال بعض العلماء معناه كمعنى قراءة نافع ، إلا أن الهمزة أبدلت ياء وأدغمت فيها للياء التي قبلها . وعلى هذا فهو كالقراءتين السبعيتين في قوله { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } التوبة 37 بالهمزة وتشديد الياء . وقال بعض العلماء هو على قراءة الجمهور من النبوة بمعنى الارتفاع لرفعة النَّبي وشرفه . والصالحون هم الذين صلحت عقائدهم ، وأعمالهم . وأقوالهم ، ونياتهم ، والصلاح ضد الفساد . وقد وصف الله تعالى يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة " الأنعام " في قوله { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } الأنعام 85 .