Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 30-30)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } . قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير " أو لم ير " بواو بعد الهمزة وقرأه ابن كثير " ألم ير الذين كفروا " بدون واو ، وكذلك هو في مصحف مكة . والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم ، حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه ، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عَبَده ، ولا يضر من عَصَاه ، ولا يقدر على شيء . وقوله { كَانَتَا } التثنية باعتبار النوعين اللذَين هما نوع السماء ، ونوع الأرض . كقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } فاطر 41 ونظيره قول عمر بن شيبم @ ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا @@ والرتق مصدر رَتَقه رتْقاً إذا سده . ومنه الرتقاء . وهي التي انسد فرجها ، ولكن المصدر وصف به هنا ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين . والفتق الفصل بين الشيئين المتَّصلين . فهو ضد الرتق . ومنه قول الشاعر @ يهوون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها ورتق الفتوق وفتق الرتو ق ونقض الأمور وإبرامها @@ واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال ، بعضها في غاية السقوط ، وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم الأول أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أي كانت السموات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض ، ففتقها الله وفصل بين السموات والأرض ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأقر الأرض في مكانها ، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى . القول الثاني أن السموات السبع كانت رتقاً . أي متلاصقة بعضها ببعض ، ففتقها الله وجعلها سبع سموات ، كل اثنتين منها بينهما فصل ، والأرضون كذلك كانت رتقاً ففتقها ، وجعلها سبعاً بعضها منفصل عن بعض . القول الثالث أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أن السماء كانت لا ينزل منها مطر ، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات . الرابع أنها { كَانَتَا رَتْقاً } أي في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ففتقهما الله بالنور . وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول ، والثاني . الخامس وهو أبعدها لظهور سقوطه . أن الرتق يراد به العدم . والفتق يراد به الإيجاد . أي كانتا عدماً فأوجدناهما . وهذا القول كما ترى . فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية ، فاعلم أن القول الثالث منها وهو كونهما كانتا رتقاً بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت شيئاً ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى . الأولى أن قوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } يدل على أنهم رأوا ذلك . لأن الأظهر في رأيي أنها بصرية ، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها . فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر ، وإنباته به أنواع النبات . القرينة الثانية أنه أتبع ذلك بقوله { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } الأنبياء 30 . والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله . أي وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض كل شيء حي . القرينة الثالثة أن هذا المعنى جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } الطارق 11 - 12 لأن المراد بالرَّجْع نزول المطر منها تارة بعد أخرى ، والمراد بالصَّدْع انشقاق الأرض عن النبات . وكقوله تعالى { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } عبس 24 - 26 الآية . واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية وغيرهما للقرائن التي ذكرنا . ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر ، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى ، وعظم منته على خلقه ، وقدرته على البعث . والذين قالوا إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض قالوا في قوله { أَوَلَمْ يَرَ } أنها من رأي العلمية لا البصرية ، وقالوا وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن ، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه . والعلم عند الله تعالى . وأقرب الأقوال في ذلك هو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره ورجَّحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } الأنبياء 30 وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، ولا يكون كذلك إلاَّ إذا كان المراد ما ذكرنا . فإن قيل هذا الوجه مرجوح . لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا . قلنا إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء . كما يقال ثوب أخلاق ، وبرمة أعشارا هـ منه . قوله تعالى { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } . الظاهر أن " جَعل " هنا بمعنى خَلَق . لأنها متعدية لمفعول واحد . ويدل لذلك قوله تعالى في سورة " النور " { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } النور 45 . واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء . قال بعض العلماء الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة . لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف ، وعلى هذا فهو من العام المخصوص . وقال بعض العلماء هو الماء المعروف ، لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء . وإما غير مباشرة لأن النطف من الأغذية ، والأغذية كلَّها ناشئة عن الماء ، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر ، وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسمان ونحوها لأنه كله ناشئ بسبب الماء . وقال بعض أهل العلم معنى خَلْقه كل حيوان من ماء أنه كأنما خلقه من الماء لفرط احتياجه إليه ، وقلّة صبره عنه . كقوله { خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } الأنبياء 37 إلى غير ذلك من الأقوال . وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة " جعل " وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة " النحل " . وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه لقائل أن يقول كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان ؟ وقد قال { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } الحجر 27 وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور ، وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } المائدة 110 ، وقال في حق آدم { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } آل عمران 59 . والجواب اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود . وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام ، لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك ا هـ منه . ثم قال الرازي أيضاً اختلف المفسِّرون ، فقال بعضهم المراد من قوله { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } الحيوان فقط . وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر ، لأنه من الماء صار نامياً ، وصار فيه الرطوبة والخضرة ، والنور والثمر . وهذا القول أليق بالمعنى المقصود ، كأنه تعالى قال ففتقنا السماء لإنزال المطر ، وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً . حجة القول الأول أن النبات لا يسمى حياً . قلنا لا نسلم ، والدليل عليه قوله تعالى { يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } الروم 50 انتهى منه أيضاً .