Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 78-78)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } . أي اصطفاكم ، واختاركم يا أمة محمد . ومعنى هذه الآية أوضحه بقوله { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] الآية . قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . الحرج : الضيق كما أوضحناه في أول سورة الأعراف . وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أنها مبنية على التخفيف والتيسير ، لا على الضيق والحرج . وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا . وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع كقوله تعالى { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] وقوله { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، " وابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ خواتم سورة البقرة " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال الله قد فعلت " " في رواية ابن عباس . وفي رواية أبي هريرة قال : نعم . ومن رفع الحجر في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان فيه ، وصلاة العاجز عن القيام قاعداً وإباحة المحظور للضرورة كما قال تعالى { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] الآية إلى غير ذلك من أنواع التخفيف والتيسير ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة والآيات التي ذكرنا معها من رفع الحرج ، والتخفيف في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ، هو إحدى القواعد الخمس ، التي بنى عليها الفقه الإسلامي وهي هذه الخمس . الأولى : الضرر يزال ومن أدلتها حديث : " لا ضرر ولا ضرار " . الثانية : المشقة تجلب التيسير : وهي التي دل عليها قوله هنا { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وما ذكرنا في معناها من الآيات . الثالثة : لا يرفع يقين بشك ، ومن أدلتها حديث " من أحس بشيء في دبره في الصلاة وأنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً " لأن تلك الطهارة المحققة لم تنقض بتلك الريح المشكوك فيها . الرابعة : تحكيم عرف الناس المتعارف عندهم في صيغ عقودهم ومعاملاتهم ، ونحو ذلك . واستدل لهذه بعضهم بقوله { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } [ الأعراف : 199 ] الآية . الخامسة : الأمور تبع المقاصد ، ودليل هذه حديث " إنما الأعمال بالنيات " الحديث . وقد اشار في مراقي السعود في كتاب الاستدلال إلى هذه الخمس المذكورات بقوله : @ قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر ونفى رفع القطع بالشك وأن يحكم العرف وزاد من فطن كون الأمور تبع المقاصد مع التكلف ببعض وارد @@ قوله تعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } . قال بعضهم : هو منصوب بنزع الخافض ، ومال إليه ابن جرير : أي ما جعل عليكم في دينكم من ضيق ، كملة إبراهيم ، وأعربه بعضهم منصوباً بمحذوف : أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم ، ولا يبعد أن يكون قوله { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } شاملاً لما ذكر قبله من الأوامر في قوله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 77 - 78 ] . ويوضح هذا قوله تعالى { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] والدين القيم الذي هو ملة إبراهيم : شامل لما ذكر كله . قوله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا } . اختلف في مرجع الضمير الذي هو لفظ هو من قوله { هُوَ سَمَّاكُمُ } فقال بعضهم الله هو الذي سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ، وهذا القول مروى عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، من قبل وفي هذا ، وهذا القول مروى عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة . كما نقله عنهم ابن كثير . وقال بعضهم : هو أي إبراهيم سماكم المسلمين ، واستدل لهذا بقول إبراهيم وإسماعيل { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] وبهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، كما نقله عنهم ابن كثير . وقد قدمنا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول . وجئنا بأمثلة كثيرة في الترجمة ، وفيما مضى من الكتاب ، وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم غير صواب . إحداهما : أن الله قال { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا } أي القرآن ، ومعلوم أن إبراهيم لم يسمهم المسلمين في القرآن ، لنزوله بعد وفاته بأزمان طويلة كما نبه على هذا ابن جرير . القرينة الثانية : أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله ، لا إلى إبراهيم فقوله { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } أي الله وما جعل عليكم في الدين من حرج : أي الله هو سماكم المسلمين : أي الله . فإن قيل : الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور للضمير المذكور : هو إبراهيم . فالجواب أن محل رجوع الضمير إلى أقرب مذكور محله ما لم يصرف عنه صارف ، وهنا قد صرف عنه صارف ، لأن قوله وفي هذا يعني القرآن ، دليل على أن المراد بالذي سماهم المسلمين فيه : هو الله لا إبراهيم ، وكذلك سياق الجمل المذكورة قبله نحو { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يناسبه أن يكون هو سماكم : أي الله المسلمين . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية بعد أن ذكر : أن الذي سماهم المسلمين من قبل وفي هذا : هو الله ، لا إبراهيم ما نصه : قلت : وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ملة إبراهيم أبيهم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها ، والثناء عليها في سالف الدهر ، وقديم الزمان في كتاب الأنبياء ، تتلى على الأحبار والرهبان فقال { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا القرآن . وفي هذا روى النسائي عند تفسير هذه الآية : أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شعيب ، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام ، أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من دعا دعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم ، قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وإن صلى ؟ قال : نعم وإن صام وإن صلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله " وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] اهـ من تفسير ابن كثير . وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة : إن الحديث المذكور فيه أن الله هو الذي سماهم المسلمين المؤمنين . قوله تعالى : { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } . يعني : إنما اجتباكم ، وفضلكم ونوه باسمكم المسلمين من قبل نزول كتابكم ، وزكاكم على ألسنة الرسل المتقدمين ، فسماكم فيها المسلمين ، وكذلك سماكم في هذا القرآن . وقد عرف بذلك أنكم أمة وسط عدول خيار مشهود بعدالتكم ، لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، أن الرسل بلغتهم رسالات ربهم ، حين ينكر الكفار ذلك يوم القيامة ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، أنه بلغكم ، وقيل : شهيداً على صدقكم فيما شهدتم به للرسل على أممهم من التبليغ . وهذا المعنى المذكور هنا ذكره الله جل وعلا في قوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] وقال فيه صلى الله عليه وسلم { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الفتح : 8 ] الآية . والعلم عند الله تعالى .