Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 4-5)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى في هذه الآية : يرمون معناه : يقذفون المحصنات بالزنا صريحاً أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة عن أبيه ، لأنه إن كان من غير أبيه كان من زنى ، وهذا القذف هو الذي أوجب الله تعالى فيه ثلاثة أحكام : الأول : جلد القاذف ثمانين جلدة . والثاني : عدم قبول شهادته . والثالث : الحكم عليه بالفسق . فإن قيل : اين الدليل من القرآن على أن معنى يرمون المحصنات في هذه الآية : هو القذف بصريح الزنى ، أو بما يستلزمه كنفي النسب . فالجواب : أنه دلت عليه قرينتان من القرآن : الأولى قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } بعد قوله { يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } ومعلوم أنه ليس شيء من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى . ومن قال : إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط . وقد قدمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة هود ، كما أشرنا له غير بعيد . القرينة الثانية : هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني في قوله تعالى { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] الآية . وقوله تعالى : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني ، يدل على إحصانهن أي عفتهن عن الزنى ، وأن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى ، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرآن ، ومثلنا لها كلها من القرآن في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء : 24 ] فذكرنا أن من المعاني التي تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات ، كقوله { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } [ النساء : 25 ] أي عفائف غير زانيات ، ومن هذا المعنى قوله تعالى { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } أي العفائف ، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب . ومنه قول جرير : @ فلا تأمنن الحي قيسا فإنهم بنو محصنات لو تدنس حجورها @@ وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب . ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي : @ رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوى رماني @@ فقوله رماني بأمر : يعني أنه رماه بالكلام القبيح ، وفي شعر امرئ القيس أو غيره : @ وجرح اللسان كجرح اليد @@ واعلم أن هذه الآية الكريمة مبينة في الجملة من ثلاث جهات : الجهة الأولى : هي القرينتان القرآنيتان الدالتان على أن المراد بالرمي في قوله : { يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } هو الرمي بالزنى ، أو ما يستلزمه كنفي النسب ، كما أوضحناه قريباً . الجهة الثانية : هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى ، ولكن الله جل وعلا بيّن أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية ، وأنه إن لم يأت بالشهداء ، تلاعنا ، وذلك في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } [ النور : 6 ] الآية . ومضمونها : أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنى ولم يكن له شاهد غير نفسه ، والمعنى أنه لم يقدر على الإتيان ببينة تشهد له على الزنى الذي رماها به ، فإنه يشهد أربع شهادات يقول في كل واحدة منها : أشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى ، ثم يقول في الخامسة : عليَّ لعنة الله إن كنت كاذباً عليها فيما رميتها به ، ويرتفع عنه الجلد وعدم قبول الشهادة والفسق بهذه الشهادات . وتشهد هي أربع شهادات بالله تقول في كل واحدة منها : أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى ، ثم تقول في الخامسة : غضب الله عليَّ إن كان صادقاً فيما رماني به من الزنى ، كما هو واضح من نص الآية . الجهة الثالثة : أن الله بيّن هنا حكم عقوبة من رمى المحصنات في الدنيا ، ولم يبين ما أعد له في الآخرة ، ولكنه بيَّن في هذه السورة الكريمة ما أعدّ له في الدنيا والآخرة من عذاب الله ، وذلك في قوله [ النور : 23ـ 24ـ25 ] وقد زاد في هذه الآية الأخيرة كونهن مؤمنات غافلات لإيضاح صفاتهن الكريمة . ووصفه تعالى للمحصنات في هذه الآية بكونهن غافلات ثناء عليهن بأنهن سليمات الصدور نقيات القلوب لا تخطر الريبة في قلوبهن لحسن سرائرهن ، ليس فيهن دهاء ولا مكر ، لأنهن لم يجربن الأمور فلا يفطن لما تفطن له المجربات ذوات المكر والدهاء ، وهذا النوع من سلامة الصدور وصفائها من الريبة من أحسن الثناء ، وتطلق العرب على المتصفات به اسم البله مدحاً لها لاذماً ، ومنه قول حسان رضي الله عنه : @ نفج الحقيبة بوصها متنضد بلهاء غير وشيكة الإقسام @@ وقول الآخر : @ ولقد لهوت بطلفة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها @@ وقول الآخر : @ عهدت بها هنداً وهند غريرة عن الفحش بلهاء العشاء نؤم رداح الضحى ميالة بحترية لها منطق يصبي الحليم رخيم @@ والظاهر أن قوله تعالى { لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون } [ النور : 23ـ24 ] محله فيما إذا لم يتوبوا ويصلحوا ، فإن تابوا وأصحلوا ، لم ينلهم شيء من ذلك الوعيد ، ويدل له قوله تعالى { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [ النور : 4 ] إلى قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } [ النور : 5 ] . وعمومات نصوص الكتاب والسنة دالة على أن من تاب إلى الله من ذنبه توبة نصوحاً تقبلها منه ، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر ، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاء المفسرين إن آية { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } التي جعل الله فيها التوبة بقوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } عامة ، وأن آية { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [ النور : 23 ] الآية . خاصة بالذين رموا عائشة رضي الله عنها أو غيرها من خصوص أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق . والعلم عند الله تعالى . مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى : لا يخفى أن الآية إنما نصت على قذف الذكور للإناث خاصة ، لأن ذلك هو صريح قوله { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكور للذكور ، أو الإناث للإناث ، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصت عليه الآية ، من قذف الذكور للإناث ، للجزم بنفي الفارق بين الجميع . وقد قدمنا إيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه ، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة الأنبياء في كلامنا الطويل على آية { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ } [ الأنبياء : 78 ] الآية . المسألة الثانية : اعلم أن المقرر في أصول المالكية ، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات ، أو مفردات متعاطفات ، أنه لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها ، خلافاً لأبي حنيفة القائل : برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله : @ وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو دون دليل العقل أو ذي السمع والحق الافتراق دون الجمع @@ ولذا لو قال إنسان : هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين ، وبني زهرة ، وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع ، خلافاً لأبي حنيفة القائل : برجوعه للأخيرة ، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط ، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية ، إلا للجملة الأخيرة التي هي { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } فقد زال عنهم الفسق ولا يقول : ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : إن شهادة القاذف لا تقبل أبداً ، ولو تاب وأصلح ، وصار أعدل أهل زمانه لرجوع الاستثناء عنده للجملة الأخيرة . وممن قال كقول أبي حنيفة من أهل العلم : القاضي شريح ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر ، وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب . قاله ابن كثير . وقال جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة : إن الاستثناء في الآية راجع أيضاً لقوله { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } وأن القاذف إذا تاب وأصلح قبلت شهادته . أما قوله { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } فلا يرجع له الاستثناء ، لأن القاذف إذا تاب وأصلح ، لا يسقط عنه حد القذف بالتوبة . فتحصل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } يرجع لها الاستثناء بلا خلاف ، وأن الجلمة الأولى التي هي { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } لا يرجع له الاستثناء في قول عامة أهل العلم ، ولم يخالف إلا من شذ ، وأن الجملة الوسطى ، وهي قوله { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة ، وقد ذكرنا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آية الكتاب ، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخرين ، كابن الحاجب من المالكية ، والغزالي من الشافعية ، والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء ، الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع ، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل . وإنما قلنا : إن هذا هو الأظهر لأن الله تعالى يقول : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] الآية . وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى الله وجدنا القرآن دالاً على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا ، وهو الوقف . وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة ، فدل ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئاً مطرداً . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } [ النساء : 92 ] ، فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط ، لأن المطالبة بها تسقط بتصدق مستحقها بها ، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعاً ، لأن تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ . ومن أمثلة ذلك آية النور هذه ، لأن الاستثناء في قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } لا يرجع لقوله : { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } كما ذكرنا آنفاً . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } [ النساء : 89 - 90 ] ، فالاستثناء في قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } لا يرجع إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل المذكورة إليه أعني قوله تعالى { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهذا لا خلاف فيه بل الاستثناء راجع إلى الجملتين الأوليين أعني قوله تعالى { فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ } [ النساء : 89 ] ، أي فخذوهم بالأسر ، واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فليس لكم أخذهم بأسر ، ولا قتلهم ، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم ، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن هذه الآية نزلت فيه ، وفي سراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني جذيمة بن عامر . وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع إلى أقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه لم يلزم رجوعه للجميع ، ولا إلى الأخيرة ، وأن الأظهر الوقف حتى يعلم ما يرجع إليه من المتعاطفات قبله بدليل ، ولا يبعد أنه إن تجرد من القرائن والأدلة ، كان ظاهراً في رجوعه للجميع . وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، ولذلك اختصرناه هنا . والعلم عند الله تعالى . المسألة الثالثة : اعلم أن من قذف إنساناً بغير الزنى أو نفي النسب كأن يقول له : يا فاسق ، أو آكل الربى ، ونحو ذلك من أنواع السب يلزمه التعزير ، وذلك بما يراه الإمام رادعاً له ، ولأمثاله من العقوبة من غير تحديد شيء في ذلك من جهة الشرع . وقال بعض أهل العلم : لا يبلغ بالتعزير قدر الحد . وقال بعض العلماء : إن التعزير بحسب اجتهاد الإمام فيما يراه رادعاً مطلقاً . والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة : اعلم أن جمهور العلماء على أن العبد إذا قذف حراً يجلد أربعين ، لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى . قال القرطبي : وروي عن ابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، وقبيصة بن ذؤيب : يجلد ثمانين ، وجلد أبو بكر بن محمد عبداً قذف حراً ثمانين ، وبه قال الأوزاعي ، واحتج الجمهور بقوله تعالى { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنى لله ، وأنه ربما كان أخف فيمن قلَّت نعم الله عليه . وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه . وأما حد القذف فهو حق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف ، والجناية لا تختلف بالرق والحرية ، وربما قالوا لو كان يختلف لذكر كما في الزنى . قال ابن المنذر : والذي عليه علماء الأمصار القول الأول وبه أقول . انتهى كلام القرطبي . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي دليلاً : أن العبد إذا قذف حراً جلد ثمانين لا أربعين ، وإن كان هذا مخالفاً لجمهور أهل العلم ، وإنما استظهرنا جلده ثمانين ، لأن العبد داخل في عموم : { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ولا يكمن إخراجه من هذا العموم ، إلا بدليل ولم يرد دليل يخرج العبد من هذا العموم لا من كتاب ولا من سنة ، ولا من قياس ، وإنما ورد النص على تشطير الحد عن الأمة في حد الزنى وألحق العلماء بها العبد بجامع الرق ، والزنى غير القذف . أما القذف فلم يرد فيه نص ولا قياس في خصوصه . وأما قياس القذف على الزنى فهو قياس مع وجود الفارق ، لأن القذف جناية على عرض إنسان معين ، والردع عن الأعراض حق للآدمي فيردع العبد كما يردع الحر ، والعلم عند الله تعالى . تنبيه قد قدمنا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [ المائدة : 32 ] الآية . أن الحر إذا قذف عبداً لا يحد له ، وذلك ثابت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قذف عبده بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " اهـ . وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح : " أقيم عليه الحد يوم القيامة " يدل على أنه لا يقام عليه الحد في الدنيا وهو كذلك ، وهذا لا نزاع فيه بين من يعتد به من أهل العلم . قال القرطبي : قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة ، واقتص لكل واحد من صاحبه إلا أن يعفو المظلوم انتهى محل الغرض من كلام القرطبي . المسألة الخامسة : اعلم أن العلماء أجمعوا على أنه إذا صرح في قذفه له بالزنى كان قذفاً ورمياً موجباً للحد ، وأما إن عرض ولم يصرح بالقذف ، وكان تعريضه يفهم منه بالقرائن أنه يقصد قذفه ، كقوله : أما أنا فلست بزان ، ولا أمي بزانية ، أو ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنى ، أو يا حلال بن الحلال ، أو نحو ذلك . فقد اختلف أهل العلم : هل يلزم حد القذف بالتعريض المفهم للقذف ، وإن لم يصرح أو لا يحد حتى يصرح بالقذف تصريحاً واضحاً لا احتمال فيه ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التعريض لا يوجب الحد ، ولو فهم منه إرادة القذف ، إلا أن يقر أنه أراد به القذف . قال ابن قدامة في المغني : وهذا القول هو رواية حنبل عن الإمام أحمد ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، وبه قال عطاء ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وابن المنذر ، واحتج أهل هذا القول بكتاب وسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } [ البقرة : 235 ] ، ففرق تعالى بين التصريح للمعتدة ، والتعريض قالوا : ولم يفرق الله بينهما في كتابه ، إلا لأن بينهما فرقاً ، ولو كانا سواء لم يفرق بينهما في كتابه . وأما السنة : فالحديث المتفق عليه ، الذي قدمناه مراراً " في الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : إن امرأتي ولدت غلاماً أسود وهو تعريض بنفيه ، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا قذفاً ، ولم يدعهما للعان بل قال للرجل ألك إبل ؟ قال نعم : قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر قال : هل فيها من أورق ؟ قال : إن فيها لورقاً قال : ومن أين جاءَها ذلك ؟ قال لعل عرقاً نزعه قال : وهذا الغلام الأسود لعل غرقاً نزعه " قالوا : ولأن التعريض محتمل لمعنى آخر غير القذف ، وكل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفاً هذا هو حاصل حجة من قالوا : بأن التعريض بالقذف ، لا يوجب الحد وإنما يجب الحد بالتصريح بالقذف . وذهبت جماعة آخرون من أهل العلم : إلى أن التعريض بالقذف يجب به الحد ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وقال ابن قدامة في المغني : وروى الأثرم وغيره ، عن الإمام أحمد أن عليه الحد يعني المعرض بالقذف ، قال : وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه ، وبه قال إسحاق إلى أن قال : وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض . اهـ . واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما ذكره القرطبي ، قال : والدليل لما قاله مالك : هو أن موضوع الحد في القذف ، إنما هو لأزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، وإذا حصلت المعرة بالتعريض ، وجب أن يكون قذفاً كالتصريح والمعول على الفهم ، وقد قال تعالى مخبراً عن قوم شعيب أنهم قالوا له : { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] أي السفينه الضال ، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسب ما تقدم في سورة هود ، وقال تعالى في أبي جهل { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ، وقال تعالى في الذين قذفوا مريم : إنهم قالوا : { يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] فمدحوا أباها ، ونفوا عن أمها البغاء أي الزنى وعرضوا لمريم بذلك ولذلك قال تعالى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } [ النساء : 156 ] وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها أي ما كان أبوك امرأ سوء ، وما كانت أمك بغياً : أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد ، وقال تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهدى ، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه اهـ . محل الغرض من كلام القرطبي مع تصرف قليل لإيضاح المراد . وحاصل كلام القرطبي المذكور : أن من أدلة القائلين بوجوب الحد بالتعريض آيات قرآنية ، وبين وجه دلالتها على ذلك كما رأيته ، وذكر أن من أدلتهم أن المعرة اللاحقة للمقذوف صريحاً تلحقه بالتعريض له بالقذف ، ولذلك يلزم استواؤهما ، وذكر أن من أدلتهم أن المعول على الفهم ، والتعريض يفهم منه القذف فيلزم أن يكون كالصريح . ومن أدلتهم على أن التعريض يجب به الحد بعض الآثار المروية عن بعض الخلفاء الراشدين . قال ابن قدامة في المغني : لأن عمر رضي الله عنه حين شاورهم في الذي قال لصاحبه : ما أنا بزان ، ولا أمي بزانية : فقالوا : قد مدح أباه وأمه : فقال عمر : قد عرض بصاحبه وجلده الحد . وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض . وروى الأثرم : أن عثمان رضي الله عنه جلد رجلاً قال لآخر : يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنى أمه ، والوذر : عذر اللحم يعرض له بكمر الرجال وانظر أسانيد هذه الآثار . ومن أدلة أهل هذا القول أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها ، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية ، فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف ، فلا شك في أنه لا يكون قذفاً . انتهى من المغني . ثم قال صاحب المغني : وذكر أبو بكر عبد العزيز : أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض ، يعني بأبي عبد الله الإمام أحمد رحمه الله . وقال القرطبي رحمه الله : وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال : @ @ دع المكارم لا ترحل لبغيتها @@ واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي @@ لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير ، ومنه قول الحطيئة أو النجاشي : @ قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل @@ فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح ، وقال : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ولما قال الشاعر بعد ذلك : @ ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل @@ قال عمر أيضاً : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح ، ولذا ذكروا أن عمر تمنى ما فيه من الهجاء لأهل بيته ، لأن عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا نزاع ، ويدل على ذلك أول شعره وآخره ، لأن أول الأبيات قوله : @ إذا الله عادى أهل لؤم وذلة فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل قبيلة لا يخفرون … @@ وفي آخر شعره : @ وما سمى العجلان إلا لقوله خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل @@ وكون مثل هذا من التعريض بالذم لا شك فيه . وقول الحطيئة : دع المكارم لا ترحل لبغيتها يهجو به الزبرقان بن بدر التميمي ، كما ذكره بعض المؤرخين ، وما ذكره القرطبي رحمه الله في الكلام الذي نقلنا عنه من أن البهتان العظيم الذي قالوه على مريم : هو تعريضهم لها بقوله { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] الآية لا يتعين بانفراده ، لأن الله جل وعلا ذكر عنهم أنهم قالوا لها غير ذلك وهو أقرب للتصريح بالفاحشة مما ذكره القرطبي وذلك في قوله تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] فقولهم لها { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } في وقت مجيئها بالولد تحمله ظاهر جداً في إرادتهم قذفها كما ترى ، والكلام الذي ذكر ابن قدامة : أن عثمان جلد الحد فيه وهو قول الرجل لصاحبه : يا بن شامة الوذرة . قال فيه الجوهري في صحاحه : الوذرة بالتسكين الغدرة ، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة ، ومنه قولهم : يا بن شامة الوذرة وهي كلمة قذف وكانت العرب تتساب بها كما كانت تتساب بقولهم : يا بن ملقي أرحل الركبان ، أو يا بن ذات الرايات ونحوها ، والجمع وذر مثل تمرة وتمر . اهـ . من صحاح الجوهري . والشامة بتشديد الميم اسم فاعل شمه . وقال صاحب اللسان : وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رفع إليه رجل قال لرجل : يا ابن شامة الوذر ، فحده وهو من سباب العرب وذمهم ، وإنما أراد يا ابن شامة المذاكير يعنون الزنا ، كأنها كانت تشم كمراً مختلفة فكنى عنه ، والذكر قطعة من بدن صاحبه ، وقيل : أرادوا بها القلف جمع قلفة الذكر ، لأنها تقطع . انتهى محل الغرض من لسان العرب . وهذا لا يتضح منه قصد الزنا ولم أر من أوضح معنى شامة الوذر إيضاحاً شافياً ، لأن شم كمر الرجال ليس من الأمر المعهود الواضح . والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن قائل الكلام المذكور يشبه من يعرض لها بالزنا بسفاد الحيوانات ، لأن الذكر من غالب الحيوانات إذا أراد سفاد الأنثى شم فرجها ، واستنشق ريحه استنشاقاً شديداً ، ثم بعد ذلك ينزوا عليها فيسافدها فكأنهم يزعمون أن المرأة تشم ذكر الرجل كما يشم الفحل من الحيوانات فرج أثناه ، وشمها لمذاكير الرجال كأنه مقدمة للمواقعة ، فكنوا عن المواقعة بشم المذاكير ، وعبروا عن ذكر الرجل بالوذرة ، لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم ، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر ، حتى صارت كأنها تشم ريح ذلك الموضع والعلم عند الله تعالى . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم ، وحججهم في التعريض بالقذف ، هل يلزم به الحد أو لا يلزم به . وأظهر القولين عندي : أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف فهماً واضحاً من القرائن أن صاحبه يحد ، لأن الجناية على عرض المسلم تتحقق بكل ما يفهم منه ذلك فهماً واضحاً ، لئلا يتذرع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم : إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض . والعلم عند الله تعالى . المسألة السادسة : قال القرطبي في تفسيره : الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلاً من أهل الكتاب أو امرأة منهم ، وقال الزهري ، وسعيد بن المسيب ، وابن أبي ليلى عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم ، وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد . قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول ، ولم أدرك أحداً ، ولا لقيته يخالف في ذلك ، وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة . لا أعلم . في ذلك خلافاً ، انتهى منه . المسألة السابعة : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي في مسألة ما لو قذف رجل رجلاً فقال آخر : صدقت أن المصدق قاذف فتجب إقامة الحد عليه ، لأن تصديقه للقاذف قذف خلافاً لزفر ومن وافقه . وقال ابن قدامة في المغني : ولو قال أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفاً سواء كذبه المخبر عنه أو صدقه ، وبه قال الشافعي ، وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر أنه يكون قاذفاً إذا كذبه الآخر ، وبه قال مالك ، وعطاء ونحوه عن الزهري ، لأنه أخبر بزناه . اهـ . منه . وأظهر القولين عندي : أنه لا يكون قاذفاً ولا يحد ، لأنه حكى عن غيره ولم يقل من تلقاء نفسه ، ويحتمل أن يكون صادقاً ، وأن الذي أخبره أنكر بعد إخباره إياه كما لو شهد على رجل أنه قذف رجلاً وأنكر المشهود عليه ، فلا يكون الشاهد قاذفاً . والعلم عند الله تعالى . المسألة الثامنة : أظهر قولي أهل العلم عندي فيمن قذف رجلاً بالزنى ، ولم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف أن الحد يسقط عن قاذفه ، لأنه تحقق بزناه أنه غير محصن ، ولو كان ذلك لم يظهر إلا بعد لزوم الحد للقاذف ، لأنه قد ظهر أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على من قذفه ، فلا يحد لغير عفيف اعبتاراً بالحالة التي يراد أن يقام فيها الحد ، فإنه في ذلك الوقت ثبت عليه أنه غير عفيف . وهذا الذي استظهرنا عزاه ابن قدامة ، لأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي والقول بأنه يحد هو مذهب الإمام أحمد . قال صاحب المغني : وبه قال الثوري ، وأبو ثور ، والمزني ، وداود . واحتجوا بأن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب . والأظهر عندنا هو ما قدمنا ، لأنه تحقق أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على قاذفه ، فلا يحد لمن تحقق أنه غير عفيف . وإنما وجب الحد قبل هذا ، لأن عدم عفته كان مستوراً ، ثم ظهر قبل إقامة الحد . والعلم عند الله تعالى . المسألة التاسعة : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين ، أنه ليس بقذف ، ولا يحد قائله ، لأنه رماه بفعل لا يعد زنا إجماعاً ، خلافاً لابن القاسم من أصحاب مالك القائل : بوجوب الحد زاعماً أنه تعريض به . والعلم عند الله تعالى . المسألة العاشرة : اعلم أن حد القذف لا يقام على القاذف إلا إذا طلب المقذوف إقامة الحد عليه ، لأنه حق له ، ولم يكن للقاذف بيَّنة على ما ادعى من زنا المقذوف ، لأن الله يقول : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } ومفهوم الآية : أن القاذف لو جاء بأربعة شهداء على الوجه المقبول شرعاً أنه لا حد عليه ، وإنما يثبت بذلك حد الزنا على المقذوف ، لشهادة البينة ، ويشترط لذلك أيضاً عدم إقرار المقذوف ، فإن أقر بالزنا ، فلا حد على القاذف . وإن كان القاذف زوجاً اعتبر في حده حد القذف امتناعه من اللعان . قال ابن قدامة : ولا نعلم خلافاً في هذا كله ثم قال : وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد ، فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط ، وبهذا قال الشافعي ، وأبو ثور . وقال الحسن وأصحاب الرأي : لا يسقط بعفوه لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود . ولنا أنه حد لا يستوفي إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص ، وفارق سائر الحدود . فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها ، وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحد ، ولأنهم قالوا تصح دعواه ، ويستحلف فيه ، ويحكم الحاكم فيه بعلمه ، ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف . فدل على أنه حق الآدمي . اهـ من المغني ، وكونه حقاً لآدمي هو أحد أقوال فيه . قال أبو عبد الله القرطبي : واختلف العلماء في حد القذف ، هل هو من حقوق الله ، أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما ؟ الأول : قول أبي حنيفة . والثاني : قول مالك والشافعي . والثالث : قاله بعض المتأخرين . وفائدة الخلاف أنه إن كان حقاً لله تعالى وبلغ الإمام اقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنا ، وإن كان حقاً للآدمي ، فلا يقيمة الإمام إلا بمطالبة المقذوف ، ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف اهـ كلام القرطبي . ومذهب مالك وأصحابه كأنه مبني على القول الثالث ، وهو أن الحد يسقط بعفو المقذوف قبل بلوغ الإمام ، فإن بلغ الإمام ، فلا يسقطه عفوه إلا إذا ادعى أنه يريد بالعفو الستر على نفسه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن القذف حق للآدمي وكل حق للآدمي فيه حق الله . وإيضاحه : أن حد القذف حق للآدمي من حيث كونه شُرَّعَ للزجر عن عرضه ، ولدفع معَّرة القذف عنه . فإذا تجرأ عليه القاذف انتهك حرمة عرض المسلم ، فكان للمسلم عليه حق بانتهاك حرمة عرضه ، وانتهك أيضاً حرمة نهى الله عن وقوعه في عرض مسلم ، فكان لله حق على القاذف بانتهاكه حرمة نهيه ، وعدم امتثاله ، فهو عاص لله مستحق لعقوبته ، فحق الله يسقط بالتوبة النصوح ، وحق المسلم يسقط بإقامة الحد ، أو بالتحلل منه . والذي يظهر على هذا التفصيل أن المقذوف إذا عفا وسقط الحد بعفوه أن للإمام تعزير القاذف لحق الله . والله جل وعلا أعلم . المسألة الحادية عشرة : قال القرطبي : إن تمت الشهادة على الزاني بالزنا ولكن الشهود لم يعدلوا ، فكان الحسن البصري ، والشعبي يريان ألا حد على الشهود ، ولا على المشهود عليه ، وبه قال أحمد ، والنعمان ، ومحمد بن الحسن . وقال مالك : وإذا شهد عليه أربعة بالزنا وكان أحدهم مسخوطاً عليه أو عبداً يجلدون جميعاً . وقال سفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى : يضربون ، فإن رجع أحد الشهود ، وقد رجم المشهود عليه في الزنى ، فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ، ولا شيء على الآخرين ، وكذلك قال قتادة ، وحماد ، وعكرمة ، وأبو هاشم ، ومالك ، وأحمد ، وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل ، فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا عفواً ، وأخذوا ربع الدية وعليه الحد . وقال الحسن البصري : يقتل وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية . وقال ابن سيرين : إذا قال أخطأت ، وأردت غيره فعليه الدية كاملة ، وإن قال تعمدت قتل ، وبه قال ابن شبرمة اهـ كلام القرطبي . وقد قدمنا بعضه . وأظهر الأقوال عندي : أنهم إن لم يعدلوا حدُّوا كلهم لأن من أتى بمجهول غير معروف العدالة كمن لم يأت بشيء وأنه إن أقر بأنه تعمد الشهادة عليه ، لأجل أن يقتل يقتص منه . وإن ادعى شبهة في رجوعه يغرم قسطه من الدية ، والقول بأنه يغرم الدية كاملة له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثانية عشرة : قال القرطبي : قال مالك ، والشافعي من قذف من يحسبه عهداً فإذا هو حر فعليه الحد ، وقاله الحسن البصري ، واختاره ابن المنذر ، ومن قذف أم الولد حد . وروي عن ابن عمر . وهو قياس قول الشافعي ، وقال الحسن البصري : لا حد عليه . انتهى منه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أما حده في قذف أم الولد ، فالظاهر أنه لا يكون إلا بعد موت سيدها ، وعتقها من رأس مال مستولدها ، أما قبل ذلك فلم تتحقق حريتها بالفعل ، ولا سيما على قول من يجيز بيعها من العلماء . والقاذف لا يحد بقذف من لم يكن حراً حرية كاملة فيما يظهر ، وكذلك لو قيل : إن من قذف من يظنه عبداً ، فإذا هو حر لا يجب عليه الحد لأنه لم ينو قذف حر ، وإنما نوى قذف عبد لكان له وجه من النظر ؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، ولأن المعرة تزول عن المقذوف بقول القاذف : ما قصدت قذفك ولا أقول : إنك زان ، وإنما قصدت بذلك من كنت أعتقده عبداً فأنت عفيف في نظري ، ولا أقول فيك إلا خيراً والعلم عند الله تعالى . المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة ، أو قذف واحداً مرات متعددة . وقد قدمنا خلاف أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات الحج . قال ابن قدامة في المغني في شرحه لقول الخرقي : وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة ، فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم ، ما نصه : وبهذا قال طاوس والشعبي : والزهري ، والنخعي ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، وأبو حنيفة وصاحباه ، وابن أبي ليلى وإسحاق . وقال الحسن وأبو ثور ، وابن المنذر : لكل واحد حد كامل ، وعن أحمد مثل ذلك ، وللشافعي قولان كالروايتين ، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم ، فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات ، ولنا قول الله تعالى { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } : [ النور : 4 ] ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ، ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة ، فلم يحدهم عمر إلا حداً واحداً ، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحداً ، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف ، وتزول المعرة ، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفاً منفرداً ، فإن كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في آخر ، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر فإذا ثبت هذا ، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم ، وإن طلبه واحد أقيم الحد ، لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل ، فأيهم طالب به استوفى ، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها ، إذا قام به واحد سقط عن الباقين ، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به ، واستيفاؤه لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه ، وليس للعافي الطلب به ، لأنه قد أسقط حقه . وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى ، أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحدّ واحد ، وكذلك إن طلبوه واحداً بعد واحد إلا أنه لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد ، وإن طلبه واحد فأقيم له ، ثم طلبه آخر أقيم له ، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة ، لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه ، وقع استيفاؤه لجميعهم . وإذا طلبه واحد منفرداً كان استيفاؤه له وحده ، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ، سقاطهم ، وإن قدف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد وبهذا قال عطاء والشعبي ، وقتادة ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة والشافعي . وقال حماد ومالك : لا يجب إلا حد واحد ، لأنها جناية توجب حداً ، فإذا تكررت كفى حد واحد ، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء ، أو شرب أنواعاً من المسكر ، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص ، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق الله تعالى إلى أن قال : وإن قذف رجلاً مرات فلم يحد فحد واحد رواية واحدة ، سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات ، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت ، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم ، وحكي عن ابن القاسم : أنه أوجب حداً ثانياً ، وهذا يخالف إجماع الصحابه ، فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا ثانياً فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان ، فبلغ ذلك عمر فكبر عليه وقال شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة ، وجاء زياد فقال ما عندك ؟ فلم يثبت فامر بجلدهم فجلدوا ، وقال شهود زور . فقال أبو بكرة : أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه ؟ قال : نعم . والذي نفسي بيده فقال أبو بكرة : وأنا أشهد أنه زان ، فأراد أن يعيد عليه الحد فقال علي يا أمير المؤمنين : إنك إن أعدت عليه الحد ، أوجبت عليه الرجم . وفي الحديث آخر : فلا يعاد في فرية جلد مرتين . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله قول علي : إن جلدته فأرجم صاحبك ، قال : كأنه جعل شهادته شهادة رجلين : قال أبو عبد الله : وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في الحديث فأعجبني ثم قال يقول : إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهداً آخر ، فأما إن حد له وقذفه بزنا ثان نظرت ، فإن قذفه بعد طول الفصل فحدّ ثان ، لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبداً بحيث يمكن من قذفه بكل حال ، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان . إحداهما : يحد أيضاً لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد ، فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل ، ولأن سائر أسباب الحد ، إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه ، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب . والثانية : لا يحد ، لأنه قد حد له مرة فلم يحد له بالقذف عقبه كما لو قذفه بالزنا الأول . انتهى من المغني ، وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات قذف واحداً مرات . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : هذه المسائل لم نعلم فيها نصاً من كتاب ولا سنة . والذي يظهر لنا فيها والله تعالى أعلم : أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد ، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع ، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع . والأظهر عندنا فيمن رمى جماعة بكلمات : أنه يتعدد عليه الحد ، بعدد الكلمات التي قذف بها ، لأنه قذف كل واحد قذفاً مستقلاً لم يشاركه فيه غيره وحده لبعضهم ولا يظهر به كذبه على الثاني الذي قذفه بلفظ آخر ، ولا تزول به عنه المعرة . وهذا إن كان قذف كل واحد منهم قذفا مفرداً لم يجمع معه غيره لا ينبغي أن يختلف فيه ، والأظهر أنه إن قذفهم بعبارات مختلفة تكرر عليه الحد بعددهم ، كما اختاره صاحب المغني . والأظهر عندنا : أنه إن كرر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحد عليه يكفي فيه حد واحد ، وأنه إن رماه بالزنا بعد حده للقذف الأول بعد طول حد أيضاً ، وإن رماه قرب زمن حده بعين الزنا الذي حد له لا يعاد عليه الحد ، كما حكاه صاحب المغني في قصة أبي بكرة والمغيرة بن شعبة ، وإن كان القذف الثاني غير الأول . كأن قال في الأول : زينب بأمرأة بيضاء ، وفي الثاني قال : بامرأة سوداء ، فالظاهر تكرره والعلم عند الله تعالى . وعن مالك رحمه الله في المدونة : إن قذف رجلاً فلما ضرب أسواطاً قذفه ثانياً أو آخر ابتدئ الحد عليه ثمانين من حين يقذفه ولا يعتد بما مضى من السياط . المسألة الرابعة عشرة : الظاهر أن من قال لجماعة : أحدكم زان أو ابن زانية لا حد عليه لأنه لم يعين واحداً فلم تلحق المعرة واحداً منهم ، فإن طلبوا إقامة الحد عليه جميعاً لا يحد ، لأنه لم يرم واحداً منهم بعينه ، ولم يعر من أراد بكلامه . نقله المواق عن الباجي عن محمد بن المواز ، ووجهه ظاهر كما ترى . واقتصر عليه خليل في مختصرة في قوله عاطفاً على ما لا حد فيه . أو قال لجماعة : أحدكم زان . وقال ابن قدامة في المغني : واذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل ، فلا حد عليه ، في قول أحد من أهل العلم . وكذلك إن اختلف رجلان في شيء فقال أحدهما الكاذب : هو ابن الزانية ، فلا حد عليه نص عليه أحمد ، لأنه لم يعين أحداً بالقذف ، وكذلك ما أشبه هذا ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم ، مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنى كلهم ، لم يكن عليه حد ، لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه . انتهى منه . المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل : أنت أزنى من فلان . فهو قاذف لهما ، وعليه حدان ، لأن قوله أزنى صيغة تفضيل ، وهي تدل على اشتراك المفضل ، والمفضل عليه في أصل الفعل ، إلا أن المفضل أفضل فيه من صاحبه المشارك له فيه ، فمعنى كلامه بدلالة المطابقة في صيغة التفضيل : أنت وفلان زانيان ، ولكنك تفوقه في الزنى ، وكون هذا قذفاً لهما واضح كما ترى ، وبه تعلم أن أحد الوجهين عند الحنابلة أن يحد للمخاطب فقط ، دون فلان المذكور ، لا ينبغي أن يعول عليه ، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي ، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول ، ولا للثاني إلا أن يريد به القذف كل ذلك لا يصح ولا ينبغي التعويل عليه ، لأن صيغة أنت أزنى من فلان قذف صريح لهما بعبارة واضحة ، لا إشكال فيها . وقال ابن قدامة في المغني محتجاً للوجه الذي ذكرنا عن الحنابلة : أنه لا حد على الثاني : ما نصه : والثاني يكون قذفاً للمخاطب خاصة لأن لفظه افعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل ، كقول الله تعالى : { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } [ يونس : 35 ] وقال تعالى : { فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ } [ الأنعام : 81 ] وقال لوط : { بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [ هود : 78 ] أي من أدبار الرجال ، ولا طهارة فيها لا ينبغي التعويل عليه كما أنه هو ساقه ، ولم يعول عليه . وحاصل الاحتجاج المذكور : أن صيغة التفضيل قد ترد مراداً بها مطلق الوصف ، لا حصول التفضيل بين شيئين ، ومثل له هو بكلمة : أحق أن يتبع وكلمة : أحق بالأمن ، وكلمة : أطهر لكم ، لأن صيغة التفضيل في الآيات المذكورة لمطلق الوصف لا للتفضيل . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : لا يخفى أن صيغة التفضيل قد ترد لمطلق الوصف كما هو معلوم ، ومن أمثلته الآيات التي ذكرها صاحب المغني ، ولكنها لا تحمل على غير التفضيل ، إلا بدليل خارج يقتضي ذلك والآيات التي ذكر معلوم أنها لا يمكن أن تكون للتفضيل ، لأن الأصنام لا نصيب لها من أحقِّيِّة الاتباع أصلاً في قوله : { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ } [ يونس : 35 ] ولأن الكفار لا نصيب لهم في الأحقية بالأمن ، ولأن أدبار الرجال لا نصيب لها في الطهارة . ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضاً قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] أي هين سهل عليه ، وقول الشنفرى : @ وإن مدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل @@ أي لم أكن بالعجل منهم وقول الفرزدق : @ إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول @@ أي عزيزة طويلة . وقول معن بن أوس : @ لعمرك ما أدري وإني لأوْجَل على أيِّنا تعدو المنيَّة أول @@ أي لوجل . وقول الأحوص بن محمد الأنصاري : @ أني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأمْيَلُ @@ أي لمائل . وقول الآخر : @ تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد @@ أي بواحد . وقال الآخر : @ لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل @@ أي وفاضل . إلى غير ذلك من الشواهد ، ولكن قدمنا أنها لا تحمل على مطلق الوصف ، إلا لدليل خارج ، أو قرينة واضحة تدل على ذلك . وقوله له : أنت أزنى من فلان ليس هناك قرينة ، ولا دليل صارف لصيغة التفضيل ، عن أصلها ، فوجب إبقاؤها على أصلها ، وحد القاذف ، لكل واحد منهما والإتيان بلفظة من في قوله : أنت أزنى من فلان ، يوضح صراحة الصيغة في التفضيل ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السادسة عشر : اعلم أنه لا يجوز رمي الملاعنة بالزنى ، ولا رمي ولدها بأنه ابن زنى ، ومن رمى أحدهما فعليه الحد ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه لم يثبت عليها زنى ، ولا على ولدها أنه ابن زنى ، وإنما انتفى نسبه عن الزوج بلعانه . وفي سنن أبي داود حدثنا الحسن بن علي ، ثنا يزيد بن هارون ، ثنا عباد بن منصور عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فجاء من أرضه عشياً فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينه وسمع بأذنه الحديث وفيه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعي ولدها لأب ، ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد إلى آخر الحديث . وفي هذا الحديث : التصريح بأن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد . واعلم أن ما نقله الشيخ الحطاب عن بعض علماء المالكية من أن من قال لابن ملاعنة : لست لأبيك الذي لاعن أمك ، فعليه الحد خلاف التحقيق ، لأن الزوج الملاعن ينتفي عنه نسب الولد باللعان ، فنفيه عنه حق مطابق للواقع ، ولذا لا يتوارثان ومن قال كلاماً حقاً ، فإنه لا يستوجب الحد بذلك ، كما لو قال له : يا من نفاه زوج أمه أو يابن ملاعنة أو يابن من لوعنت ، وإنما يجب الحد على قاذفه فيما لو قال له : أنت ابن زنى ونحوها من صريح القذف ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة عشرة : في حكم ما لو قال لرجل يا زانية بتاء الفرق ، أو قال لامرأة يا زاني بلا تاء . قال ابن قدامة في المغني . هو قذف صريح لكل منهما قال : واختار هذا أبو بكر ، وهو مذهب الشافعي ، واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره ، وهو قول أبي حنيفة ، لأنه يحتمل أن يريد بقوله يا زانية أي يا علامة في الزنا . كما يقال للعالم : علامة ، ولكثير الرواية راوية ولكثير الحفظ حفظة ، ولنا أن ما كان قذفاً لأحد الجنسين كان قذفاً للآخر كقوله زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعاً ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا ، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها ، ولذلك لو قال للمرأة : يا شخصاً زانياً ، وللرجل : يا نسمة زانية كان قاذفاً . وقولهم إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فإنما كان اسماً للفعل ، إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة ، كقولهم : حفظة للمبالغ في الحفظ وراوية للمبالغ في الرواية ، وكذلك همزة لمزة وصرعة ، ولأن كثيراً من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ، ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مراداً بما يراد باللفظ الصحيح . انتهى كلام صاحب المغني . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي فيمن قال لذكر : يا زانية بصيغة التأنيث ، أو قال لامرأة : يا زاني بصيغة التذكير ، أنه يلزمه الحد . وإيضاحه أن القاذف بالعبارتين المذكورتين لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون عامياً ، لا يعرف العربية أو يكون له علم باللغة العربية ، فإن كان عامياً فقد يكون غير عالم بالفرق بين العبارتين ، ونداؤه للشخص بلفظ الزنى ظاهر في قصده قذفه ، وإن كان عالماً باللغة ، فاللغة يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصاً . وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ النحل : 14 ] ، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان رضي الله عنه : @ منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم من حبيب أصاب قلبك منه سقم فهو داخل مكتوم @@ ومراده بالحبيب أنثى بدليل قوله بعده : @ لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم @@ وقول كثير : @ لئن كان يرد الماء هيمان صادياً إلى حبيباً إنها لحبيب @@ ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي : @ ولكن ليلى أهلكتني بقولها نعم ثم ليلى الماطل المتبلح @@ يعني ليلى الشخص الماطل المتبلح . وقول عمرة بن حزام العذري : @ وعفراء أرجى الناس عندي مودة وعفراء عني المعرض المتواني @@ أي الشخص المعرض . وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثى باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته ، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس ، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف كقوله : @ أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال @@ المسألة الثامنة عشرة : اعلم أن من رمى رجلاً قد ثبت عليه الزنى سابقاً أو امرأة ، قد ثبت عليها الزنى سابقاً ببينة ، أو إقرار ، فلا حد عليه ، لأنه صادق ، ولأن إحصان المقذوف قد زال بالزنى ، ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } الآية . فهو يدل بمفهومه أن من رمى غير محصنة لا حد عليه ، وهو كذلك ، ولكنه يلزم تعزيره ، لأنه رماه بفاحشة ولم يثبتها ، ولا يترك عرض من ثبت عليه الزنى سابقاً مباحاً لكل من شاء أن يرميه بالزنى دون عقوبة رادعة كما ترى . المسألة التاسعة عشرة : اعلم أن الإنسان إذا كان مشركاً وزنى في شركة أو كان مجوسياً ، ونكح أمه أو ابنته مثلاً في حال كونه مجوسياً ، ثم أسلم بعد ذلك فرماه أحد بالزنى بعد إسلامه فله ثلاث حالات : الأولى : أن يقول له : يا من زنى في أيام شركه أو يا من نكح أمه مثلاً في أيامه مجوسياً ، وهذه الصورة لا حدّ فيها لأن صاحبها أخبر بحق والإسلام يجبّ ما قبله . الثانية : أن يقول له : يا من زنى بعد إسلامه أو نكح أمه بعد إسلامه ، فعليه الحد كما لا يخفى . الثالثة : أن يقول له : يا زاني ، ولم يتعرض لكون ذلك قبل إسلامه ، أو بعده فإن فسره بأنه أراد أنه زنى بعد إسلامه ، فعليه الحد ، وإن قال : أردت بذلك زناه في زمن شركه ، فهل يقبل منه هذا التفسير ، ويسقط عنه الحد ، أو لا يقبل ذلك منه ، ويقام عليه الحد . اختلف العلماء في ذلك ، وممن قال بأنه يحد ولا يلتفت إلى تفسيره ذلك : مالك وأصحابه ، وصرح به الخرقي من الحنابلة . وقال ابن قدامة في المغني : لا حد عليه ، وخالف في ذلك الخرقي في شرحه لقول الخرقي : ومن قذف من كان مشركاً وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله ، وحد القاذف إذا طلب المقذوف ، وكذلك من كان عبداً . انتهى . المسألة العشرون : اعلم أن من قذف بنتاً غير بالغ بالزنى ، أو قذف به ذكراً غير بالغ فقد اختلف أهل العلم ، هل يجب على القاذف الحد أو لا يجب عليه ؟ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير الآية التي نحن بصددها : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قاذفاً عند مالك . وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف ، لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ويعزر . قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة لكن مالك غلب حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية ظهر القاذف ، وحماية عرض المقذوف أولى ، لأن القاذف كشف ستره بطرف فلزمه الحد . قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع ، يحد قاذفها ، وكذلك الصبي إذا بلغ عشراً ضرب قاذفه ، قال إسحاق : إذا قذف غلاماً يطأ مثله ؛ فعليه الحد ، والجارية إذا جاوزت تسعاً مثل ذلك قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ ؛ لأن ذلك كذب ، ويعزر على الأذى . اهـ محل الغرض منه بلفظه . وإذا عرفت مما ذكرنا أقوال أهل العلم في المسألة ، فاعلم أن أظهرها عندنا قول ابن المنذر : إنه لا يحد ولكن يعزر ، ووجه ذلك أن من لم يبلغ من الذكور والإناث مرفوع عنه القلم ، ولا معرة تلحقه بذنب ، لأنه غير مؤاخذ ، ولو جاء قاذف الصبي بأربعة شهداء على الصبي بالزنى فلا حد عليه إجماعاً ، ولو كان قذفه قذفاً على الحقيقة للزمه الحد بإقامة القاذف البينة على زناه ، وإن خالف في هذا جمع من أجلاء العلماء ، ولكنه يعزر التعزير البالغ الرادع له ، ولغيره عن قذف من لم يبلغ . والعلم عند الله تعالى . المسألة الحادية والعشرون : اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة أن القاذف إن كان عامياً لا يفرق بين المعتل والمهموز أنه يحد لظهور قصده لقذفه بالزنى . وإن كان عالماً بالعربية ، وقال : إنما أردت بقولي : زنأت بالهمزة معناه اللغوي ، ومعنى زنأت بالهمزة : لجأت إلى شيء ، أو صعدت في جبل ، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيماً وهو صغير : @ أشبه أبا أمك أو أشبه حمل ولا تكونن كهلوف وكل يصبح في مضجعه قد انجدل وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل @@ ومحل الشاهد منه قوله : زنأ في الجبل أي صعوداً فيه ، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية ، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره ، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأم الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس ، ورد ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري . ورواه هو وغيره على ما ذكرنا ، قال : وقالت أمه ترد على أبيه : @ أشبه أخى أو أشبهن أباكا أما أبي فلن تنال ذاكا تقصر أن تناله يداكا @@ قاله في اللسان . المسألة الثانية والعشرون : فيمن نفى رجلاً عن جده أو عن أمه أو نسبه إلى شعب غير شعبه ، أو قبيلة غير قبيلته . فذهب مالك : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه ، لأنه لم يدع عليها الزنا ، ولم ينف نسبه عن أبيه ، وإن نفاه عن جده لزمه الحد ، ولا حد عنده في نسبة جنس لغيره ، ولو أبيض لأسود . قال في المدونة : إن قال لفارسي : يا رومي أو يا حبشي ، أو نحو هذا لم يحد . وقال ابن القاسم : اختلف عن مالك في هذا ، وإني أرى ألا حد عليه إلا أن يقول : يا ابن الأسود ، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحد ، وأما إن نسبه إلى حبشي كأن قال : يا ابن الحبشي وهو بربري فالحبشي والرومي في هذا سواء إذا كان بربرياً . وقال ابن يونس : وسواء قال : يا حبشي أو يا ابن الرومي ، فإنه لا يحد ، وكذلك عنه في كتاب محمد ، قال الشيخ المواق : هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس فانظره أنت اهـ . وهذا الذي ذكرنا من عدم حد من نسب جنساً إلى غيره هو مشهور مذهب مالك ، وقد نص عليه في المدونة ، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب . قال مالك في المدونة : من قال لعربي : يا حبشي أو يا فارسي ، أو يا رومي فعليه الحد ، لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مالك لا يتجه كل الاتجاه ، ووجه كون من قال لرومي : يا حبشي مثلاً ، لا يحد . أن الظاهر أنَّ مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله ، وهو استعمال معروف في العربية اهـ . ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جده لا حد عليه ، بأن قال له : لست ابن جدك أنه لا حد عليه ، لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لا جده ، وكذلك لو نسب جنسياً إلى غيره كقوله لعربي : يا نبطي ، فلا حد عليه عنده على المشهور ، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته ، لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال ، أو عدم الفصاحة ، ونحو ذلك ، فلا يتعين قصد القذف . وقال صاحب تبيين الحقائق : وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل لرجل من قريش : يا نبطي ، فقال لا حد عليه اهـ . وكذلك لا يحد عند أبي حنيفة من قال لرجل : يا ابن ماء السماء أو نسبه إلى عمه أو خاله ، خلافاً للمالكية ، ومن وافقهم القائلين بحد من نسبه لعمه ، ونحوه أو زوج أمه الذي هو ربيبه ، لأن العم والخال كلاهما كالأب في الشفقة ، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة ، وقوله : ابن ماء السماء ، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء ، قالوا : وكان عامر بن حارثة : يلقب بماء السماء لكرمه ، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر . قالوا : وسميت أم المنذر بن امرئ القيس بماء السماء ، لحسنها وجمالها . وقيل لأولادها : بنو ماء السماء وهم ملوك العراق اهـ . وإن نسبه لجده فلا حد عليه عند أبي حنيفة ، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جده كما هو واقع بكثرة على مر الأزمنة من غير نكير اهـ . ومذهب الإمام أحمد : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه . واختلف عنه فيمن نفى رجلاً عن قبيلته أو نسب جنساً لغيره . قال ابن قدامة في المغني : وإذا نفى رجلاً عن أبيه ، فعليه الحد نص عليه أحمد ، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته وبهذا قال إبراهيم النخعي ، وإسحاق . وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وحماد . اهـ . وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة والمشهور عنه بما ذكرناه قريباً ، ثم قال ابن قدامة في المغني : والقياس يقتضي ألا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته ، ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا ، فأشبه ما لو قال لأعجمي : إنك عربي ، لو قال للعربي : أنت نبطي أو فارسي فلا حد عليه ، وعليه التعزير نص عليه أحمد ، لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع . وحكى عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه والأول أصح ، وبه قال مالك ، والشافعي ، لأنه يحتمل غير القذف كثيراً فلا يتعين صرفه إليه ، ومتى فسر شيئاً من ذلك بالقذف فهو قاذف اهـ . من المغني . وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي ، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يحد صاحبه لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقل عن شبهة قوية . وقد ذكر ابن قدامة في المغني أن الأشعث بن قيس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول " لا أوتي برجل يقول : إن قريشاً ليست من كنانة إلا جلدته " اهـ . وانظر إسناده . المسألة الثالثة والعشرون : في أحكام كلمات متفرقة كمن قال لرجل : يا قرنان ، أو يا ديوث ، أو يا كشخان ، أو يا قرطبان ، أو يا معفوج ، أو يا قواد ، أو يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ، أو يا مخنث . أو قال لامرأة : يا قحبة . اعلم أن أهل العلم اختلفوا في هذه العبارات المذكورة فمذهب مالك : هو أن من قال لرجل يا قرنان لزمه حد القذف لزوجته إن طلبته ، لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة ، وكذلك من قال لامرأة : يا قحبة لزمه الحد عند المالكية ، وكذلك من قال : يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات . كل ذلك فيه حد القذف عند المالكية ، كما تقدمت الإشارة إليه ، قالوا لأن الزانية في الجاهلية كانت تنزل الركبان ، وتجعل على بابها راية ، وكذلك لو قال له : يا مخنث لزمه الحد ، إن لم يحلف أنه لم يرد قذفاً ، فإن حلف أنه لم يرده أدب ، ولم يحد . قاله في المدونة ، وإن قال له : يا ابن الفاسقة أو يا ابن الفاجرة ، أو يا فاجر ، أو يا حمار ابن الحمار ، أو يا كلب ، أو يا ثور ، أو يا خنزير . ونحو ذلك فلا حد عليه ، ولكنه يعزر تعزيراً رادعاً حسبما يراه الإمام ، ومذهب أبي حنيفة : أنه قال له يا فاسق ، يا كافر ، يا خبيث ، يا لص يا فاجر يا منافق ، يا لوطي يا من يلعب بالصبيان ، يا آكل الربا يا شارب الخمر ، يا ديوث ، يا مخنث ، يا خائن ، يا ابن القحبة ، يا زنديق ، يا قرطبان ، يا مأوى الزواني أو اللصوص ، يا حرام . أنه لا حد عليه في شيء من هذه الألفاظ ، وعليه التعزير ، وآكد التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون سوطاً ، وأما لو قال له : يا كلب ، يا تيس ، يا حمار ، يا خنزير ، يا بقر ، يا حية يا حجام ، يا ببغاء يا مؤاجر ، يا ولد الحرام ، يا عيار ، يا ناكس ، يا مكنوس ، يا سخرة يا ضحكة يا كشخان ، يا أبله ، يا مسوس ، فلا شيء عليه في شيء من هذه الألفاظ عند الحنفية ، ولا يعزر بها . قال صاحب تبيين الحقائق : لا يعزر بهذه الألفاظ كلها لأن من عادتهم إطلاق الحمار ونحوه بمعنى البلادة والحرص أو نحو ذلك ، ولا يريدون به الشتيمة ، ألا ترى يسمون به ويقولون : عياض بن حمار ، وسفيان الثوري ، وأبو ثور وجمل ، ولأن المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام ، وإنما يلحق القاذف . وكل أحد يعلم أنه آدمي ، وليس بكلب ولا حمار وأن القذف كاذب في ذلك . وحكى الهندواني أنه يعزر في زماننا في مثل قوله : يا كلب يا خنزير ، لأنه يراد به الشتم في عرفنا . وقال شمس الآئمة السرخسي : الأصح عندي أنه لا يعزر . وقيل : إن كان المنسوب إليه من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر ، لأنه يعد شيئاً في حقه ، وتلحقه الوحشة بذلك ، وإن كان من العامة لا يعزر ، وهذا أحسن ما قيل فيه ، ومن الألفاظ التي لا توجب التعزير قوله : يا رستاقي ويا ابن الأسود ، ويا ابن الحجام ، وهو ليس كذلك . اهـ . من تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها توجب التعزيير فوجوب التعزير بها كما ذكروا واضح لا إشكال فيه . وأما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها لا تعزير فيها ، فالأظهر عندنا أنه يجب فيها التعزير ، لأنها كلها شتم وعيب ، ولا يخفى أن من قال لإنسان : يا كلب ، يا خنزير ، يا حمار ، يا تيس يا بقر إلى آخره ، أن هذا شتم واضح لاخفاء به وليس مراده أن الإنسان كلب أو خنزير ، ولكن مراده تشبيه الإنسان بالكلب والخنزير في الخسة والصفات الذميمة كما لا يخفى ، فهو من نوع التشبيه الذي يسميه البلاغيون تشبيهاً بليغاً ولا شك أن عاقلاً قيل له : يا كلب ، أو يا خنزير مثلاً أن ذلك يؤذيه ، ولا يشك أنه شتم ، فهو أذى ظاهر وعليه فالظاهر التعزير في الألفاظ المذكورة . وكونهم يسمون الرجل حماراً أو كلباً لا ينافي ذلك لأن من الناس من يسم ابنه باسم قبيح لا يرضى غيره أن يعاب به . والظاهر أنه إن قال لرجل : يا ابن الأسود ، وليس أبوه ولا أحد من أجداده بأسود ، أنه يلزمه الحد لأنه نفي لنسبه ، وكذلك قوله : يا ابن الحجام إن لم يكن أبوه ولا أحد من أجداده حجاماً فهو قذف ، لأنه نفي لنسبه وإلصاق له بأسود أو حجام ليس بينه وبينه نسب كما هو قول المالكية ومن وافقهم . وقال صاحب تبيين الحقائق : وتفسير القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلاً ، فيدعه خاليا بها . وقيل : هو السبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح . وقيل : هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة ، أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته اهـ منه . وقال ابن قدامة في المغني : وإن قال لرجل : يا ديوث ، أو يا كشخان : فقال أحمد : يعزر ، وقال إبراهيم الحربي : الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته . وقال ثعلب : القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته . وقال : القرنان والكشخان لم أرهما في كلام العرب ، ومعناه عند العامة عند العامة مثل الديوث ، أو قريب منه ، فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث ، لأنه قذفه بما لا حد فيه . وقال خالد بن يزيد ، عن أبيه في الرجل يقول للرجل : يا قرنان إذا كان له أخوات ، أو بنات في الإسلام ضرب الحد ، يعني أنه قاذف لهن . وقال خالد عن أبيه : القرنان عند العامة من له بنات والكشخان : من له أخوات يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن ، والقوَّاد عند العامة السمسار في الزنى والقذف بذلك كله يوجب التعزير ، لأنه قذف بما لا يوجب الحد اهـ . من المغني . وقال في المغني أيضاً المنصوص عن أحمد فيمن قال : يا معفوج أن عليه الحد ، وظاهر كلام الخرقي يقتضي أن يرجع إلى تفسيره ، فإن فسر بغير الفاحشة مثل أن يقول : أردت يا مفلوج أو يا مصاباً دون الفرج ونحو هذا ، فلا حد عليه ، لأنه فسره بما لا حد فيه . وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد كما لو صرح به ، وقال صاحب القاموس القرنان : الديوث المشارك في قرينته لزوجته اهـ . منه وقال في القاموس أيضاً : القرطبان بالفتح الديوث ، والذي لا غير له أو القواد اهـ . منه وقال في القاموس : والتديث القيادة ، وفي القاموس تحت الخط لا بين قوسين الكشخان ويكسر : الديوث وكشخه تكشيخاً وكشخنة : قال له : يا كشخان اهـ . منه . وهو بالخاء المعجمة وقال الجوهري في صحاحه : والديوث وهو الذي لا غيرة له اهـ . منه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر أن التحقيق في جميع الألفاظ المذكورة التي ذكرنا كلام العلماء فيها أنها تتبع العرف الجاري في البلد الذي قيلت فيه ، فإن كان من عرفهم أن المراد بها الشتم بما لا يوجب الحد وجب التعزير ، لأجل الأذى ولا حد ، وإن كان عرفهم أنها يراد بها الشتم بالزنى ، أو نفي النسب ، وكان ذلك معروفاً أنه هو المقصود عرفاً ، وجب الحد ، لأن العرف متبع في نحو ذلك . والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة والعشرون : في حكم من قذف محصناً بعد موته ، ومذهب مالك في ذلك هو قوله في المدونة : من قذف ميتاً فلولده ، وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك ، ومن قام منهم أخذه بحده ، وإن كان ثم من هو أقرب منه ، لأنه عيب ، وليس للأخوة ، وسائر العصبة مع هؤلاء قيام ، فإن لم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام . اهـ بواسطة نقل المواق . وحاصلة : أن الميت المقذوف يحد قاذفه بطلب من وجد من فروعه ، وإن سفلوا أو واحد من أصوله ، وإن علوا . ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الأخوة والعصبة ، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد ، فللأخوة والعصبة القيام ، ويحد للمقذوف بطلبهم . هذا حاصل مذهب مالك في المسألة ، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميت أباً أو أماً ، وبعض أهل العلم يفرق بين قذف الأب والأم ، لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها ، لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أمه . وقال ابن قدامة في المغني : وإن قذف أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة ، حد القاذف إذا طلب الابن وكان حراً مسلماً ، أما إذا قذف وهي في الحياة ، فليس لولدها المطالبة لأن الحق لها ، فلا يطالب به غيرها ، ولا يقوم غيرها مقامها ، سواء كانت محجوراً عليها أو غير محجور عليها ، لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص ، وتعتبر حصانتها ، لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد . وأما إن قذفت وهي ميتة . فإن لولدها المطالبة ، لأنه قدح في نسبه ، ولأنه يقذف أمه بنسبته إلى أنه ابن زنى ، ولا يستحق ذلك بطريق الإرث ، ولذلك تعتبر الحصانة فيه ، ولا تعتبر الحصانة في أمه ، لأن القذف له . وقال أبو بكر : لا يجب الحد بقذف ميتة بحال ، وهو قول أصحاب الرأي ، لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة ، فأشبه قذف المجنون . وقال الشافعي : إن كان الميت محصناً فلوليه المطالبة ، وينقسم بانقسام الميراث ، وإن لم يكن محصناً فلا حد على قاذفه ، لأنه ليس بمحصن ، فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حياً ، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف من ليس محصناً حياً ولا ميتاً ، لأنه إذا لم يحد بقذف غير المحصن إذا كان حياً فلأن لا يحد بقذفه ميتاً أولى ، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الملاعنة ومن رمى ولدها فعليه الحد ، يعني من رماه بأنه ولد زنى ، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك ، فبقذف غيره أولى ، ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلاً عن أبيه إذا كان أبواه حرَّين مسلمين ، ولو كان ميتين ، والحد إنما وجب للولد ، لأن الحد لا يورث عندهم فأما إن قذفت أمه بعد موتها ، وهو مشرك أو عبد ، فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي ، سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن . وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا قال لكافر أو عبد : لست لأبيك وأبواه حران مسلمان فعليه الحد ، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد : لست لأبيك فعليه الحد ، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور وقال أصحاب الرأي : يصح أن يحد المولى لعبده ، واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر إحصانها دون إحصانه ، لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ، ولأن معنى هذا : إن أمك زنت فأتت بك من الزنى ، فإذا كان من الزنى منسوباً إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها . ولنا ما ذكرناه ، ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد ، لأن الكافر لا يرث المسلم ، والعبد لا يرث الحر ، ولأنهم لا يوجبون الحد لقذف ميئة بحال ، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه . والله أعلم اهـ . بطوله من المغني . وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة ، إن كان لها أولاد ، ورمي المرأة الحية التي لها أولاد ، وبه نعلم أن الحد يورث عند المالكية والشافعية إلا أنه عند المالكية ، لا يطلبه إلا الفروع والأصول ، ويحد بطلب كل منهم وأن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحد ، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الأخوة والعصبة ، وكل ذلك يدل على أنهم ورثوا ذلك الحق في الجملة عن المقذوف الميت ، وأن الشافعية يقولون : إنه ينقسم بانقسام الميراث ، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور ، وأن الحنفية يقولون : إن الحد لا يورث ، وهو ظاهر المذهب الحنبلي ، وأن بعض أهل العلم قال : لا يحد قذف ميتة بحال . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم في هذه المسألة : أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية ، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي لأنه مقذوف بقذفها ، خلافاً لما في كلام صاحب المغني ، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام ، ويحد له القاذف . وقول صاحب المغني تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى ، لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه ، لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى ، فإنه هو لا ذنب له ، ولا يعتبر زانيا كما ترى . والحاصل : أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها ، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم ، وبطلب الولد ، وإن كانت حية ، لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة ، وإن كانت الأم لا ولد لها أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة : هل يحد من قذف ميتاً أو لا ؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها ، ولكل واحد من القولين وجه من النظر ، لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت ، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة ، ووجه الثاني : أن الميتة لا يصح منها الطلب ، فلا يحد بدون طلب ، لأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف ، وإن كان كذباً بل يفرح به ، لأنه يكون له فيه حسنات ، وإن كان حقاً ما رماه به ، فلا حاجة له بحده بعد موته ، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه . اهـ . وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيراً رادعاً ولا يقام عليه الحد . واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا ، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق ، فقد قال بعض أهل العلم : إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به ، وهو مذهب مالك ، ومن وافقه . والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده ، لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد ، وهو يعلم أنه محق فيما قال : والعلم عند الله تعالى . وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم أو قذفه هو صلى الله عليه وسلم أن ذلك ردة ، وخروج من دين الإسلام ، وهو ظاهر لا يخفى ، وأن حكمه القتل ، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته ؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال وقال بعض أهل العلم : تقبل توبته إن تاب ، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب ، ولو من أعظم الكفر أنواع . والله تعالى أعلم . المسألة الخامسة والعشرون : في حكم من قذف ولده : وقد اختلف أهل العلم في ذلك . قال في المغني : وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه ، سواء كان القاذف رجلاً أو امرأة وبهذا قال عطاء ، والحسن ، والشافعي ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وقال مالك ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو ثور ، وابن المنذر عليه الحد لعموم الآية ، ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى . وأظهر القولين دليلاً : أنه لا يحد الوالد لولده لعموم قوله : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ البقرة : 83 ] [ النساء : 36 ] ، [ الإنعام : 151 ] ، [ الإسراء : 23 ] وقوله { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] فلا ينبغي للولد أن يطلب حد والده للتشفي منه ، وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال ، لأنهم يقولون : إن الولد يمكن من حد والده القاذف له وأنه يعد بحده له فاسفاً بالعقوق كما قال خليل في مختصره وله حد أبيه وفسق ، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة ، والشرع لا يمكن أحداً من ارتكاب كبيرة . كما ترى مع أن الروايات عن مالك نفسه ظاهرها عدم الحد وقاله غير واحد من أهل مذهبه . المسألة السادسة والعشرون : في حكم من قتل أو أصاب حداً خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفي منه الحق في الحرم ، أو لا يستوفي منه حتى يخرج من الحرم ؟ اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب : الأول : أنه يستوفي منه الحق قصاصاً كان أو أحداً قتلاً كان أو غيره . الثاني : أنه لا يستوفى منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم سواء كان قتلاً أو غيره . الثالث : أنه يستوفى منه كل شيء من الحدود إلا القتل ، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم ، ولا في قصاص والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم . قال ابن قدامة في المغني : وجملته أن من جنى جناية توجب قتلاً خارج الحرم ، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه ، وهذا قول ابن عباس : وعطاء ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، وإسحاق ومجاهد ، والشعبي ، وأبي حنيفة وأصحابه . وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس ، فعن أحمد روايتان : إحداهما : لا يستوفى من الملتجيء إلى الحرام فيه . والثانية : يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة ، لأن الروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام : " فلا يسفك فيها دم " وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي ، وهي ظاهر المذهب . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته ، حتى يخرج منه إلى أن قال : وقال مالك والشافعي وابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني ، وقطع السارق ، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان . اهـ محل الغرض منه . وقال ابن حجر في فتح الباري . وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم ، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم ، ويوعظ ، ويذكر حتى يخرج . وقال أبو يوسف : يخرج مضطراً إلى الحل وفعله ابن الزبير . وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس : من أصاب حداً ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع . وعن مالك والشافعي : يجوز إقامة الحد مطلقاً فيها ، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن . اهـ محل الغرض منه . وقال الشوكاني في نيل الأوطار مشيراً إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم ، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر ، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان . وذهب الجمهور من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم ، والحنيفة ، وسائر أهل العراق ، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة : إلى أنه لا يحل أن يسفك بالحرم دماً ، ولا يقيم به حداً حتى يخرج منه من لجأ إليه . اهـ محل الغرض منه . وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه أدلتهم ومناقشتها : أما الذين قالوا : يستوفى منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك ، والشافعي ، وابن المنذر ، ومن وافقهم ، فقد استدلوا بأدلة : منها : أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص ، ليس في شيء منها تخصيص مكان دون مكان ولا زمان دون زمان ، وظاهرها شمول الحرم وغيره . قالوا : والعمل بظواهر النصوص واجب ، ولا سيما إذا كثرت . ومنها : أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة الحرم ، لأن أحق البلاد ، بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمة ، وطاعة الله في حرمة ليس فيها انتهاك له كما ترى . أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة ، فهو استدلال في غاية السقوط ، لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غلط غلطاً فاحشاً ، لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما ، قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح العدوي " أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : أئذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغد من يوم الفتح ، فسمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حمد الله ، وأثنى عليه ثم قال : " إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له : إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ ، الشاهد الغائب ، " فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح : إن الحرم لا يعيذ عاصياً إلى آخره ، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح " لما ذكر له كلام النبي صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق ، ولا سيما في حال معارضته به لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح رضي الله عنه . وفي صحيح مسلم رحمه الله مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسناداً ومتناً . وإذا تقرر أن القائل إن الحرم لا يعيذ عاصياً إلى آخره هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم " أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة " لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له في الحرم ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أن حرمتها عادت كما كانت ، ففعله صلى الله عليه وسلم في وقت إحلال له ساعة في نهار ، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة كما ترى . وأما الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص في غير النفس ، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه فيه " فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ؛ " قالوا تصريحه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن سفك الدم ، دون غيره دليل على أنه ليس كغيره ، ولا يقاس غيره عليه ، لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس فيبقى غير القتل داخلاً في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان ، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح ، ويؤيده أن قوله : دماً نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد أو غير ذلك . واستدلوا أيضاً بقول ابن عمر رضي الله عنهما : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته . قال المجد في المنتقي : حكاه أحمد في رواية الأثرم . وأما الذين قالوا : بأن الحرم لا يستوفى فيه شيء من الحدود ، ولا من القصاص قتلاً كان أو غيره ، فقد استدلوا بقوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] ، قالوا وجملة ، { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ، خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام ، يستوجب أمن من دخل الحرم ، وعدم التعرض له بسوء ، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم . واستدلوا أيضاً بآثار عن بعض الصحابة ، كما روي عن ابن عباس ، أنه قال في الذي يصيب حداً ثم يلجأ إلى الحرم : يقام عليه الحد ، إذا خرج من الحرم ، قال المجد في المنتقى : حكاه أحمد في رواية الأثرم ، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال : يستوفى من اللاجئ إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعاً ، قتلاً كان أو غيره ، لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله ، وفعل ذلك طاعة ، وتقرب إليه وليس في طاعة الله ، وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه ، وأجراها على الأصول ، وهو أولاها ، هو الجمع بين الأدلة ، وذلك بقول من قال : يضيق علي الجاني اللاجئ إلى الحرم ، فلا يباع له ، ولا يشتري منه ، ولا يجالس ، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج ، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم ، لأن هذا القول جامع بين النصوص ، فقد جمع بين استيفاء الحق ، وكون ذلك ليس في الحرم ، وفي هذا خروج من الخلاف . والعلم عند الله تعالى . ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية .