Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 6-7)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : وعد الله ، مصدر مؤكد لنفسه ، لأن قوله قبله : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [ الروم : 3 ] إلى قوله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ ٱللَّهِ } [ الروم : 4ـ5 ] هو نفس الوعد كما لا يخفى ، أي وعد الله ذلك وعداً . وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أمور : الأول : أنه لا يخلف وعده . والثاني : أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون . والثالث : أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا . والرابع : أنهم غافلون عن الآخرة . وهذه الأمور الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع . أما الأول منها : وهو كونه لا يخلف وعده ، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [ الرعد : 31 ] وقد بين تعالى أن وعيده للكفار لا يخلف أيضاً في آيات من كتابه كقوله تعالى : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } [ ق : 28ـ29 ] الآية . والتحقيق : أن القول الذي لا يبدل لديه في هذه الآية الكريمة ، هو وعيده للكفار . وكقوله تعالى : { كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] وقوله : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } [ ص : 14 ] ، فقوله : حق في هاتين الآيتين . أي وجب وثبت ، فلا يمكن تخلفه بحال . وأما الثاني منها : وهو أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعملون ، فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة ، فقد بين تعالى في آيات أن أكثر الناس هم الكافرون كقوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ هود : 17 ] . وقوله تعالى : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الصافات : 71 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 ـ67ـ103ـ139ـ158ـ174 - 190 ] . وقوله تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116 ] ، وقوله تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد بين جل وعلا أيضاً في آيات من كتابه أن الكفار لا يعلمون كقوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] . وقوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] ، وقوله تعالى : { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ، وقوله تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 44 ] وقوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] إلى غير ذلك من الآيات . وأما الثالث منها : وهو كونهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ، فقد جاء أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [ العنكبوت : 38 ] : أي في الدنيا . وقوله تعالى : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } [ النجم : 29ـ30 ] الآية . وأما الرابع منها : وهو كونهم غافلين عن الآخرة فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى عنهم : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } [ المؤمنون : 36ـ37 ] الآية . وقوله تعالى عنهم : { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } [ الدخان : 35 ] ، { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ الأنعام : 29 ] و [ المؤمنون : 37 ] ، { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] والآيات في ذلك كثيرة معلومة . تنبيه اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان : أن يتدبر آية الروم تدبراً كثيراً ، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس . وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج ، لأعمال الحياة الدنيا ومهارتهم فيها على كثرتها ، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك ، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق ، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ، وغلط فادح . وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة ، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه ، وما أعظمه ، وما أحسن تعليمه . فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون ، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أولياً ، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل ، لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم ، فأبرزهم من العدم إلى الوجود ، وزرقهم ، وسوف يميتهم ، ثم يحييهم ، ثم يجازيهم على أعمالهم ، ولم يعلموا شيئاً عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم : ومن غفل عن جميع هذا فليس معدوداً من جنس من يعلم كما دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة ، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل أثبت لهم نوعاً من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره . وعاب ذلك النوع من العلم بعيبين عظيمين : أحدهما : قلته وضيق مجاله ، لأنه لا يجاوز ظاهراً من الحياة الدنيا ، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة ، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا ، والعلم بأوامره ونواهيه ، وبما يقرب عبده منه ، وما يبعده منه ، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي من أعمال الخير والشر . والثاني منهما : هو دناءة هدف ذلك العلم ، وعدم نيل غايته ، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا ، وهي سريعة الانقطاع والزوال ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً } أنه بدل من قوله قبله لا يعلمون ، فهذا العلم كلا علم لحقارته . قال الزمخشري في الكشاف ، وقوله : يعلمون بدل من قوله : لا يعلمون ، وفي هذا الإبدال من النكته أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : { ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } يفيد أن الدنيا ظاهراً وباطناً فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها ، والتنعيم بملاذها وباطنها ، وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة ، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من ظواهرها . وهم الثانية يجوز أن يكون مبتدأ ، وغافلون خبره ، والجملة خبر ، هم الأولى ، وأن يكون تكريراً للأولى ، وغافلون : خبر الأولى ، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ، ومقرها ، ومحلها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع . انتهى كلام صاحب الكشاف . وقال غيره : وفي تنكير قوله : ظاهراً تقليل لمعلومهم ، وتقليله يقربه من النفي ، حتى يطابق المبدل منه . اهـ . ووجهه ظاهر . واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية ، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [ مريم : 78 ] وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار ، إذا تعلمها المسلمون ، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقاً لما أمر الله به ، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : كانت من أشرف العلوم وأنفعها ، لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا ، وإصلاح الدنيا والآخرة ، فلا عيب فيها إذن كما قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر الله تعالى وسعياً في مرضاته ، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة ، كما ترى الآيات بمثل ذلك كثيرة . والعلم عند الله تعالى .