Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 53-53)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } . قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ، وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا له أمثلة في الترجمة ، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة ، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومن أمثلته قول كثير من الناس : إن آية الحجاب أعني قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى : { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ } قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين ، إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن . وقد تقرر في الأصول : أن العلة قد تعمم معلولها ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله : @ وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم @@ انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة . وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة ، الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء ، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان أصل اللفظ خاصاً بهن ، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه ، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى : { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ } هو علة قوله تعالى : { فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَاب } هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه ، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزيئاته : هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً عند العارفين ، وعرف صاحب مراقي السعود دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء ، والتنبيه بقوله : @ دلالة الإيماء والتنبيه في الفن تقصد لدى ذويه أن يقرن الوصف بحكم إن يكن لغير علة يعبه من فطن @@ وعرف أيضاً الإيماء والتنبيه في مسالك العلة بقوله : @ والثالث الإيما اقتران الوصف بالحكم ملفوظين دون خلف وذلك الوصف أو النظير قرانه لغيرها يضير @@ فقوله تعالى : { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } لو لم يكن علة لقوله تعالى : { فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَاب } لكان الكلام معيباً غير منتظم عند الفطن العارف . وإذا علمت أن قوله تعالى : { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } هو علة قوله : { فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَاب } وعلمت أن حكم العلة عام . فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها ، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت مراقي السعود ، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته ، وإذا كان حكم هذه الآية عاماً ، بدلالة القرينة القرآنية . فاعلم أن الحجاب واجب ، بدلالة القرآن على جميع النساء . واعلم أنا في هذا المبحث نريد أن نذكر الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب على العموم ، ثم الأدلة من السنة ، ثم نناقش أدلة الطرفين ، ونذكر الجواب عن أدلة من قالوا بعدم وجوب الحجاب ، على غير أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا آنفاً أن قوله : { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ } [ الأحزاب : 53 ] الآية قرينة على عموم حكم آية الحجاب . ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها ، قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] ، فقد قال غير واحد من أهل العلم إن معنى : يدنين عليهن من جلابيبهن : أنهن يسترن بها جميع وجوههن ، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها ، وممن قال به ابن مسعود ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني وغيرهم . فإن قيل : لفظ الآية الكريمة وهو قوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة ، ولم يرد نص من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع على استلزامه ذلك ، وقول بعض المفسرين : إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم : إنه لا يستلزمه ، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه . فالجواب : أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على قوله تعالى فيها : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها ، والقرينة المذكورة : هي قوله تعالى : { قُل لأَزْوَاجِك } ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن ، لا نزاع فيه بين المسلمين . فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب كما ترى . ومن الأدلة على ذلك أيضاً : هو ما قدمنا في سورة النور في الكلام على قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النور : 31 ] ، من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى إلا ما ظهر منها الملاءة فوق الثياب ، وأنه لا يصح تفسير إلا ما ظهر منها بالوجه والكفين كما تقدم إيضاحه . واعلم أن قول من قال : إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] لا يدخل فيه ستر الوجه ، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ } [ الأحزاب : 59 ] ، قال وقد دل قوله : أن يعرفن على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن ، لأن التي تستر وجهها لا تعرف باطل ، وبطلانه واضح ، وسياق الآية يمنعه منعاً باتاً لأن قوله : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } صريح في منع ذلك . وإيضاحه : أن الإشارة في قوله : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ } راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن ، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن ، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن ، وكشفهن عن وجوههن كما ترى ، فإدناء الجلابيب مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه كما لا يخفى . وقوله في الآية الكريمة لأزواجك : دليل أيضاً على أن المعرفة المذكورة في الآية ، ليست بكشف الوجوه ، لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين . والحاصل : أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة : الأول : سياق الآية كما أوضحناه آنفاً . الثاني : قوله : لأزواجك كما أوضحناه أيضاً . الثالث : أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها ، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء ، ولا يتعرضون للحرائر ، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزاً عن زي الإماء ، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى ظناً منهم أنهن إماء . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق ، علموا أنهن حرائر ، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ } [ الأحزاب : 59 ] فهي معرفة بالصفة لا بالشخص . وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن كما ترى . فقوله : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] ، لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر ، فهو أدنى وأقرب ، لأن يعرفن : أي يعلم أنهن حرائر ، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء ، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية ، وهو واضح ، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز بل هو حرام ، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض ، وأنهم يدخلون في عموم قوله : { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 60 ] في قوله تعالى : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } [ الأحزاب : 60 ] إلى قوله : { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] . ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض ، قوله تعالى : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] الآية ، وذلك معنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول الأعشى : @ حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض @@ وفي الجملة : فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق ، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم ، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب . تنبيه قد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] أن الفعل الصناعي عند النحويين ينحل عن مصدر وزمن . كما قال ابن مالك في الخلاصة : @ المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن @@ وأنه عند جماعات من البلاغيين ينحل عن مصدر ، وزمن ونسبة . وإذا علمت ذلك : فاعلم أن المصدر والزمن كامنان في مفهوم الفعل إجماعاً ، وقد ترجع الإشارات والضمائر تارة إلى المصدر الكامن في مفهوم الفعل ، وتارة إلى الزمن الكامن فيه . فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن فيه قوله تعالى هنا : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] ثم قال : { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ } [ الأحزاب : 59 ] أي ذلك الإدناء المفهوم من قوله : يدنين . ومثال رجوع الإشارة للزمن الكامن فيه قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ٱلْوَعِيدِ } [ ق : 20 ] فقوله : ذلك يعني زمن النفخ المفهوم من قوله : ونفخ : أي ذلك الزمن يوم الوعيد . ومن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام هو ما تقرر في الأصول ، من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة ، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب ، وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الحج في مبحث النهي عن لبس المعصفر ، وقد قلنا في ذلك ، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة ، لاستوائهم في أحكام التكليف ، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه ، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد ، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم ؟ خلاف في حال لا خلاف حقيقي ، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم ، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم ، أن خطاب الواحد لا يعم ، لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره ، وإذا كان لا يشمله وضعاً ، فلا يكون صيغة عموم . ولكن أهل هذا القول موافقون ، على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره ، ولكن بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس . أما القياس فظاهر ، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي . والنص كقوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء : " إني لا أصافح النساء ، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة " قالوا ومن أدلة ذلك حديث : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " . قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات : اعلم أن حديث حكمي على الواحد حكمي على الجماعة : لا يعرف له أصل بهذا اللفظ ، ولكن روى الترمذي وقال حسن صحيح . والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان قوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء " إني لا أصافح النساء " وساق الحديث كما ذكرناه ، وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس ، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " وفي لفظ : " كحكمي على الجماعة " ليس له أصل بهذا اللفظ . كما قاله العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي . وقال في الدرر للزركشي لا يعرف . وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه ، نعم يشهد له ما رواه الترمذي والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة ، فلفظ النسائي ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة ، ولفظ الترمذي " إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " ، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما ، وقال ابن قاسم العبادي في شرح الورقات الكبير : حكمي على الواحد لا يعرف له أصل إلى آخره ، قريباً مما ذكرناه عنه . انتهى . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغراً ، وهي صحابية من المبايعات ، ورقيقة أمها وهي أخت خديجة بنت خويلد . وقيل : عمتها ، واسم أبيها بجاد بموحدة ثم جيم ابن عبد الله بن عمير التيمي ، تيم بن مرة . وأشار إلى ذلك في مراقي بقوله : @ خطاب واحد لغير الحنبل من غير رعي النص والقيس الجلي @@ انتهى محل الغرض منه . وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا تعلم أن حكم آية الحجاب عام ، وإن كان لفظها خاصاً بأزواجه صلى الله عليه وسلم ، لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه ، أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة ، كما رأيت إيضاحه قريباً . ومن الأدلة القرآنية الدالة على الحجاب قوله تعالى : { وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ } [ النور : 60 ] ، لأن الله جل وعلا بين في هذه الآية الكريمة ، أن القواعد أي العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً : أي لا يطمعن في النكاح لكبر السن وعدم حاجة الرجال إليهن يرخص لهن برفع الجناح عنهن في وضع ثيابهن ، بشرط كونهن غير متبرجات بزينة ، ثم إنه جل وعلا مع هذا كله قال : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } [ النور : 60 ] أي يستعففن عن وضع الثياب خير لهن ، أي واستعفافهن عن وضع ثيابهن مع كبر سنهن وانقطاع طمعهن في التزويج ، وكونهن غير متبرجات بزينة خير لهن . وأظهر الأقوال في قوله : أن يضعن ثيابهن : أنه وضع ما يكون فوق الخمار ، والقميص من الجلابيب ، التي تكون فوق الخمار والثياب . فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } [ النور : 60 ] دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح ، لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب . وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام ، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب ، علمت أن القرآن دل على الحجاب ، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة ، بأزواجه صلى الله عليه وسلم ، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة ، فمن يحاول منع النساء المسلمين كالدعاة للسفر والتبرج والاختلاط اليوم ، من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، مريض القلب كما ترى . واعلم أنه مع دلالة القرآن على احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب ، قد دلت على ذلك أيضاً أحاديث نبوية ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت " أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب النكاح في باب : لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم إلخ . ومسلم في كتاب السلام في باب : تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحذير الشديد من الدخول على النساء ، فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن ، وسؤالهن متاعاً إلا من وراء حجاب ، لأن من سألها متاعاً لا من وراء حجاب ، فقد دخل عليها ، والنبي صلى الله عليه وسلم حذَّره من الدخول عليها ، ولما سأله الأنصاري عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرماً لزوجته كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك . قال له صلى الله عليه وسلم : " الحمو الموت ، " فسمى صلى الله عليه وسلم دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت ، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير ، لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا كما قال الشاعر : @ والموت أعظم حادث مما يمر على الجبلة @@ والجبلة : الخلق ، ومنه قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 184 ] ، فتحذيره صلى الله عليه وسلم هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء ، وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت ، دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى : { فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الأحزاب : 53 ] عام في جميع النساء كما ترى . إذ لو كان حكمه خاصاً بأزواجه صلى الله عليه وسلم ، لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام في الدخول على النساء ، وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما ، وهو كذلك ، فالدخول عليهن ، والخلوة بهن كلاهما محرم تحريماً شديداً بانفراده ، كما قدمنا أن مسلماً رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية ، والدخول عليها فدل على أن كليهما حرام ، وقال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور : إياكم والدخول بالنصب على التحذير ، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز عنه كما قيل : إياك والأسد ، وقوله : إياكم : مفعول لفعل مضمر تقديره : اتقوا . وتقدير الكلام اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء ، والنساء أن يدخلن عليكم ، ووقع في رواية ابن وهب ، بلفظ : لا تدخلوا على النساء ، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى . انتهى محل الغرض منه . وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : باب وليضربن بخمرهن على جيوبهن . وقال أحمد بن شبيب : حدثنا أبي عن يونس ، قال ابن شهاب عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } [ النور : 31 ] شققن مروطهن فاختمرن بها . حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة : أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول : لما نزلت هذه الآية . { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنّ } أخذان أُزْرَهُنَّ فَشَقَّفْنها من قِبَل الحواشي ، فاختمرن بها . انتهى من صحيح البخاري . وقال ابن حجر في الفتح في شرح هذا الحديث : قوله : فاختمرن : أي غطين وجوههن ، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر ، وهو التقنع . قال الفراء : كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار . انتهى محل الغرض من فتح الباري . وهذا الحديث الصحيح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } [ النور : 31 ] يقتضي ستر وجوههن ، وأنهن شققن أزرهن ، ختمرن أي سترن وجوههن بها امتثالاً لأمر الله في قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } المقتضى ستر وجوههن ، وبهذا يتحقق المنصف : أن احتجاب المراة عن الرجل وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى ، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن ، لامتثال أوامر الله في كتابه . ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } إلا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن ، والله جل وعلا يقول : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن . وقال ابن حجر في فتح الباري : ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم عن صفية ما يوضح ذلك ، ولفظه : ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن فقالت : إن لنساء قريش لفضلا ، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل ، لقد أنزلت سورة النور : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } [ النور : 31 ] فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان . انتهى محل الغرض من فتح الباري . ومعنى معتجرات مختمران كما جاء موضحاً في رواية البخاري المذكور آنفاً ، فترى عائشة رضي الله عنها مع علمها ، فهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم ، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقاً بكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنزيل . وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } [ النور : 31 ] من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى ، فالعجب كل العجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ، ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب ، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيماناً بتنزيله ، ومعنى هذا ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري ، وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى . وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وقال البزار أيضاً : حدثنا محمد بن المثنى حدثني عمرو بن عاصم : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن مورق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحه ربها وهي في قعر بيتها " رواه الترمذي عن بندار ، عن عمرو بن عاصم به نحوه اهـ . منه . وقد ذكر هذا الحديث صاحب مجمع الزوائد . وقال رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله موثقون ، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة ، وما جاء فيه من كون المرأة عورة : يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة . ومما يؤيد ذلك : ما ذكر الهيثمي أيضاً في مجمع الزوائد عن ابن مسعود : قال إنما النساء عورة ، وأن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس ، فيستشرفها الشيطان ، فيقول : إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه ، وإن المرأة لتلبس ثيابها ، فيقال : أين تريدين ؟ فتقول : أعود مريضاً أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد ، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها . ثم قال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات . اهـ منه . ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه . ومن الأدلة على ذلك الأحاديث التي قدمناها ، الدالة على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المساجد . كما أوضحناه في سورة النور في الكلام على قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ النور : 36 ] الآية . والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جداً . وفيما ذكرنا كفاية لمن يريد الحق . فقد ذكرنا الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، والأحاديث الصحيحة الدالة على الحجاب ، وبينا أن من أصرحها في ذلك آية النور مع تفسير الصحابة لها ، وهي قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } [ النور : 31 ] فقد أوضحنا غير بعيد تفسير الصحابة لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي ، بأن المراد بها يدخل فيه ستر الوجه وتغطيته عن الرجال ، وأن ستر المرأة وجهها عمل بالقرآن كما قالته عائشة رضي الله عنها . وإذا علمت أن هذا القدر من الأدلة على عموم الحجاب يكفي المنصف ، فسنذكر لك أجوبة أهل العلم ، عما استدل به الذين قالوا بجواز إبداء المرأة وجهها ويديها ، بحضرة الأجانب . فمن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه " وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين . الأولى : هي كونه مرسلاً ، لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة ، كما قاله أبو داود ، وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة النور . الجهة الثانية : أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم ، قال فيه في التقريب : ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب ، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب . ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث جابر الثابت في الصحيح قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ، ولا إقامة ، ثم قام مُتَوَكّئاً على بلال فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس ، وذكَّرهم ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذَكَّرَهُنَّ فقال : " تصدقن فإن أكثركن حَطبُ جهنم . فقامت امرأة من سِطَةِ النساء سفْعاءُ الخَدَّيْن فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ ، وتكْفُرْنَ العَشيرَ . قال فجعلنَ يتصدَّقْنَ من حُليهنَّ يُلْقين في ثوب بلال من أٌقْرِطهِنَّ وخواتمِهنَّ " اهـ . هذا لفظ مسلم في صحيحه . قالوا : وقول جابر في هذا الحديث : سفعاء الخدين يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها ، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها ، ولما علم بأنها سفعاء الخدين . وأجيب عن حديث جابر هذا : بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها ، وأقرها على ذلك ، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابراً رأى وجهها ، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصداً ، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد ، فيراه بعض الناس في تلك الحال كما قال نابغة ذبيان : @ سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واثقتنا باليد @@ فعلى المحتج بحديث جابر المذكور ، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة ، وأقرها على ذلك ، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك . وقد روى القصة المذكورة غير جابر ، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها ، وقد ذكر مسلم في صحيحه ممن رواها غير جابر أبا سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، وذكره غيره عن غيرهم . ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين ، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور . وقد قال النووي في شرح حديث جابر هذا عند مسلم وقوله : فقامت امرأة من سطة النساء . هكذا هو في النسخ سطة بكر السين ، وفتح الطاء المخففة . وفي بعض النسخ : واسطة النساء . قال القاضي معناه : من خيارهن ، والوسط العدل والخيار قال : وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم ، وأن صوابه من سفلة النساء ، وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده ، والنسائي في سننه ، وفي رواية لابن أبي شيبة : امرأة ليست من علية النساء ، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده : سفعاء الخدين هذا كلام القاضي ، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول ، بل هي صحيحة ، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسره به هو ، بل المراد : امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن . قال الجوهري وغيره من أهل اللغة : يقال : وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة أي توسطتهم . اهـ منه . وهذا التفسير الأخير هو الصحيح ، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة ، ويحتمل أن جابراً ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها ، لأن سفعة الخدين قبح في النساء . قال النووي : سفعاء الخدين : أي فيها تغير وسواد . وقال الجوهري في صحاحه : والسفعة في الوجه : سواد في خدي المرأة الشاحبة ، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة ، قال حميد بن ثور : @ من الورق سفعاء العلاطين باكرت فروع أشاء مطلع الشمس أسحما @@ قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب : أنها سواد وتغير في الوجه ، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد . ومن ذلك قول متمم بن نويرة التميمي يبكي أخاه مالكاً : @ تقول ابنة العمري مالك بعد ما أراك خضيباً ناعم البال أروعا فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ولوعة وجد تترك الخد أسفعا @@ ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور ، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى : @ أهوى لها أسفع الخدين مطرق ريش القوادم لم تنصب له الشبك @@ والمقصود : أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه ، وبعض أهل العلم يقول : إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها ، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً . ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك ، حديث ابن عباس الذي قدمناه قال : أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما ، يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلاً وضيئاً فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفق الفضل ينظر إليها ، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، فقالت : يا رسول الله : إن فريضة الله في الحج على عباده ، أدركت أبي شيخاً كبيراً . الحديث ، قالوا : فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها . وأجيب عن ذلك أيضاً من وجهين : الأول : الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث ، التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه ، وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة ، وفي بعض روايات الحديث : أنها حسناء ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك ، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد ، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين . ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها . ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضراً وقت نظر أخيه إلى المرأة ، ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل ، وهو لم يقل له : إنها كانت كاشفة عن وجهها ، واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصداً لاحتمال أن يكون رأى وجهها ، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها ، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها . فإن قيل : قوله إنها وضيئة ، وترتيبه على ذلك بالفاء ، قوله : فطفق الفضل ينظر إليها . وقوله : وأعجبه حسنها ، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها ، وينظر إليه لإعجابه بحسنه . فالجواب : أن تلك القرائن لاتستلزم استلزاماً لا ينفك أنها كانت كاشفة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك ، وأقرها لما ذكرنا من أنواع الاحتمال ، مع أن جمال المرأة قد يعرف ، وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدها وقوامها ، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم ، ولذلك فسر ابن مسعود { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النور : 31 ] بالملاءة فوق الثياب كما تقدم . ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر : @ طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا @@ فقد بالغ في حسن قوامها ، مع أن العادة كونه مستوراً بالثياب لا منكشفاً . الوجه الثاني : أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها ، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها ، وعليها ستره من الرجال في الإحرام ، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيرهن ولم يقل أحد أن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما ، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها ، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور . فإن قيل : كونها مع الحجاج مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج ، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال . فالجواب : أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء ، فلا مانع عقلاً ولا شرعاً ، ولا عادة من كونها لم ينظر إليها أحد منهم ، ولو نظر إليها لحكى كما حكى نظر الفضل إليها ، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها ، أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة ، وهي سافرة كما ترى ، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم . وبالجملة ، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب ، مع أن الوجه هو أصل الجمال ، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة ، والوقوع فيما لا ينبغي . ألم تسمع بعضهم يقول : @ قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم @@ أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ولقد صدق من قال : @ وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب @@ مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة أعني آية الحجاب هذه اعلم أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يصافح امرأة أجنبية منه . ولا يجوز له أن يمس شيء من بدنه شيئاً من بدنها . والدليل على ذلك أمور : الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال : " إني لا أصافح النساء " الحديث . والله يقول : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] فيلزمنا ألا نصافح النساء اقتداء به صلى الله عليه وسلم ، والحديث المذكور قد قدمناه موضحاً في سورة الحج في الكلام على النهي : عن لبس المعصفر . مطلقاً في الإحرام ، وغيره للرجال . وفي سورة الأحزاب في آية الحجاب هذه . وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أن الرجل لا يصافح المرأة ، ولا يلمس شيء من بدنه شيئاً من بدنها ، لأن أخف أنواع اللمس المصافحة ، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة ، دل ذلك على أنها لا تجوز ، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره . الأمر الثاني : هو ما قدمنا من أن المرأة كلها عورة يجب عليها أن تحتجب ، وإنما أمر بغض البصر خوف الوقوع في الفتنة ، ولا شك أن مس البدن للبدن ، أقوى في إثارة الغريزة ، وأقوى داعياً إلى الفتنة من النظر بالعين ، وكل منصف يعلم صحة ذلك . الأمر الثالث : أن ذلك ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية ، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة ، وعدم التورع عن الريبة ، وقد أخبرنا مراراً أن بعض الأزواج من العوام ، يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويسمون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع سلاماً ، فيقولون سلم عليها يعنون قبلها ، فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب ، وأسبابها ومن أكبرها لمس الرجل شيئاً من بدن الأجنبية ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :