Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 8-9)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الأغلال : جمع غلّ وهو الذي يجمع الأيذي إلى الأعناق ، والأذقان : جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين ، والمقمح بصيغة اسم المفعول ، هوالرافع ، رأسه . والسد بالفتح والضم : هو الحاجز الذي يسدّ طريق الوصول إلى ما وراءه . وقوله : { فَأغْشَيْنَا } أي جعلنا على أبصارهم الغشاوة ، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار ، ومنه قوله تعالى : { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] وقوله تعالى : { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] . وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص : @ هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها @@ والمراد بالآية الكريمة : أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم الله المذكورين في قوله تعالى : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] صرفهم الله عن الإيمان صرفاً عظيماً مانعاً من وصوله إليهم ، لأن من جعل في عنقه غلّ ، وصار الغل إلى ذقنه ، حتى صار رأسه مرفوعاً لا يقدر أن يطأطئه ، وجعل أمامه سدّ ، وخلفه سدّ وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرف ، ولا جلب نفع لنفسه ، ولا في دفع ضرّ عنها ، فالذين أشقاهم الله بهذه المثابة لا يصل إليهم خير . وهذا المعنى الذي دّلت عليه هذه الآية من كونه جلّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه ، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الكهف : 57 ] وقوله تعالى : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] وقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] وقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ الأنعام : 125 ] وقوله تعالى : { ومَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] وقوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 41 ] . وقوله تعالى : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ النحل : 108 ] وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [ هود : 20 ] . وقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [ الكهف : 101 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب وكذلك الأغلال في الأعناق ، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم ، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان ، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم ، لتكذيب الرسل ، والتمادي على الكفر ، فعاقبهم الله على ذلك ، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها ، والغشاوة على الأبصار ، لأن من شؤم السيئات أن الله جلّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقاً . والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله تعالى : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] فالباء سببية ، وفي الآية : تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم ، وكقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [ المنافقون : 3 ] ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل : أي فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] . وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] وقوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه . وقد دلّت هذه الآية على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيئات ، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك ، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير ، وهو كذلك كما قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] وقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقوله تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] إلى غير ذلك من الآيات . واعلم : أن قول من قال من أهل العلم : إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } أن المراد بذلك الأغلال ، التي يعذبون بها في الآخرة كقوله تعالى : { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71ـ72 ] خلاف التحقيق ، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا كما أوضحنا وقرأ هذا الحرف : حمزة ، والكسائي ، وحفص ، عن عاصم : { سَدّاً } بالفتح في الموضعين ، وقرأه الباقون بضم السين ، ومعناهما واحد على الصواب . والعلم عند الله تعالى .