Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 37-37)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِش } الآية . قرأ هذا الحرف حمزة والكسائي ( كبير الإثم ) ، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد . وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع . وقوله { والذين } : في محل جر عطفاً على قوله : { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الشورى : 36 ] أي وخير وأبقى أيضاً للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . والفواحش جمع فاحشة . والتحقيق إن شاء الله أن الفواحش من جملة الكبائر . والأظهر أنها من أشنعها ، لأن الفاحشة في اللغة : وهي الخصلة المتناهية في القبح ، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه . ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته : @ أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد @@ فقوله : الفاحش أي المبالغ في البخل المتناهي فيه . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده تعالى الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى ، جاء موضحاً في غير هذا الموضع ، فبين تعالى في سورة النساء أن من ذلك تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم ، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة في قوله تعالى { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] ، وبين في سورة النجم أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش ، يصدق عليهم اسم المحسنين ووعدهم على ذلك بالحسنى . والأظهر أنها الجنة ، ويدل له حديث " الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم " في تفسير قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَة } [ يونس : 26 ] كما قدمناه . وآية النجم المذكورة هي قوله تعالى { وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ } [ النجم : 32 ] . وأظهر الأقوال في قوله : إلا اللمم ، أن المراد باللمم صغائر الذنوب ، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه } [ النساء : 31 ] الآية . فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر ، وخير ما يفسر به القرآن ، القرآن . ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح : قال ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمني وتشتهي والفرج يُصَدِّقُ ذلك أو يكذبه " . وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله إلا اللمم منقطع ، لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش ، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع . في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَما } [ مريم : 62 ] . وقالت جماعة من أهل العلم : الاستثناء متصل فالواو عليه ، فمعنى إلا اللمم : إلا أن يلم بفاحشة مرة ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك . واستدلوا لذلك بقول الراجز : @ إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما @@ وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعاً . وفي صحته مرفوعاً نظر . وقال بعض العلماء . المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي ، قبل الدخول في الإسلام ولا يخفى بعده . وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية النساء المذكورة عليه ، وحديث ابن عباس المتفق عليه . واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين ، وقد جاء تعيين بعضها كالسبع الموبقات أي المهلكات لعظمها ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة " أنها الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين بعض الكبائر " كعقوق الوالدين واستحلال حرمة بيت الله الحرام والرجوع إلى البادية بعد الهجرة وشرب الخمر واليمين الغموس والسرقة ومنع فضل الماء ومنع فضل الكلأ وشهادة الزور " . وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود " أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه ، ثم زناه بحليلة جاره " وفي بعضها أيضاً " أن من الكبائر تسبب الرجل في سب والديه " ، وفي بعضها أيضاً " أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفرا " وذلك يدل على أنهما من الكبائر . وفي بعض الروايات " أن من كبائر الوقوع في عرض المسلم ، والسبتين بالسبة " . وفي بعض الرويات " أن منها جمع الصلاتين من غير عذر " . وفي بعضها " أن منها اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " ويدل عليهما قوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . وقوله { أفَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] . وفي بعضها " أن منها سوء الظن بالله " ويدل له قوله تعالى { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ الفتح : 6 ] . وفي بعضها " أن منها الإضرار في الوصية " . وفي بعضها أن منها الغلول ، ويدل له قوله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 161 ] . وقدمنا معنى الغلول في سورة الأنفال ، وذكرنا حكم الغال . وفي بعضها " أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً " ويدل له قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 77 ] ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة ، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة ، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة . فقال بعضهم : هي كل ذنب استوجب حداً من حدود الله . وقال بعضهم : هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب . واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين . وعن ابن عباس : أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع . وعنه أيضاً أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق أنها لا تنحصر في سبع ، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضى انحصارها في ذلك العدد ، لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم ، وهو مفهوم لقب ، والحق عدم اعتباره . ولو قلنا إنه مفهوم عدد لكان غير معتبر أيضاً ، لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق . وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم . والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، أو كان وجوب الحد فيه ، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده . مع أن بعض أهل العلم قال : إن كل ذنب كبيرة . وقوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] الآية . وقوله : { إِلاَّ ٱللَّمَم } [ النجم : 32 ] يدل على عدم المساواة ، وأن بعض المعاصي كبائر . وبعضها صغائر ، والمعروف عند أهل العلم : أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ، والعلم عند الله تعالى .