Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 33-34)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الله تعالى { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ } . فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين ، وهما المحاربة ، والسعي في الأرض بالفساد ، ولم يخص شريفاً من وضيع ، ولا رفيعاً من دنيء ، اهـ من القرطبي . قال مقيده ، عفا الله عنه ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة ، إجماع العلماء على أن عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له ، وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل ، فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص ، بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة . المسألة الثالثة إذا حمل المحاربون على قافلة مثلاً ، فقتل بعضهم بعض القافلة ، وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد ، فهل يقتل الجميع ، أو لا يقتل إلا من باشر القتل ، فيه خلاف ، والتحقيق قتل الجميع ، لأن المحاربة مبنية على حُصول المنعة والمعاضدة والمناصرة ، فلا يتمكّن المباشر من فعله ، إلا بقوة الآخر الذي هو ردء له ومعين على حرابته ، ولو قتل بعضهم ، وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم كلهم ، وصلبهم كلهم . لأنهم شركاء في كل ذلك ، وخالف في هذا الشافعي رحمه الله فقال لا يجب الحد إلا على من ارتكب المعصية ، ولا يتعلق بمن أعانه عليها كسائر الحدود ، وإنما عليه التعزير . المسألة الرابعة إذا كان في المحاربين صبي ، أو مجنون ، أو أب المقطوع عليه ، فهل يسقط الحد عن كلِّهم ؟ ويصير القتل للأولياء إن شاؤوا قتلوا ، وإن شاؤوا عفوا نظراً إلى أن حكم الجميع واحد ، فالشبهة في فعل واحد شبهة في الجميع ، وهو قول أبي حنيفة ، أو لا يسقط الحد عن غير المذكور من صبي ، أو مجنون ، أو أب ، وهو قول أكثر العلماء ، وهو الظاهر . المسألة الخامسة إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم ، فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئاً من إقامة الحدود المذكورة عليهم ، وأما إن جاؤوا تائبين قبل القدرة عليهم ، فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل . لأنهم تسقط عنهم حدود الله ، وتبقى عليهم حقوق الآدميين ، فيقتص منهم في الأنفس والجراح ، ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال ، ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء ، ولصاحب المال إسقاطه عنهم . وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم ، كما هو صريح قوله تعالى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } المائدة 34 الآية ، وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال ، وتضمينهم ما استهلكوا . لأن ذلك غصب ، فلا يجوز لهم تملكه ، وقال قوم من الصحابة والتابعين لا يطلب المحارب الذي جاء تائباً قبل القدرة عليه إلا بما وجد معه من المال ، وأما ما استهلكه ، فلا يطلب به ، وذكر الطبري هذا عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه . قال القرطبي وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، بحارثة بن بدر الغداني ، فإنه كان محارباً ، ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً ، ونحوه ذكره ابن جرير . قال ابن خويز منداد واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ، ولم يوجد له مال ، هل يتبع ديناً بما أخذ ، أو يسقط عنه ، كما يسقط عن السارق ؟ يعني عند مالك ، والمسلم ، والذمي في ذلك سواء ومعنى قوله { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا } المائدة 32 اختلف فيه العلماء ، فروي عن ابن عباس أنه قال معناها أن من قتل نبياً ، أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياه ، بأن شد عضده ونصره ، فكأنما أحيا الناس جميعاً ، نقله القرطبي ، وابن جرير وغيرهما ، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن . وعن ابن عباس أيضاً أنه قال المعنى ، أن من انتهك حرمة نفس واحدة بقتلها ، فهو كمن قتل الناس جميعاً . لأن انتهاك حرمة الأنفس ، سواء في الحرمة والإثم ، ومن ترك قتل نفس واحدة واستحياها خوفاً من الله ، فهو كمن أحيا الناس جميعاً ، لاستواء الأنفس في ذلك . وعن ابن عباس { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } ، أي عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحد بعد موته هو ، ومن أحياها واستنقذها من هلكة ، فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ ، وقال مجاهد المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب عليه ولعنه ، وأعد له عذاباً عظيماً ، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك ، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه . واختار هذا القول ابن جرير ، وقال ابن زيد المعنى أن من قتل نفساً يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً ، قال ومن أحياها ، أي عفا عمن وجب له قتله ، وقال الحسن أيضاً هو العفو بعد المقدرة ، وقيل المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه ، لأنه قد وتر الجميع ، ومن أحياها وجب على الكل شكره ، وقيل كان هذا مختصاً ببني إسرائيل ، وقيل المعنى أن من استحل قتل واحد ، فقد استحل الجميع ، لأنه أنكر الشرع ، ومن حرم دم مسلم ، فكأنما حرم دماء الناس جميعاً ، ذكر هذه الأقوال القرطبي ، وابن كثير ، وابن جرير وغيرهم ، واستظهر ابن كثير هذا القول الأخير ، وعزاه لسعيد بن جبير . وقال البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى { ومن أحياها } . قال ابن عباس من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعاً . وقال القرطبي إحياؤه عبارة عن الترك ، والإنقاذ من هلكة ، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع ، إنما هو لله تعالى ، وهذا الإحياء ، كقول نمروذ لعنه الله { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } البقرة 258 ، فسمى الترك إحياء . وكذلك قال ابن جرير ، قوله تعالى { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَادا } الآية ، اعلم أن هذه الآية اختلف في سبب نزولها ، فقيل نزلت في قوم من المشركين ، وقيل نزلت في قوم من أهل الكتاب ، وقيل نزلت في الحرورية . وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح ، وغيرها ، أنها نزلت في قوم " عرينة " ، و " عكل " ، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة ، فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بلقاح ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ، وألبانها فانطلقوا ، فلما صحوا وسمنوا ، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا اللقاح ، فبلغه صلى الله عليه وسلم خبرهم ، فأرسل في أثرهم سرية فجاؤوا بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون ، فلا يسقون حتى ماتوا . وعلى هذا القول ، فهي نازلة في قوم سرقوا ، وقتلوا ، وكفروا بعد إيمانهم ، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها ، والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطَّاع الطريق من المسلمين ، كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } المائدة 34 الآية ، فإنها ليست في الكافرين قطعاً . لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه ، كما تقبل قبلها إجماعاً لقوله تعالى { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } الأنفال 38 ، وليست في المرتدين ، لأن المرتد يقتل بردته وكفره ، ولا يقطع لقوله صلى الله عليه وسلم عاطفاً على ما يوجب القتل " والتارك لدينه المفارق للجماعة " ، وقوله " من بدل دينه فاقتلوه " ، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين ، فإن قيل وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله ؟ فالجواب نعم . والدليل قوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِه } البقرة 278 - 279 . تنبيه استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ، لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل ، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به . واختلف في الجواب فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ، وقال محمد بن سيرين كان ذلك قبل نزول الحدود ، وقال أبو الزناد إن هذه الآية معاتبة له صلى الله عليه وسلم على ما فعل بهم ، وبعد العتاب على ذلك لم يعد ، قاله أبو داود . والتحقيق في الجواب هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قِصاصاً ، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصاً ، لأنهم سملوا أعين رعاة اللِّقاح ، وعقده البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله @ وبعدها انتهبها الأُلى انتهوا لغاية الجهد وطيبة اجتووا فخرجوا فشربوا ألبانها ونبذوا إذ سمنوا أمانها فاقتص منهم النبي أن مثلوا بعبده ومقلتيه سملوا @@ واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة بعبده ، لأن الثابت أنهم مثَّلوا بالرعاء ، والعلم عند الله تعالى .