Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 96-96)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ } الآية . ظاهر عموم هذه الآية الكريمة يشمل إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة ، وهو كذلك ، كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } المائدة 96 ، فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم ، كما هو ظاهر . مسائل تتعلق بالاصطياد في الإحرام أو في الحرم المسألة الأولى اجمع العلماء على منع صيد البر للمحرم بحج أو عمرة . وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك ، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه ، لما ثبت في الصّحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه ، " أنه كان مع قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو حَلالٌ وهم مُحْرِمُونَ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم أمَامهُمْ ، فَأَبْصَروا حمَاراً وَحشِياً وأبو قتادة مشغول يخْصِف نعله فلم يؤذنوه ، وأحبوا لو أنه أبصره فأبصره فأسرج فرسه . ثم ركب ونسي سوطه ورمحه فقال لهم ناولوني السوط والرمح ، فقالوا والله لا نعينك عليه ، فغضب فنزل فأخذهما فركِبَ فَشدَّ على الحمار فَعقَرَهُ ثم جاء به ، وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه ، ثم إنهم شكوا في أكلهم إيَّاه وهم حُرم ، فأدركوا النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه فَقَرَّرهُم على اكله ، وناوله أبو قتادة عضُدَ الحمار الوحشي ، فأكل منها صلى الله عليه وسلم " ولمسلم " هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء ، قالوا لا ، قال فكلوه " . وللبخاري " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها قالوا لا ، قال فكلوا ما بقى من لحمها " وقد أجمع جميع العلماء على أن ما صاده محرم لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده ، ولا لمحرم غيره ، ولا لحلال غير محرم لأنه ميتة . واختلف العلماء في أكل المحرم مما صاده حلال على ثلاثة أقوال ، قيل لا يجوز له الأكل مطلقاً ، وقيل يجوز مطلقاً ، وقيل بالتفصيل بين ما صاده لأجله ، وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني . واحتج أهل القول الأول بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه " أنه أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " متفق عليه ، ولأحمد ومسلم " لحم حمار وحشي " . واحتجوا أيضاً بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أهدي له عضو من لحم صيد فرده ، وقال إنا لا نأكله إنا حرم " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي . واحتجوا أيضاً بعموم قوله تعالى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } المائدة 96 ، ويروى هذا القول عن علي وابن عباس وابن عمر ، والليث والثوري وإسحاق وعائشة وغيرهم . واحتج من قال بجواز أكل المحرم ما صاده الحلال مطلقاً بعموم الأحاديث الواردة بجواز أكل المحرم من صيد الحلال ، كحديث طلحة بن عبيد الله عند مسلم ، والإمام أحمد " أنه كان في قوم محرمين فأهدي لهم طير ، وطلحة راقد ، فمنهم من أكل ومنهم من تورع فلم يأكل فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه وفق من أكله وقال " أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وكحديث البهزي واسمه زيد بن كعب ، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حمار وحشي عقير في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه " شأنكم بهذا الحمار ، فأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون " ، أخرجه الإمامان مالك في موطئه وأحمد في مسنده ، والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره ، كما قاله ابن حجر ، وممن قال بإباحته مطلقاً أبو حنيفة وأصحابه . قال مقيده ، عفا الله عنه أظهر الأقوال وأقواها دليلاً ، هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم ، فلا يحل له ، وبين ما صاده الحلال ، لا لأجل المحرم ، فإنه يحل له . والدليل على هذا أمران الأول أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن ، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ولا طريق للجمع إلا هذه الطريق . ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصاً صحيحة . الثاني أن جابراً رضي الله عنه ، روى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " صيد البر لكم حلال ، وأنتم حرم ما لم تصيدوه ، أو يصد لكم " ، رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، والدارقطني . وقال الشافعي هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس ، فإن قيل في إسناد هذا الحديث ، عمرو بن أبي عمرو ، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن مولاه المطلب ، عن جابر ، وعمرو مختلف فيه ، قال فيه النسائي ليس بالقوي في الحديث ، وإن كان قد روى عنه مالك . وقال الترمذي في مولاه المطلب أيضاً لا يعرف له سماع من جابر ، وقال فيه الترمذي أيضاً في موضع آخر قال محمد لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة ، إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالجواب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي رد هذا الحديث ، لأن عمراً المذكور ثقة ، وهو من رجال البخاري ومسلم ، وممن روى عنه مالك بن أنس ، وكل ذلك يدل على أنه ثقة ، وقال فيه ابن حجر في التقريب ثقة ربما وهم ، وقال فيه النووي في شرح المهذب أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت ، لأن البخاري ، ومسلماً رويا له في صحيحيهما ، واحتجا به ، وهما القدوة في هذا الباب . وقد احتج به مالك ، وروى عنه وهو القدوة ، وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة ، وقال أحمد بن حنبل فيه ليس به بأس ، وقال ابو زرعة هو ثقة ، وقال أبو حاتم لا بأس به . وقال ابن عدي لا بأس به ، لأن مالكاً روى عنه ، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة ، قلت وقد عُرِف أن الجرح لا يثبت إلا مفسراً ، ولم يفسره ابن معين ، والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور ، وقول الترمذي إن مولاه المطلب بن عبد الله بن حنطب ، لا يعرف له سماع من جابر ، وقول البخاري للترمذي لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته ، لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة . ولا يلزم ثبوت اللقي ، وأحرى ثبوت السماع ، كما أوضحه الإمام مسلم بن الحجاج - رحمه الله تعالى - في مقدمة صحيحه ، بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي ، أن المطلب مولى عمرو بن أبي عمرو المذكور ، صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك . وقال النووي في شرح المهذب وأما إدراك المطلب لجابر . فقال ابن أبي حاتم ، وروى عن جابر قال ويشبه أن يكون أدركه ، هذا هو كلام ابن أبي حاتم ، فحصل شك في إدراكه ، ومذهب مسلم بن الحجاج الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء ، بل يكتفي بإمكانه ، والإمكان حاصل قطعاً ، ومذهب علي بن المديني ، والبخاري ، والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء ، فعلى مذهب مسلم الحديث متصل ، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلاً لبعض كبار التابعين ، وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة . أو قول أكثر العلماء ، أو غير ذلك مما سبق . وقد اعتضد هذا الحديث ، فقال به من الصحابة رضي الله عنهم ، من سنذكره في فرع مذاهب العلماء اهـ ، كلام النووي ، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات ، على مذاهب الأئمة الأربعة . لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج بالمرسل ، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله . قال مقيده عفا الله عنه نعم يشترط في قبول رواية المدلس التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس ، لكن مشهور مذهب مالك ، وأبي حنيفة وأحمد - رحمهم الله تعالى - صحة الاحتجاج بالمرسل ، ولا سيما إذا اعتضد بغيره كما هنا ، وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعين . واحتج من قال بأن المرسل حجة بأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بنسبة الحديث لمن فوقها ، إلا وهو جازم بالعدالة والثقة فيمن حذفه ، حتى قال بعض المالكية إن المرسل مقدم على المسند . لأنه ما حذف الواسطة في المرسل إلا وهو متكفل بالعدالة والثقة فيما حذف بخلاف المسند ، فإنه يحيل الناظر عليه ، ولا يتكفل له بالعدالة والثقة ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله في مبحث المرسل @ وهو حجة ولكن رجحا عليه مسند وعكس صححا @@ ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي ، عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، كما نقله ابن حجر في التلخيص وغيره وهو يقويه . وإن كان عثمان المذكور ضعيفاً لأن الضعيف يقوِّي المرسل ، كما عُرف في علوم الحديث ، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح ، وأنه نص في محل النزاع ، وهو جمع بين هذه الأدلة بعين الجمع الذي ذكرنا أولاً ، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله ، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله ، ولو صاده لأجل محرم معين حرم على جميع المحرمين خلافاً لمن قال لا يحرم إلا على ذلك المحرم المعين الذي ضيد من أجله . ويَروى هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم " أو يصَدْ لكم " ويدل للأول ظاهر قوله في حديث أبي قتادة ، " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار لها ؟ قالوا لا ، قال فكلوه " فمفهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم كلهم ، ويدل له أيضاً ما روه أبو داود عن علي " أنه دُعِيَ وهو محرم إلى طعام عليه صيد فقال " أطعموه حلالاً فإنا حرم " ، وهذا مشهور مذهب مالك عند أصحابه مع اختلاف قوله في ذلك . المسألة الثانية لا تجوز زكاة المحرم للصيد بأن يذبحه مثلاً ، فإن ذبحه فهو ميتة لا يحل أكله لأحد كائناً من كان إذ لا فرق بين قتله بالعقر وقتله بالذبح ، لعموم قوله تعالى { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } المائدة 95 ، وبهذا قال مالك وأصحابه كما نقله عنهم القرطبي وغيره ، وبه قال الحسن ، والقاسم وسالم ، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه ، وقال الحكم والثوري وأبو ثور لا بأس بأكله ، قال ابن المنذر هو بمنزلة ذبيحة السارق . وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال ، وهو أحد قولي الشافعي ، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ، وغيره . واحتج أهل هذا القول بأن من اباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال ، والظاهر هو ما تقدم من أن ذبح المحرم لا يحل الصيد ، ولا يعتبر ذكاة له ، لأن قتل الصيد حرام عليه ، ولأن ذكاته لا تحل له هو أكله إجماعاً ، وإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح ، فأولى وأحرى ألا يفيد لغيره ، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه ، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله ، قاله القرطبي ، وهو ظاهر . المسالة الثالثة الحيوان البري ثلاثة أقسام قسم هو صيد إجماعاً ، وهو ما كالغزال من كل وحشي حلال الأكل ، فيمنع قتله للمحرم ، وإن قتله فعليه الجزاء . وقسم ليس بصيد إجماعاً ، ولا بأس بقتله ، وقسم اختلف فيه . أما القسم الذي لا بأس بقتله ، وليس بصيد إجماعاً فهو الغراب ، والحدأة والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور . وأما القسم المختلف فيه فكالأسد ، والنمر ، والفهد والذئب ، وقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل ، والحرم الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " . وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح " ثم عد الخمس المذكورة آنفاً ، ولا شك أن الحية أولى بالقتل من العقرب . وقد أخرج مسلم عن ابن مسعود " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر مُحْرِماً بقتل حية بمنى " ، وعن ابن عمرو " سئل ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم ؟ فقال " حدثتني إحدى نسوة النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة ، والغراب ، والحية " رواه مسلم أيضاً . والأحاديث في الباب كثيرة ، والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع ، وهو الذي فيه بياض ، لما روى مسلم من حديث عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة ، والغراب الأبقع . و المقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد ، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفق عليها ، فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض ، إذ لا تعارض بين مقيد ومطلق ، لأن القيد بيان للمراد من المطلق . ولا عبرة بقول عطاء ، ومجاهد ، بمنع قتل الغراب للمحرم ، لأنه خلاف النص الصريح الصحيح ، وقول عامة أهل العلم ، ولا عبرة أيضاً بقول إبراهيم النخعي أن في قتل الفأرة جزاء لمخالفته أيضاً للنص ، وقول عامة العلماء ، كما لا عبرة أيضاً بقول الحكم ، وحماد ، " لا يقتل المحرم العقرب ، ولا الحية " ولا شك أن السباع العادية كالأسد ، والنمر ، والفهد ، أولى بالقتل من الكلب ، لنها أقوى منه عقراً ، وأشد منه فتكاً . واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالكلب العقور ، فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن ، أنه الأسد ، قاله ابن حجر ، وعن زيد بن أسلم أنه قال وأيُّ كلب أعقر من الحية . وقال زفر المراد به هنا الذئب خاصة ، وقال مالك في الموطأ كل ما عقر الناس ، وعدا عليهم ، وأخافهم ، مثل الأسد ، والنمر ، والفهد ، والذئب ، فهو عقور ، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان ، وهو قول الجمهور . وقال أبو حنيفة المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة . ولا يحلق به في هذا الحكم سوى الذئب ، واحتج الجمهور بقوله تعالى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } المائدة 4 فاشتقها من اسم الكلب ، وبقوله صلى الله عليه وسلم ، في ولد أبي لهب " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فقتله الأسد " رواه الحاكم وغيره بإسناد حسن . قال مقيده عفا الله عنه التحقيق أن السباع العادية ليست من الصيد ، فيجوز قتلها للمحرم ، وغيره في الحرم وغيره . ملا تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها ، لأن قوله " العقور " علة لقتل الكلب فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك . ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة المتفق عليه " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر ، مانع من استيفاء النظر في المسائل كائناً ما كان غضباً أو غيره كجوع وعطش مفرطين ، وحزن وسرور مفرطين ، وحقن وحقب مفرطين ، ونحو ذلك ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله في مبحث العلة @ وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم @@ ويدل لهذا ما اخرجه أبو داود ، والترمذي ، و ابن ماجه ، والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال الحية ، والعقرب ، والفويسقة ، ويرمي الغراب ولا يقتله ، واكللب العقور والحدأة والسبع العادي " وهذا الحديث حسنه الترمذي . وضعف ابن كثير رواية يزيد بن أبي زياد ، وقال فيه ابن حجر في التلخيص فيه يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف . وفيه لفظة منكرة وهي قوله " ويرمي الغراب ولا يقتله " ، وقال النووي في شرح المهذب إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها . قال مقيده عفا الله عنه تضعيف هذا الحديث ، ومنع الاحتجاج به متعقب من وجهين الأول أنه على شرط مسلم ، لأن يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له البخاري تعليقاً ، ومنع الاحتجاج بحديث على شرط مسلم لا يخلو من نظر ، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه . أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية فيزيد بن أبي زياد عند مسلم مقبول الرواية ، وإليه الإشارة بقول العراقي في ألفيته @ فاحتاج أن ينزل في الإسناد إلى يزيد بن أبي زياد @@ الوجه الثاني أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم والسبع العادي ، إما أن يدخل في المراد به ، أو يلحق به إلحاقاً صحيحاً لا مراء فيه ، وما ذكره الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط ، لأنه أشبه به من غيره لا يظهر ، لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلاً أشد من عقر الكلب والذئب ، وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر ، ويمنع قتل قويه ، لأن فيه علة الحكم وزيادة ، وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول ، لا من القياس ، خلافاً للشافعي وقوم ، كما قدمنا في سورة النساء . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه قلت العجب من أبي حنيفة - رحمه الله - يحمل التراب على البر بعلة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق ، والعقر ، كما فعل مالك ، والشافعي ، رحمهما الله . واعلم أن الصَّيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط . فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه والصغار منه ، والكبار عنده سواء ، إلا المتولد من بين مأكول اللحم ، وغير مأكوله ، فلا يجوز اصطياده عنده ، وإن كان يحرم أكله ، كالسمع وهو المتولد من بين الذئب ، والضبع ، وقال ليس في الرخمة والخنافس ، والقردان والحلم ، وما لا يؤكل لحمه شيء . لأن هذا ليس من الصَّيد ، لقوله تعالى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } المائدة 96 ، فدل أن الصَّيد الذي حرم عليهم ، هو ما كان حلالاً لهم قبل الإحرام ، وهذا هو مذهب الإمام أحمد . أما مالك - رحمه الله - فذهب إلى أن كل ما لا يعدو من السباع ، كالهر والثعلب ، والضبع ، وما أشبهها ، لا يجوز قتله . فإن قتله فداه ، قال وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ، وهي مثل فراخ الغربان . قال مقيده عفا الله عنه أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها ، دون غيرها . بأنها صيد يلزم فيه الجزاء ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ولم يجز مالك للمحرم قتل الزنبور ، وكذلك النمل والذباب والبراغيث ، وقال إن قتلها محرم يطعم شيئاً ، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور ، وبعض العلماء شبههه بالعقرب ، وبعضهم يقول إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله ، وإلا فلا ، وأقيسها ما ثبت عن عمر بن الخطاب . لأنه مما طبيعته أن يؤذي . وقد قدمنا عن الشافعي ، وأحمد ، وغيرهم ، أنه لا شيء في غير الصَّيد المأكول ، وهو ظاهر القرآن العظيم . المسألة الرابعة أجمع العلماء على أن المحرم إذا صاد الصَّيد المحرم عليه ، فعليه جزاؤه ، كما هو صريح قوله تعالى { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } المائدة 95 . اعلم أولاً أن المراد بقوله { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } المائدة 95 أنه متعمد قتله ، ذاكر إحرامه ، كما هو صريح الآية . وقول عامة العلماء . وما فسره به مجاهد ، من أن المراد أنه متعمد لقتله ناسٍ لإحرامه ، مستدلاً بقوله تعالى بعده { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } المائدة 95 قال لو كان ذاكراً لإحرامه ، لوجبت عليه العقوبة لأول مرة . وقال إن كان ذاكراً لإحرامه ، فقد بطل حجه لارتكابه محظور الإحرام غير صحيح ، ولا ظاهر لمخالفته ظاهر القرآن بلا دليل . ولأن قوله تعالى { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } المائدة 95 ، يدل على أنه متعمد ارتكاب المحظور ، والناسي للإحرام غير متعمد محظوراً . إذا علمت ذلك ، فاعلم أن قاتل الصَّيد متعمداً ، عالماً بإحرامه ، عليه الجزاء المذكور ، في الآية ، بنص القرآن العظيم ، وهو قول عامة العلماء . خلافاً لمجاهد ، ولم يذكر الله تعالى ، في هذه لآية الكريمة حكم الناسي ، والمخطئ . والفرق بينهما أن الناسي هو من يقصد قتل الصَّيد ناسياً إحرامه ، والمخطئ هو من يرمي غير الصَّيد ، كما لو رمى غرضاً فيقتل الصَّيد من غير قصد لقتله . ولا خلاف بين العلماء أنهما لا أثم عليهما ، لقوله تعالى { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } الأحزاب 5 الآية . وَلِمَا قدَّمنا في صحيح مسلم " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } البقرة 286 أن الله قال قد فعلت " . أما وجوب الجزاء عليهما فاختلف فيه العلماء . فذهب جماعة من العلماء منهم المالكية ، والحنفية ، والشافعية ، إلى وجوب الجزاء ، في الخطأ ، والنسيان ، لدلالة الأدلة . على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد ، وبين غيره ، وقالوا لا مفهوم مخالفة لقوله متعمداً لأنه جري على الغالب ، إذ الغالب ألا يقتل المحرم الصَّيد إلا عامداً ، وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في موانع اعتبار مفهوم المخالفة @ أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب @@ ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى { ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ } النساء 23 لجريه على الغالب ، وقال بعض من قال بهذا القول ، كالزهري وجب الجزاء في العمد بالقرآن العظيم ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة ، قال ابن العربي إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس ، و عمر فَنِعمَّا هي ، وما أحسنها إسوة . واحتج أهل هذا القول . بأنه صلى الله عليه وسلم " سئل عن الضبع فقال " هي صيد " ، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشاً ، ولم يقل عمداً ولا خطأ ، فدل على العموم ، وقال ابن بكير من علماء المالكية قوله سبحانه { مُتَعَمِّدًا } لم يرد به التجاوز عن الخطأ ، وذكر التعمد لبيان أن الصَّيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمداً كفارة . وقال القرطبي في تفسيره إن هذا القول بوجوب " الجزاء على المخطئ ، والناسي والعامد " ، قاله ابن عباس ، وروي عن عمر ، وطاوس ، والحسن ، وإبراهيم ، والزهري ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وابو حنيفة ، وأصحابهم . وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي ، والمخطئ لا جزاء عليهما ، وبه قال القرطبي ، وأحمد بن حنبل ، في إحدى الروايتين ، وسعيد بن جبير ، وأبو ثور ، وهو مذهب داود ، وروي أيضاً عن ابن عباس ، وطاوس ، كما نقله عنهم القرطبي . واحتج أهل هذا القول بأمرين الأول مفهوم قوله تعالى { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } المائدة 95 الآية ، فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك . الثاني أن الأصل براءة الذمة ، فمن ادعى شغلها ، فعليه الدليل . قال مقيده عفا الله عنه هذا القول قوي جداً من جهة النظر ، والدليل . المسالة الخامسة إذا صاد المحرم الصَّيد ، فاكل منه ، فعليه جزاء واحد لقتله ، وليس في أكله إلا التوبة والاستغفار ، وهذا قول جمهور العلماء ، وهو ظاهر الآية خلافاً لأبي حنيفة القائل بأن عليه أيضاً جزاء ما أكل يعني قيمته ، قال القرطبي وخالفه صاحباه في ذلك ، ويروى مثل قول أبي حنيفة عن عطاء . المسألة السادسة إذا قتل المحرم الصَّيد مرة بعد مرة ، حكم عليه بالجزاء في كل مرة ، في قول جمهور العلماء منهم مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وغيرهم ، وهو ظاهر قوله تعالى { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } المائدة 95 الآية ، لأن تكرار القتل يقتضي تكرار الجزاء ، وقال بعض العلماء لا يحكم عليه بالجزاء إلا مرة واحدة ، " فإن عاد لقتله مرة ثانية لم يحكم عليه ، وقيل له ينتقم الله منك " ، لقوله تعالى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } المائدة 95 الآية . ويُروى هذا القول عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وشريح ، كما نقله عنهم القرطبي ، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه يضرب حتى يموت . المسالة السابعة إذا دل المحرم حلالا على صيد فقتله ، فهل يجب على المحرم جزاء لتسببه في قتل الحلال للصيد بدلالته له عليه أو لا ؟ اختلف العلماء في ذلك ، فذهب الإمام أحمد ، وأبو حنيفة إلى أن المحرم الدال يلزمه جزاؤه كاملاً ، ويروى نحو ذلك عن علي ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد وبكر المزني ، وإسحاق ، ويدل لهذا القول سؤال النَّبي صلى الله عليه وسلم ، أصحابه ، " هل أشار أحد منهم إلى أبي قتادة على الحمار الوحشي " ؟ فإن ظاهره أنهم لو دلوه عليه كان بمثابة ما لو صادوه في تحريم الأكل . ويفهم من ذلك لزوم الجزاء ، والقاعدة لزوم الضمان للمتسبب إن لم يمكن تضمين المباشر ، والمباشر هنا لا يمكن تضمينه الصَّيد . لأنه حلال ، والدال متسبب ، وهذا القول هو الأظهر ، والذين قالوا به منهم من أطلق الدلالة ، ومنهم من اشترط خفاء الصَّيد بحيث لا يراه دون الدلالة ، كأبي حنيفة ، وقال الإمام الشافعي وأصحابه ، لا شيء على الدال . وروي عن مالك نحوه ، قالوا لأن الصَّيد يضمن بقتله ، وهو لم يقتله وإذا علم المحرم أن الحلال صاده من أجله فأكل منه ، فعليه الجزاء كاملاً عند مالك ، كما صرح بذلك في موطئه ، وأما إذا دل المحرم محرماً آخر على الصَّيد فقتله ، فقال بعض العلماء عليهما جزاء واحد بينهما ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وبه قال عطاء ، وحماد بن أبي سليمان كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ، وقال بعض العلماء على كل واحد منهما جزاء كامل ، وبه قال الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والحارث العكلي ، وأصحاب الراي ، كما نقله عنهم أيضاً صاحب المغني . وقال بعض العلماء الجزاء كله على المحرم المباشر ، وليس على المحرم الدال شيء ، وهذا قول الشافعي ، ومالك ، وهو الجاري على قاعدة تقديم المباشر على المتسبب في الضمان ، والمباشر هنا يمكن تضمينه لأنه محرم ، وهذا هو الأظهر ، وعليه فعلى الدال الاستغفار والتوبة ، وبهذا تعرف حكم ما لو دل محرم محرماً ، ثم دل هذا الثاني محرماً ثالثاً ، وهكذا ، فقتله الأخير ، إذ لا يخفى من الكلام المتقدم أنهم على القول الأول شركاء في جزاء واحد . وعلى الثاني على كل واحد منهم جزاء ، وعلى الثالث لا شيء إلا على من باشر القتل . المسالة الثامنة إذا اشترك محرمون في قتل صيد بأن باشروا قتله كلهم ، كما إذا حذفوه بالحجارة والعصي حتى مات ، فقال مالك وأبو حنيفة على كل واحد منهم جزاء كامل ، كما لو قتلت جماعة واحداً ، فإنهم يقتلون به جميعاً ، لأن كل واحد قاتل . وكذلك هنا كل واحد قاتل صيداً فعليه جزاء . وقال الشافعي ومن وافقه عليهم كلهم جزاء واحد ، لقضاء عمر وعبد الرحمن ، قاله القرطبي ، ثم قال أيضاً وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها ، فوقع في أنفسهم ، فأتوا ابن عمر فذكروا له ذلك ، فقال عليكم كلكم كبش ، قالوا أو على كل واحد منا كبش ، قال " إنكم لمعزز بكم عليكم كلكم كبش " . قال اللغويون لمعزز بكم أي لمشدد عليكم . وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعاً فقال " عليهم كبش يتخارجونه بينهم " ودليلنا قول الله سبحانه { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } المائدة 95 . وهذا خطاب لكل قاتل ، وكل واحد من القاتلين الصَّيد قاتل نفساً على التمام والكمال بدليل قتل الجماعة بالواحد ، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص . وقد قلنا بوجوبه إجماعاً منا ومنهم فثبت ما قلناه . وقال ابو حنيفة إذا قتل جماعة صيداً في الحرم وهم محلون ، فعليهم جزاء واحد ، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل أو الحرم ، فإن ذلك لا يختلف . وقال مالك على كل واحد منهم جزاء كامل . بناء على أن الرجل يكون محرماً بدخوله الحرم ، كما يكون محرماً بتلبيته بالإحرام ، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالتين . وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي ، قال السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة . وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه . وإذا قتل المحلون صيداً في الحرم فإنما أتلفوا دابة محترمة ، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة . ويشتركون في القيمة ، قال ابن العربي وأبو حنيفة أقوى منا ، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا ، اهـ من القرطبي . المسألة التاسعة اعلم أن الصَّيد ينقسم إلى قسمين قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش ، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير . وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة ، وخالف الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - الجمهور ، فقال إن المماثلة معنوية ، وهي القيمة ، أي قيمة الصَّيد في المكان الذي قتله فيه ، أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصَّيد في موضع قتله ، فيشتري بتلك القيمة هدياً إن شاء ، أو يشتري بها طعاماً ، ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر . واحتج أبو حنيفة - رحمه الله - بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبراً في النعامة بدنة ، وفي الحمار بقرة ، وفي الظبي شاة ، لما أوقفه على عدلين يحكمان به ، لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه ، ويختلف فيه وجه النظر . ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } المائدة 95 الآية ، فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي ، ثم قال { مِنَ النَّعَم } فصرح ببيان جنس المثل ، ثم قال { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } المائدة 95 وضمير { به } راجع إلى المثل من النعم ، لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير . ثم قال { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } المائدة 95 والذي يتصور أن يكون هدياً مثل المقتول من النعم ، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هدياً ولا جرى لها ذكر في نفس الآية ، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها بعيد من ظاهر الآية ، فاتضح أن المراد مثل من النعم ، وقوله لو كان الشبه الخلقي معتبراً لما أوقفه على عدلين ؟ أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصَّيد من كبر وصغر ، وما لا جنس له مما له جنس ، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص ، قاله القرطبي . قال مقيده عفا الله عنه المراد ب المثلية في الآية التقريب ، وإذاً فنوع المماثلة قد يكون خفياً لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة ، ككون الشاة مثلاً للحمامة لمشابهتها لها في عب الماء والهدير . وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم ، فاعلم أن قاتل الصَّيد مخير بينه ، وبين الإطعام ، والصيام ، كما هو صريح الآية الكريمة ، لأن " أو " حرف تخيير ، وقد قال تعالى { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } المائدة 95 ، وعليه جمهور العلماء . فإن اختار جزاء بالمثل من النعم ، وجب ذبحه في الحرم خاصة ، لأنه حق لمساكين الحرم ، ولا يجزئ في غيره كما نص عليه تعالى بقوله { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } المائدة 95 والمراد الحرم كله ، كقوله { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } الحج 33 مع أن المنحر الأكبر مني ، وإن اختار الطعام ، فقال مالك أحسن ما سمعت فيه ، أنه يقوم الصَّيد بالطعام ، فيطعم كل مسكين مداً ، أو يصوم مكان كل مد يوماً . وقال ابن القاسم عنه إن قَوَّمَ الصَّيد بالدراهم ، ثم قَوَّم الدراهم بالطعام ، أجزأه . والصواب الأول . فإن بقي أقل من مد تصدق به عند بعض العلماء ، وتممه مداً كاملاً عند بعض آخر ، أما إذا صام ، فإنه يكمل اليوم المنكسر بلا خلاف . وقال الشافعي إذا اختار الإطعام ، أو الصيام ، فلا يقوم الصَّيد الذي له مثل ، وإنما يقوم مثله من النعم بالدراهم ، ثم تقوم الدراهم بالطعام ، فيطعم كل مسكين مداً ، أو يصوم عن كل مد يوماً ، ويتمم المنكسر . والتحقيق أن الخيار لقاتل الصَّيد الذي هو دافع الجزاء . وقال بعض العلماء الخيار للعدلين الحكمين ، وقال بعضهم ينبغي للمحكمين إذا حكما بالمثل أن يخيرا قاتل الصَّيد بين الثلاثة المذكورة . وقال بعض العلماء إذا حكما بالمثل لزمه ، والقرآن صريح في أنه لا يلزمه المثل من النعم ، إلا إذا اختاره على الإطعام والصَّوم ، للتخيير المنصوص عليه بحرف التخيير في الآية . وقال بعض العلماء هي على الترتيب ، فالواجب الهدي ، فإن لم يجد فالإطعام ، فإن لم يجد فالصَّوم ، ويروى هذا عن ابن عباس ، والنخعي وغيرهما ، ولا يخفى أن في هذا مخالفة لظهر القرآن ، بلا دليل . وقال أبو حنيفة يصوم عن كل مدين يوماً واحداً اعتباراً بفدية الأذى ، قاله القرطبي . واعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة ، أنه يصوم عدل الطعام المذكور ، ولو زاد الصيام عن شهرين ، أو ثلاثة . وقال بعض العلماء لا يتجاوز صيام الجزاء شهرين . لأنهما أعلى الكفارات ، واختاره ابن العربي ، وله وجه من النظر ، ولكن ظاهر الآية يخالفه . وقال يحيى بن عمر من المالكية إنما يقال كم رجلاً يشبع من هذا الصَّيد ، فيعرف العدد ، ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا العدد ؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء صام عدد أمداده ، قال القرطبي وهذا قول حسن احتاط فيه . لأنه قد تكون قيمة الصَّيد من الطعام قليلة ، فبهذا النظر يكثر الإطعام . واعلم أن الأنواع الثلاثة واحد منها يشترط له الحرم إجماعاً ، وهو الهدي كما تقدم ، وواحد لا يشترط له الحرم إجماعاً ، وهو الصَّوم ، وواحد اختلف فيه ، وهو الإطعام . فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يطعم إلا في الحرم ، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم في موضع إصابة الصَّيد ، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم حيث شاء . وأظهرها أنه حق لمساكين الحرم . لأنه بدل عن الهدي ، أو نظير له ، وهو حق لهم إجماعاً ، كما صرح به تعالى بقوله { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } المائدة 95 ، وأما الصَّوم فهو عبادة تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق ، فله فعلها في أي موضع شاء . وأما إن كان الصَّيد لا مثل له من النعم كالعصافير . فإنه يقوم ، ثم يعرف قدر قيمته من الطعام ، فيخرجه لكل مسكين مد ، أو يصوم عن كل مد يوماً . فنحصل أن ماله مثل من النعم يخير فيه بين ثلاثة أشياء هي الهدي ، بمثله ، والإطعام ، والصيام . وأن ما لا مثل له يخير فيه بين شيئين فقط وهما الإطعام ، والصيام على ما ذكرنا . واعلم أن المثل من النعم له ثلاث حالات الأولى أن يكون تقدم فيه حكم من النَّبي صلى الله عليه وسلم . الثانية أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصَّحابة ، أو التابعين مثلاً . الثالثة ألا يكون تقدم فيه حكم منه صلى الله عليه وسلم ، ولا منهم رضي الله عنهم . فالذي حكم صلى الله عليه وسلم فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك ، وذلك كالضبع ، فإنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بكبش ، قال ابن حجر في التلخيص ما نصه حديث " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش " أخرجه أصحاب السنن ، وابن حبان وأحمد ، والحاكم في المستدرك من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار " عن جابر بلفظ سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال " هو صيد ، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم " ، ولفظ الحاكم " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً " ، وجعله من الصَّيد وهو عند ابن ماجه إلا أنه لم يقل نجدياً ، قال الترمذي سألت عنه البخاري فصححه ، وكذا صححه عبد الحق وقد أعل بالوقف . وقال البيهقي هو حديث جيد تقوم به الحجة ، ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر قال " لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش " . الحديث ، ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفاً ، وصحح وقفه في هذا الباب الدارقطني ، ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل " وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني ، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه ، وقد أعل بالإرسال . ورواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلاً وقال لا يثبت مثله لو انفرد ، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار المتقدم ، وقال البيهقي وروي عن ابن عباس موقوفاً أيضاً . قال مقيده عفا الله عنه قضاؤه صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له ، وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم ، والحديث إذا ثبت صحيحاً من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى . كما هو الصحيح عند المحدثين لأن الوصل والرفع من الزيادات ، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود @ والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ … إلخ @@ وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصَّحابة ، أو ممن بعدهم . فقال بعض العلماء يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد ، لأن الله قال { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } المائدة 95 ، وقد حكما بأن هذا مثل لهذا . وقال بعض العلماء لا بد من حكم عدلين من جديد ، وممن قال به مالك ، قال القرطبي ولو اجتزأ بحكم الصَّحابة رضي الله عنهم لكان حسناً . وروي عن مالك أيضاً أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة ، وحمار الوحش ، والظبي ، والنعامة ، فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف ، وقد روي عن عمر " أنه حكم هو وعبد الرحمن بن عوف في ظبي بعنز " أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما . وروي عن عبد الرحمن بن عوف ، وسعد رضي الله عنهما " أنهما حكما في الظبي بتيس أعفر " ، وعن ابن عباس وعمر ، وعثمان وعلي ، وزيد بن ثابت ومعاوية ، وابن مسعود وغيرهم ، " أنهم قالوا في النعامة بدنة " ، أخرجه البيهقي وغيره . وعن ابن عباس وغيره " أن في حمار الوحش والبقرة بقرة ، وأن في الأيل ، بقرة " . وعن جابر " أن عمر قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة " ، أخرجه مالك والبيهقي ، وروى الأجلح بن عبد الله هذا الأثر عن جابر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، والصحيح موقوف على عمر كما ذكره البيهقي وغيره ، وقال البيهقي وكذلك رواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن عمر من قوله ، وعن ابن عباس " أنه قضى في الأرنب بعناق ، وقال هي تمشي على اربع ، والعناق كذلك ، وهي تأكل الشجر ، والعناق كذلك وهي تجتر ، والعناق كذلك " رواه البيهقي . وعن ابن مسعود " أنه قضى في اليربوع بحفر أو جفرة " رواه البيهقي أيضاً ، وقال البيهقي قال ابو عبيد قال أبو زيد الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه ، وعن شريح أنه قال لو كان معي حكم حكمت في الثعلب بجدي ، وروي عن عطاء أنه قال في الثعلب شاة ، وروي عن عمر وأربد رضي الله عنهما " أنهما حكما في ضب قتله أربد المذكور بجدي قد جمع الماء والشجر " رواه البيهقي وغيره . وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه " أنه حكم في أم حبين بجلان من الغنم " ، والجلان الجدي ، رواه البيهقي وغيره . تنبيه أقل ما يكون جزاء من النعم عند مالك شاة تجزئ ضحية ، فلا جزاء عنده بجفرة ولا عناق ، مستدلاً بأن جزاء الصَّيد كالدية لا فرق فيها بين الصغير والكبير ، وبأن الله قال { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } المائدة 95 فلا بد أن يكون الجزاء يصح هدياً ، ففي الضب واليربوع عنده قيمتها طعاماً . قال مقيده عفا الله عنه قول الجمهور في جزاء الصغير بالصغير ، والكبير بالكبير ، هو الظاهر ، وهو ظاهر قوله تعالى { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } المائدة 95 قال ابن العربي وهذا صحيح ، وهو اختيار علمائنا يعني مذهب الجمهور الذي هو اعتبار الصغر والكبر والمرض ونحو ذلك كسائر المتلفات . المسألة العاشرة إذا كان ما أتلفه المحرم بيضاً ، فقال مالك في بيض النعامة عشر ثمن البدنة ، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن شاة ، قال ابن القاسم وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر ، فإن استهل فعليه الجزاء كاملاً كجزاء الكبير من ذلك الطير ، قال ابن الموار بحكومة عدلين وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر قيمته . قال مقيده عفا الله عنه وهو الأظهر ، قال القرطبي روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة " أن النَّبي صلى الله عليه سلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه " أخرجه الدارقطني ، وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين " ، قاله القرطبي ، وإن قتل المحرم فيلاً فقيل فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان ، وإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاماً ، فيكون عليه ذلك . قال القرطبي والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء ، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام إلى الحد الذي نزل فيه والفيل فيه ، وهذا عدله من الطعام وأما إن نظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه ، فيكثر الطعام وذلك ضرر اهـ . قال مقيده عفا الله عنه هذا الذي ذكره القرطبي في اعتبار مثل الفيل طعاماً فيه أمران الأول أنه لا يقدر عليه غالباً ، لأن نقل الفيل إلى الماء ، وتحصيل المركب ورفع الفيل فيه ، ونزعه منه ، لا يقدر عليه آحاد الناس غالباً ، ولا ينبغي التكليف العام إلا بما هو مقدور غالباً لكل أحد . والثاني أن كثرة القيمة لا تعد ضرراً ، لأنه لم يجعل عليه إلا قيمة ما أتلف في الإحرام ، ومن أتلف في الإحرام حيواناً عظيماً لزمه جزاء عظيم ، ولا ضرر عليه ، لأن عظم الجزاء تابع لعظم الجناية كما هو ظاهر . المسالة الحادية عشرة أجمع العلماء على أن صيد الحرم المكي ممنوع ، وأن قطع شجره ، ونباته حرام ، إلا الإذخر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكة ، ولا يختلى خلاه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته ، إلا لمعرف " فقال العباس إلا الإذخر ، فإنه لا بد لهم منه ، فإنه للقيون والبيوت ، فقال " إلا الإذخر " ، متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وعن أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال " لا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد " ، فقال العباس إلا الإذخر ، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا الإذخر " متفق عليه أيضاً . وفي لفظ " لا يعضد شجرها " ، بدل قوله " لا يختلى شوكها " ، والأحاديث في الباب كثيرة . واعلم أن شجر الحرم ونباته طرفان ، وواسطة طرف لا يجوز قطعه إجماعاً ، وهو ما أنبته الله في الحرم من غير تسبب الآدميين ، وطرف يجوز قطعه إجماعاً ، وهو ما زرعه الآدميون من الزروع ، والبقول ، والرياحين ونحوها ، وطرف اختلف فيه ، وهو ما غرسه الآدميون من غير المأكول ، والمشموم ، كالأثل ، والعوسج ، فأكثر العلماء على جواز قطعه . وقال قوم منهم الشافعي بالمنع ، وهو أحوط في الخروج من العهدة ، وقال بعض العلماء إن نبت أولا في الحل ، ثم نزع فغرس في الحرم جاز قطعه ، وإن نبت أولاً في الحرم ، فلا يجوز قطعه ، ويحرم قطع الشوك والعوسج ، قال ابن قدامة في المغني ، وقال القاضي ، وأبو الخطاب لا يحرم ، وروي ذلك عن عطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، والشافعي ، لأنه يؤذي بطبعه ، فأشبه السباع من الحيوان . قال مقيده عفا الله عنه قياس شوك الحرم على سباع الحيوان مردود من وجهين الأول أن السباع تتعرض لأذى الناس ، وتقصده بخلاف الشوك . الثاني أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يعضد شوكه " ، والقياس المخالف للنص فاسد الاعتبار . قال في مراقي السعود @ والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى @@ وفساد الاعتبار قادح مبطل للدليل ، كما تقرر في الأصول ، واختلف في قطع اليابس من الشجر ، والحشيش ، فأجازه بعض العلماء ، وهو مذهب الشافعي وأحمد . لأنه كالصيد الميت لا شيء على من قده نصفين ، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم " ولا يختلى خلاه " لأن الخلا هو الرطب من النبات ، فيفهم منه أنه لا بأس بقطع اليابس . وقال بعض العلماء لا يجوز قطع اليابس منه ، واستدلوا له بأن استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس ، وبأن في بعض طرق حديث أبي هريرة ولا يحتش حشيشها ، والحشيش في اللغة اليابس من الشعب ، ولا شك أن تركه أحوط . واختلف أيضاً في جواز ترك البهائم ترعى فيه ، فمنعه أبو حنيفة ، وروي نحوه عن مالك ، وفيه عن أحمد روايتان ، ومذهب الشافعي جوازه ، واحتج من منعه بأن ما حرم اتلافه ، لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد ، واحتج من أجازه بأمرين الأول حديث ابن عباس قال " أقبلت راكباً على أتان ، فوجدت النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ، فدخلت في الصف وأرسلت الأتان ترتع " متفق عليه ، ومنى من الحرم . الثاني أن الهدْيَ كان يدخل الحرم بكثرة في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وزمن أصحابه ، ولم ينقل عن أحد الأمر بسد أفواه الهدي عن الأكل من نبات الحرم . وهذا القول أظهر ، والله تعالى أعلم . وممن قال به عطاء ، واختلف في أخذ الورق ، والمساويك من شجر الحرم إذا كان أخذ الورق بغير ضرب يضر بالشجرة ، فمنعه بعض العلماء لعموم الأدلة ، وأجازه الشافعي ، لأنه لا ضرر فيه على الشجرة ، وروي عن عطاء ، وعمرو بن دينار ، أنهما رخصا في ورق السنا للاستمشاء بدون نزع أصله ، والأحوط ترك ذلك كله ، والظاهر أن من أجازه استدل لذلك بقياسه على الإذخر بجامع الحاجة . وقال ابن قدامة في المغني ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان ، وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي ، ولا ما سقط من الورق ، نص عليه أحمد ، ولا نعلم فيه خلافاً ، لأن الخبر إنما ورد في القطع ، وهذا لم يقطع فأما إن قطعه آدمي ، فقال أحمد لم أسمع إذا قطع أنه ينتفع به ، وقال في الدوحة تقطع من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها ، وذلك لأنه ممنوع من اتلافه لحرمة الحرم ، فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به ، كالصيد يذبحه المحرم . ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به ، لأنه انقطع بغير فعله ، فأبيح له الانتفاع به ، كما لو قطعه حيوان بهيمي ، ويفارق الصيد الذي ذبحه ، لأن الذكاة تعتبر لها الأهلية ، ولهذا لا تحصل بفعل بهيمة بخلاف هذا اهـ . وقال في المغني أيضاً ويباح أخذ الكمأة من الحرم ، وكذلك الفقع ، لأنه لا أصل له ، فأشبه الثمرة ، وروى حنبل قال يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق ، وما سقط من الشجر ، وما أنبت الناس . واختلف في عشب الحرم المكي ، هل يجوز أخذه لعلف البهائم ؟ والأصح المنع لعموم الأدلة . فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن الحلال إذا قتل صيداً في الحرم المكي . فجمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة ، وعامة فقهاء الأمصار على أن عليه الجزاء ، وهو كجزاء المحرم المتقدم ، إلا أن أبا حنيفة قال ليس فيه الصوم ، لأنه إتلاف محض من غير محرم . وخالف في ذلك داود بن علي الظاهري ، محتجاً بأن الأصل براءة الذمة ولم يرد في جزاء صيد الحرم نص ، فيبق على الأصل الذي هو براءة الذمة وقوله هذا قوي جداً . واحتج الجمهور " بأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم المكي بشاة شاة " ، روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس ، ولم ينقل عن غيرهم خلافهم ، فيكون إجماعاً سكوتياً ، واستدلوا أيضاً بقياسه على صيد المحرم ، بجامع أن الكل صيد ممنوع لحق الله تعالى ، وهذا الذي ذكرنا عن جمهور العلماء من أن كل ما يضمنه المحرم يضمنه من في الحرم يستثنى منه شيئان الأول منهما القمل ، فإنه مختلف في قتله في الإحرام ، وهو مباح في الحرم بلا خلاف . والثاني الصيد المائي مباح في الإحرام بلا خلاف ، واختلف في اصطياده من آبار الحرم وعيونه ، وكرهه جابر بن عبد الله ، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام " لا ينفر صيدها " فثبتت حرمة الصيد لحرمة المكان ، وظاهر النص شمول كل صيد ، ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء ، وأجازه بعض العلماء محتجاً بأن الإحرام لم يحرمه ، فكذلك الحرم ، وعن الإمام أحمد روايتان في ذلك بالمنع والجواز . وكذلك اختلف العلماء أيضاً في شجر الحرم المكي وخلاه ، هل يجب على من قطعهما ضمان ؟ فقالت جماعة من أهل العلم ، منهم مالك ، وأبو ثور ، وداود لا ضمان في شجره ونباته ، وقال ابن المنذر لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم فرضاً من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، وأقول كما قال مالك نستغفر الله تعالى . والذين قالوا بضمانه ، منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، إلا أن أبا حنيفة قال يضمن كله بالقيمة ، وقال الشافعي ، وأحمد يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة ، والصغيرة بشاة ، والخلا بقيمته والغصن بما نقص ، فإن نبت ما قطع منه ، فقال بعضهم يسقط الضمان ، وقال بعضهم بعدم سقوطه . واستدل من قال في الدوحة بقرة ، وفي الشجرة الجزلة شاة بآثار رويت في ذلك عن بعض الصحابة كعمر وابن عباس ، والدوحة هي الشجرة الكبيرة ، والجزلة الصغيرة . المسألة الثانية عشرة حرم المدينة اعلم أن جماهير العلماء على أن المدينة حرم أيضاً لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ، وخالف أبو حنيفة الجمهور ، فقال إن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له أحكام الحرم من تحريم قتل الصيد ، وقطع الشجر ، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترد هذا القول ، وتقضي بأن ما بين لابتي المدينة حرم لا ينفر صيده ، ولا يختلي خلاه إلا لعلف ، فمن ذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " ، الحديث متفق عليه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال " حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة ، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى " متفق عليه أيضاً ، وكان أبو هريرة يقول " لو رأيت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها " وعن أبي هريرة أيضاً في المدينة قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد " رواه الإمام أحمد ، وعن أنس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أشرف على المدينة ، فقال " اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم " متفق عليه . وللبخاري عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " المدينة حرام من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث ، من أحدث فيها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ، ولمسلم عن عاصم الأحول ، قال سألت أنساً أَحْرَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؟ فقال نعم هي حرام لا يُختلى خلاها " ، الحديث . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إني حرمت المدنية ، حرام ما بين مأزميها ألا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف " ، رواه مسلم . وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ، ولا يصاد صيدها " ، رواه مسلم أيضاً . وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المدينة حرام ما بين عير إلى ثور " ، الحديث متفق عليه . وعن علي رضي الله عنه ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في المدينة " لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها ، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ، ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره " ، رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ورواه الإمام أحمد ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها ، أو يقتل صيدها " . وقال " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، لا يخرج عنها أحد رغبة إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شهيداً ، أو شفيعاً يوم القيامة " ، رواه مسلم . وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها " رواه مسلم أيضاً . وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال " أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى المدينة ، فقال " إنها حرم آمن " رواه مسلم في صحيحه أيضاً . وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه أبي سعيد رضي الله عنهما " أنه سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول " إني حرمت ما بين لابتي المدينة ، كما حرم إبراهيم مكة " . قال وكان أبو سعيد الخدري يجد في يد أحدنا الطير ، فيأخذه فيفكه من يده ، ثم يرسله ، رواه مسلم في صحيحه أيضاً ، وعن عبد الله بن عبادة الزرقي ، " أنه كان يصيد العصافير في بئر إهاب ، وكانت لهم ، قال فرآني عبادة ، وقد أخذت عصفوراً فانتزعه مني فأرسله ، وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حُرِّم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم عليه السلام مكة " وكان عبادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البيهقي . وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، قال اصطدت طيراً بالقنبلة ، فخرجت به في يدي فلقيني أبي عبدالرحمن بن عوف ، فقال ما هذا في يدك ؟ فقلت اصطدته بالقنبلة ، فعرك أذني عركاً شديداً ، وانتزعه من يدي ، فأرسله ، فقال " حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم صيد ما بين لابتيها " رواه البيهقي أيضاً ، والقنبلة آلة يصاد بها النهس وهو طائر . وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه " أنه وجد غلماناً قد ألجؤوا ثعلباً إلى زاوية فطردهم عنه " ، قال مالك ولا أعلم إلا أنه قال " أفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا " ، رواه البيهقي أيضاً . وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه " أنه وجد رجلاً بالأسواف - وهو موضع بالمدينة - وقد اصطاد نهساً فأخذه زيد من يده فأرسل ، ثم قال أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم صيد ما بين لابتيها " ، رواه البيهقي ، والرجل الذي اصطاد النهس هو شرحبيل بن سعد والنهي بضم النون وفتح الهاء بعدهما سين مهملة - طير صغير فوق العصفور شبيه بالقنبرة . والأحاديث في الباب كثيرة جداً ، ولا شك في أن النصوص الصحيحة الصريحة التي أوردناها في حرم المدينة لا شك معها ، ولا لبس في أنها حرام ، لا ينفر صيدها ، لا يقطع شجرها ، ولا يختلى خلاها إلا لعلف ، وما احتج به بعض أهل العلم على أنها غير حرام من قوله صلى الله عليه وسلم " ما فعل النَّعَيْر يَا أَبَا عُمَيْرٍ " ، لا دليل فيه ، لأنه محتمل لأن يكون ذلك قبل تحريم المدينة ، ومحتمل لأن يكون صيد في الحل ، ثم أدخل المدينة . وقد استدل به بعض العلماء على جواز إمساك الصيد الذي صيد في الحل وإدخاله المدينة ، وما كان محتملاً لهذه الاحتمالات لا تعارض به النصوص الصريحة الصحيحة الكثيرة التي لا لبس فيها ولا احتمال ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء القائلين بحرمة المدينة ، وهم جمهور علماء الأمة اختلفوا في صيد حرم المدينة هل يضمنه قاتله أو لا ؟ وكذلك شجرها ، فذهب كثير من العلماء منهم مالك والشافعي في الجديد ، وأصحابهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، و عليه أكثر أهل العلم إلى أنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام ، فلم يجب فيه جزاء كصيد وج . واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم " المدينة حرم ما بين عير وثور ، فمن أحدث فيها حدثاً ، أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلاً " ، فذكره صلى الله عليه وسلم لهذا الوعيد الشديد في الآخرة ، ولم يذكر كفارة في الدنيا دليل على أنه لا كفارة تجب فيه في الدنيا ، وهو ظاهر . وقال ابن أبي ذئب ، وابن المنذر يجب في صيد الحرم المدني الجزاء الواجب في صيد الحرم المكي ، وهو قول الشافعي في القديم . واستدل أهل هذا القول بأنه صلى الله عليه وسلم صرح في الأحاديث الصحيحة المتقدمة بأنه حرم المدينة مثل تحريم إبراهيم لمكة ، ومماثلة تحريمها تقتضي استواءهما في جزاء من انتهك الحرمة فيهما . قال القرطبي ، قال القاضي عبد الوهاب وهذا القول أقيس عندي على أصولنا لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة ، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام اهـ . قال مقيده عفا الله عنه ومذهب الجمهور في تفضيل مكة ، وكثرة مضاعفة الصلاة فيها زيادة على المدينة بمائة ضعف أظهر لقيام الدليل عليه ، والله تعالى أعلم . وذهب بعض من قال بوجوب الجزاء في الحرم المدني إلى أن الجزاء فيه هو أخذ سلب قاتل الصيد ، أو قاطع الشجر فيه . قال مقيده عفا الله عنه وهذا القول هو أقوى الأقوال دليلاً . لما رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه " أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً ، أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه ، أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يرده عليهم " ، رواه مسلم في صحيحه ، وأحمد وما ذكره القرطبي في تفسيره رحمه الله من أن هذا الحكم خاص بسعد رضي الله عنه ، مستدلاً بأن قوله " نفلنيه " أي أعطانيه ظاهر في الخصوص به دون غيره فيه عندي أمران الأول أن هذا لا يكفي في الدلالة على الخصوص ، لأن الأصل استواء الناس في الأحكام الشرعية إلا بدليل ، وقوله " نفلنيه " ليس بدليل ، لاحتماله أنه نفل كل من وجد قاطع شجر ، أو قاتل صيد بالمدينة ثيابه ، كما تنفل سعداً ، وهذا هو الظاهر . الثاني أن سعداً نفسه روي عنه تعميم الحكم ، وشموله لغيره ، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن سليمان بن أبي عبد الله قال " رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلبه ثيابه فجاء مواليه ، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم ، وقال " من رأيتموه يصيد فيه شيئاً فلكم سلبه " فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم " وفي لفظ " من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه " وروى هذا الحديث أيضاً الحاكم وصححه ، وهو صريح في العموم وعدم الخصوص بسعد كما ترى ، وفيه تفسير المراد بقوله " نفلنيه " وأنه عام لكل من وجد أحداً يفعل فيها ذلك . وتضعيف بعضهم لهذا الحديث بأن في إسناده سليمان بن أبي عبد الله غير مقبول ، لأن سليمان بن أبي عبد الله مقبول ، قال فيه الذهبي تابعي وثق ، وقال فيه ابن حجر في التقريب مقبول . والمقبول عنده كما بينه في مقدمة تقريبه هو من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله فهو مقبول حيث يتابع ، وإلا فلين الحديث ، وقال فيه ابن أبي حاتم ليس بمشهور ، ولكن يعتبر بحديثه اهـ . وقد تابع سليمان بن أبي عبد الله في هذا الحديث عامر بن سعد عند مسلم وأحمد ، ومولى لسعد عند أبي داود كلهم عن سعد رضي الله عنه ، فاتضح رد تضعيفه مع ما قدمنا من أن الحاكم صححه ، وأن الذهبي قال فيه تابعي موثق . والمراد بسلب قاطع الشجر أو قاتل الصيد في المدينة أخذ ثيابه . قال بعض العلماء حتى سراويله . والظاهر ما ذكره بعض أهل العلم من وجوب ترك ما يستر العورة المغلظة ، والله تعالى أعلم . وقال بعض العلماء السلب هنا سلب القاتل ، وفي مصرف هذا السلب ثلاثة أقوال أصحها أنه للسالب كالقتيل ، ودليله حديث سعد المذكور . والثاني أنه لفقراء المدينة . والثالث أنه لبيت المال ، والحق الأول . وجمهور العلماء على أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه ، أن قدره اثنا عشر ميلاً من جهات المدينة لا يجوز قطع شجره ، ولا خلاه ، كما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن يهش هشاً رقيقاً " أخرجه أبو داود والبيهقي ، ولم يضعفه أبو داود ، والمعروف عن أبي داود رحمه الله إنه إن سكت عن الكلام في حديث فأقل درجاته عنده الحسن . وقال النووي في شرح المهذب بعد أن ساق حديث جابر المذكور رواه أبو داود بإسناد غير قوي لكنه لم يضعفه اهـ ، ويعتضد هذا الحديث بما رواه البيهقي بإسناده عن محمد بن زياد قال " كان جدي مولى لعثمان بن مظعون ، وكان يلي أرضاً لعثمان فيها بقل وقثاء . قال فربما أتاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف النهار ، واضعاً ثوبه على راسه يتعاهد الحِمَى ، ألا يعضد شجره ، ولا يخبط . قال فيجلس إليَّ فيحدثني ، وأطعمه من القثاء والبقل ، فقال له يوماً أراك لا تخرج من ها هنا . قال قلت أجل . قال إني أستعملك على ما ها هنا فمن رأيت يعضد شجراً أو يخبط فخذ فأسه ، وحبله ، قال قلت آخذ رداءه ، قال لا " وعامة العلماء على أن صيد الحمى المذكور غير حرام ، لأنه ليس بحرم ، وإنما هو حمى حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم للخيل وإبل الصدقة والجزية ، ونحو ذلك . واختلف في شجر الحمى هل يضمنه قاطعه ؟ والأكثرون على أنه لا ضمان فيه ، وأصح القولين عند الشافعية ، وجوب الضمان فيه بالقيمة ، ولا يسلب قاطعه ، وتصرف القيمة في مصرف نعم الزكاة والجزية . المسالة الثالثة عشرة اعلم أن جماهير العلماء على إباحة صيد وج ، وقطع شجره . وقال الشافعي رحمه الله تعالى أكره صيد وج ، وحمله المحققون من أصحابه على كراهة التحريم . واختلفوا فيه على القول بحرمته ، هل فيه جزاء كحرم المدينة أو لا شيء فيه ؟ ولكن يؤدب قاتله ، وعليه أكثر الشافعية . وحجة من قال بحرمة صيد وج ما رواه أبو داود ، وأحمد والبخاري في تاريخه ، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " صَيدَ وَج محرَّم " الحديث . قال ابن حجر في التلخيص سكت عليه أبو داو وحسنه المنذري ، وسكت عليه عبد الحق ، فتعقبه ابن القطان بما نقل عن البخاري ، أنه لم يصح ، وكذا قال الأزدي . وذكر الذهبي ، أن الشافعي صححه ، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه ، وقال ابن حبان في رواية المنفرد به ، وهو محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي كان يخطئ ، ومقتضاه تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف ، وقال العقيلي لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف ، وقال النووي في شرح المهذب إسناده ضعيف . وذكر البخاري في تاريخه في ترجمة عبد الله بن إنسان أنه لا يصح . وقال ابن حجر في التقريب في حمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي المذكور لين الحديث ، وكذلك أبوه عبد الله الذي هو شيخه في هذا الحديث قال فيه أيضاً لين الحديث ، وقال ابن قدامة في المغني في هذا الحديث في صيد وج ضعفه أحمد ذكره الخلال في كتاب العلل ، فإذا عرفت هذا ظهر لك حجة الجمهور في إباحة صيد وج وشجره كون الحديث لم يثبت ، والأصل براءة الذمة ، ووج - بفتح الواو ، وتشديد الجيم - أرض بالطائف . وقال بعض العلماء هو واد بصحراء الطائف ، وليس المراد به نفس بلدة الطائف . وقيل هو كل أرض الطائف ، وقيل هو اسم لحصون الطائف وقيل ، لواحد منها وربما التبس وجّ المذكور بوح - بالحاء المهملة - وهي ناحية نعمان فإذا عرفت حكم صيد المحرم ، وحكم صيد مكة ، والمدينة ، ووجّ ، مما ذكرنا فاعلم أن الصيد المحرم إذا كان بعض قوائمه في الحل ، وبعضها في الحرم ، أو كان على غصن ممتد في الحل ، وأصل شجرته في الحرم ، فاصطياده حرام على التحقيق تغليباً لجانب حرمة الحرم فيهما . أما إذا كان أصل الشجرة في الحل ، وأغصانها ممتدة في الحرم ، فاصطاد طيراً واقعاً على الأغصان الممتدة في الحرم ، فلا إشكال في أنه مصطاد في الحرم ، لكون الطير في هواء الحرم . واعلم أن ما ادعاه بعض الحنفية ، من أن أحاديث تحديد حرم المدينة مضطربة لأنه وقع في بعض الروايات باللابتين ، وفي بعضها بالحرتين ، وفي بعضها بالجبلين ، وفي بعضها بالمأزمين ، وفي بعضها بعير وثور ، غير صحيح لظهور الجمع بكل وضوح . لأن اللابتين هما الحرتان المعروفتان ، وهما حجارة سود على جوانب المدينة والجبلان هما المأزمان ، وهما عير وثور والمدينة بين الحرتين ، كما أنها أيضاً بين ثور وعير ، كما يشاهده من نظرها . وثور جبيل صغير يميل إلى الحمرة بتدوير خلف أحد من جهة الشمال . فمن ادعى من العلماء أنه ليس في المدينة جبل يسمى ثوراً ، فغلط منه . لأنه معروف عند الناس إلى اليوم ، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح . واعلم أنه على قراءة الكوفيين { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ } المائدة 95 الآية . بتنوين جزاء ، ورفع مثل فالأمر واضح ، وعلى قراءة الجمهور { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ } بالإضافة ، فأظهر الأقوال أن الإضافة بيانية ، أي جزاء هو مثل ما قتل من النعم ، فيرجع معناه إلى الأول ، والعلم عند الله تعالى .