Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 47-47)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب ، بين بعض أسبابه ، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين أي متنعمين ، وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة ، لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وقوله تعالى : { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَىٰ سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [ الانشقاق : 11 - 13 ] ، وقد أوضحنا هذا في الكلام على آية الطور المذكورة آنفاً . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون إنكار البعث سبباً لدخول النار ، لأن قوله تعالى لما ذكر أنهم في سموم وحميم وظل من يحموم ، بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً الآية جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } [ الرعد : 5 ] . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً } [ الفرقان : 11 ] ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكارهم بعث آبائهم الأولين في قوله { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } وأنه تعالى بين لهم أنه يبعث الأولين والآخرين في قوله ، { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الواقعة : 49 - 50 ] جاء موضحاً في غير هذا الموضع ، فبينا فيه أن البعث الذي أنكروا ، سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين ، وذلك في قوله تعالى في الصافات { وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } [ الصافات : 15 - 19 ] . وقوله : { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } ، قرأه عامة القراء السبعة ، غير ابن عامر وقالون عن نافع : { أَوَ ءَابَآؤُنَا } بفتح الواو على الاستفهام والعطف ، وقد قدمنا مراراً أن همزة الاستفهام إذا جاءت بعدها أداة عطف كالواو والفاء ، وثم نحو { أَوَ ءَابَآؤُنَا } { أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ } [ الأعراف : 97 ] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [ يونس : 51 ] ، أن في ذلك وجهين لعلماء العربية والمفسرين الأول منهما أن أداة العطف عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها ، وهمزة الاستفهام متأخرة رتبة عن حرف العطف ، ولكنها قدمت عليه لفظاً لا معنى لأن الأصل في الاستفهام التصدير به كما هو معلوم في محله . والمعنى على هذا واضح وهو أنهم أنكروا بعثهم أنفسهم بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وعطفوا على ذلك بالواو إنكارهم بعث آبائهم الأولين ، بأداة الإنكار التي هي الهمزة المقدمة عن محلها لفظاً لا رتبة ، وهذا القول هو قول الأقدمين من علماء العربية ، واختاره أبو حيان في البحر المحيط وابن هشام في مغني اللبيب ، وهو الذي صرنا نميل إليه أخيراً بعد أن كنا نميل إلى غيره . الوجه الثاني : هو أن همزة الاستفهام في محلها الأصلي ، وأنها متعلقة بجملة محذوفة ، والجملة المصدرية بالاستفهام معطوفة على المحذوف بحرف العطف الذي بعد الهمزة ، وهذا الوجه يميل إليه الزمخشري في أكثر المواضع من كشافه ، وربما مال إلى غيره . وعلى هذا القول ، فالتقدير : أمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون ؟ وما ذكره الزمخشري هنا من أن قوله : { ءَابَآؤُنَا } [ الواقعة : 48 ] معطوف على واو الرفع في قوله : { لَمَبْعُوثُونَ } ، وأنه ساغ العطف على ضمير رفع متصل من غير توكيد بالضمير المنفصل لأجل الفصل بالهمزة لا يصح ، وقد رده عليه أبو حيان وابن هشام وغيرهما . وهذا الوجه الأخير مال إليه ابن مالك في الخلاصة في قوله : @ وحذف متبوع بداهنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح @@ وقرأ هذا الحرف قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو ، والذي يظهر لي على قراءتهما أو بمعنى الواو العاطفة ، وأن قوله : { ءَابَآؤُنَا } ، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم إن ، لأن عطف المرفوع على منصوب إن بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع ، لأن اسمها وإن كان منصوباً فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل ، كما قال ابن مالك في الخلاصة : @ وجائز رفعك معطوفاً على منصوب إن بعد أن تستكملا @@ وإنما قلنا إن أو بمعنى الواو ، لأن إتيانها بمعنى الواو معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن : { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً } [ المرسلات : 5 - 6 ] لأن الذكر الملقى للعذر ، والنذر معاً لا لأحدهما ، لأن المعنى أنها أتت الذكر إعذاراً وإنذاراً ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] أي ولا كفوراً ، وهو كثير في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن معد يكرب : @ قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهرة أو سافع @@ فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع : أي آخذ بناصيته ليلجمه ، وقول نابغة ذبيان : @ قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد فحسبوه فألفوه كما زعمت ستا وستين لم تنقص ولم تزد @@ فقوله : أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين ، لأن مرادها أنهما تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها ، ليكون الجميع مائة حمامة ، فوجدوه ستاً وستين ونصفها ثلاث وثلاثون ، فيكون المجموع تسعاً وتسعين ، والمروي في ذلك عنها أنها قالت : @ ليت الحمام ليه إلى حمامتيه ونصفه قديه تم الحمام مايه @@ وقول توبة بن الحمير : @ قد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها @@ وقوله تعالى : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الواقعة : 47 ] جمع عامة القراء على ثبات همزة الاستفهام في قوله : { أَئِذَا مِتْنَا } وأثبتها أيضاً عامة السبعة غير نافع والكسائي في قوله : { أَءِنَّا } وقرأه نافع والكسائي { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر ، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام منافع بقوله : @ فصل واستفهام إن تكررا فصير الثاني منه خبرا واعكسه في النمل وفوق الروم إلخ … @@ والقراءات في الهمزتين في { أَئِذَا } و { أإنا } معروفة ، فنافع يسهل الهمزة الثانية بين بين . ورواية قالون عنه هي إدخال ألف بين الهمزتين الأولى المحققة والثانية المسهلة . ورواية قالون هذه عن نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة أبي عمرو ، فأبو عمرو وقالون عن نافع يسهلان ويدخلان ، ورواية ورش عن نافع هي تسهيل الأخيرة منها بين بين من غير إدخال ألف . وهذه هي قراءة ابن كثير وورش فابن كثير وورش يسهلان ولا يدخلان . وقرأ هشام عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين ، وبينهما ألف الإدخال . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال ، هذه هي القراءات الصحيحة ، في مثل { أإذا } و { أَءِنَّا } ونحو ذلك في القرآن . تنبيه اعلم وفقني الله وإياك أن ما جرى في الأقطار الافريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع وأعظم الباطل ، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم ، وتعد لحدود الله ، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري ، الذي يظن أن القراءة بالهاء صحيحة ، وإنما قالا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينزل عليه به جبريل ألبتة ، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء ، ولا يجوز بحال من الأحوال ، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه ، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء ألبتة ، هو كما ترى ، وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه . لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله . ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها ، لأن جريان العمل بالباطل باطل ، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين ، وإنما الأسوة في الحق ، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا خلاف فيه . وقوله تعالى : { مِتْنَا } وقرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم متنا بضم الميم وقرأه نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم { مِتْنَا } بكسر الميم ، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } [ مريم : 23 ] .