Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 4-6)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله { إِذَا رُجَّتِ } . بدل من قوله { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } الواقعة : 1 ] ، والرج : التحريك الشديد ، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكاً شديداً جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] وقوله تعالى : { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضاً وكلها حق ، وكلها يشهد له قرآن . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن ، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية . قال أكثر المفسرين { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي فتت تفتيتاً حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن ، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقاً عنده فخاف أن يعجل عنه ، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقاً ملتوتاً ، وهو البسيسة . @ لا تخبزا خبزاً وبسابسا ولا تطيلا بمناخ حبسا @@ وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] ، فقوله : { كَثِيباً مَّهِيلاً } أي رملاً متهايلاً ، ومنه قول امرئ القيس : @ ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل @@ ومشابهة الدقيق المبسوس بالرمل المتهايل واضحة ، فقوله : { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلا } مطابق في المعنى لتفسير { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } بأن بسها هو تفتيتها وطحنها كما ترى . وما دلت عليه هذه الآيات من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق ، والرمل المتهايل يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن ، كقوله تعالى : { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] ، وقوله تعالى : { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } [ المعارج : 8 - 9 ] وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة . ومنه قول زهير بن أبى سلمى في معلقته : @ كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم @@ وقال بعضهم : الجبال منها جدد بيض وحمر ومختلف ألوانه وغرابيب سود ، فإذا بست وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا طيرته الريح في الهوى ، وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباء منبثاً بالفاء على قوله : { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } لأن الهباء هو ما ينزل من الكوة من شعاع الشمس إذا قابلتها : { مُّنبَثّاً } أي متفرقاً ، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن . الوجه الثاني : أن معنى قوله : { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي سيرت بين السماء والأرض ، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب : بسست الإبل أبسها ، بضم الباء وأبستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء ، لغتان بمعنى سقتها ، ومنه حديث : " يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام ، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ } [ الكهف : 47 ] الآية ، وقوله { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } [ الطور : 10 ] . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [ النمل : 88 ] . الوجه الثالث : أن معنى قوله : { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } نزعت من أماكنها وقلعت ، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال الجبال يوم القيامة ، وأطوارها ، بالآيات القرآنية ، وفي سورة طه في الكلام على قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } كقوله تعالى : { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } [ النبأ : 20 ] والهباء إذا انبث ، أي تفرق ، واضمحل وصار لا شيء ، والسراب قد قال الله تعالى فيه : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ] .