Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 16-16)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قد قدمنا مراراً أن كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بلم ، إذا تقدمتها همزة الاستفهام كما هنا فيه وجهان من التفسير معروفان . الأول منهما : هو أن تقلب مضارعته ماضوية ، ونفيه إثباتاً ، فيكون بمعنى الماضي المثبت ، لأن لم حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي ، وهمزة الاستفهام إنكارية فيها معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم فينفيه . ونفي النفي إثبات ، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت . وعليه فالمعنى : { أَلَمْ يَأْذَنِ لِلَّذِينَ } : أي آن للذين آمنوا . والوجه الثاني : أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير ، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول : بلى ، وقوله : يأن : هو مضارع أنى يأنى إذا جاء إناه أي وقته ، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه : @ ولقد أنى لك أن تناهي طائعاً أو تستفيق إذا نهاك المرشد @@ فقوله : أنى لك أن تناهى طائعاً ، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعاً ، أي حضر وقت تناهيك ، ويقال في العربية : آن يئين كباع يبيع ، وأنى يأني كرمى يرمي ، وقد جمع اللغتين قول الشاعر : @ ألماً يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا @@ والمعنى على كلا القولين أنه حان للمؤمنين ، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي جاء الحين والأوان لذلك ، لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه . وقوله تعالى : { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } المصدر المنسبك من أن وصلتها في محل رفع فاعل بأن ، والخشوع أصله في اللغة السكون والطمأنينة والانخفاض ، ومنه قول نابغة ذبيان : @ رماد ككحل العين لأياً أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع @@ فقوله : خاشع أي منخفض مطمئن ، والخشوع في الشرع خشية من الله تداخل القلوب ، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون ، كما هو شأن الخائف . وقوله : { لِذِكْرِ ٱللَّهِ } ، الأظهر منه أن المراد خشوع قلوبهم لأجل ذكر الله ، وهذا المعنى دل عليه قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الانفال : 2 ] أي خافت عند ذكر الله ، فالوجل المذكور في آية الأنفال هذه ، والخشية المذكورة هنا معناهما واحد . وقال بعض العلماء : المراد بذكر الله القرآن ، وعليه فقوله : { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } من عطف الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظين ، كقوله تعالى : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 1 - 3 ] ، كما أوضحناه مراراً . وعلى هذا القول ، فالآية كقوله تعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، فالاقشعرار المذكور ، ولين الجلود والقلوب عند سماع هذا القرآن العظيم المعبرعنه بأحسن الحديث ، يفسر معنى الخشوع لذكر الله ، وما نزل من الحق هنا كما ذكر ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله : { ثُمَّ قًسَتْ قُلُوبُكُم } [ البقرة : 74 ] بعض أسباب قسوة قلوبهم ، فذكرنا منها طول الأمد المذكور هنا في آية الحديد هذه ، وغير ذلك في بعض الآيات الأخر . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كثرة الفاسقين ، من أهل الكتاب جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ آل عمران : 110 ] وقوله تعالى : { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 27 ] إلى غير ذلك من الآيات .