Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 1-1)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد قدمنا مراراً أن التسبيح هو تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وأصله في اللغة الإبعاد عن السوء ، من قولهم سبح . إذا صار بعيداً ، ومنه قيل للفرس : سابح ، لأنه إذا جرى يبعد بسرعة ، ومن ذلك قول عنترة في معلقته : @ إذ لا أزال على رحالة سابح نهر تعاوره الكماة مكلم @@ وقول عباس بن مرداس السلمي : @ لا يغرسون فسيل النخل حولهم ولا تخاور في مشتاهم البقر إلا سوابح كالعقبان مقربة في دارة حولها الأخطار والفكر @@ وهذا الفعل الذي هو سبح قد يتعدى بنفسه بدون اللام كقوله تعالى : { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفتح : 9 ] ، وقوله تعالى { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } [ الإنسان : 26 ] ، وقد يتعدى باللام كقوله هنا : { سَبَّحَ للَّهِ } ، وعلى هذا فسبحه وسبح له لغتان كنصحه ونصح له . وشكره وشكر له ، وذكر بعضهم في الآية وجهاً آخر ، وهو أن المعنى : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْض } ، أي أحدث التسبيح لأجل الله أي ابتغاء وجهه تعالى . ذكره الزمخشري وأبو حيان ، وقيل : { سَبَّحَ للَّهِ } أي صلى له . وقد قدمنا أن التسبيح يطلق على الصلاة ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أهل السماوات والأرض يسبحون لله ، أي ينزهونه عما لا يليق ، بينه الله جل وعلا في آيات أخر من كتابه كقوله تعالى في سورة الحشر { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الحشر : 1 ] وقوله في الصف { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الصف : 1 ] أيضاً وقوله في الجمعة { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [ الجمعة : 2 ] ، وقوله في التغابن { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التغابن : 1 ] . وزاد في سورة بني إسرائيل أن السموات السبع والأرض يسبحن لله مع ما فيهما من الخلق وأن تسبيح السموات ونحوها من الجمادات يعلمه الله ونحن لا نفقهه أي لا نفهمه ، وذلك في قوله تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن تسبيح الجمادات المذكور فيها وفي قوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] ونحو ذلك تسبيح حقيقي يعلمه الله ونحن لا نعلمه . والآية الكريمة فيها الرد الصريح ، على زعم من أهل العلم ، أن تسبيح الجمادات هو دلالة إيجادها على قدرة خالقها ، لأن دلالة الكائنات على عظمة خالقها ، يفهمها كل العقلاء ، كماصرح الله تعالى بذلك في قوله { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } [ البقرة : 164 ] - إلى قوله - { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] وأمثال ذلك من الآيات كثيرة في القرآن . وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ الرعد : 15 ] وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [ الكهف : 77 ] الآية ، وفي سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } [ الأحزاب : 72 ] وفي غير ذلك من المواضع . وقد عبر تعالى هنا في أول الحديد بصيغة الماضي في قوله : { سَبَّحَ لِلَّهِ } ، وكذلك في الحشر ، والصف ، وعبر في الجمعة والتغابن ، وغيرهما بقوله : { يُسَبِّحُ } [ الحشر : 24 ] بصيغة المضارع . قال بعض أهل العلم : إنما عبر بالماضي تارة وبالمضارع أخرى ليبين أن ذلك التسبيح لله ، هو شأن أهل السموات وأهل الأرض ، ودأبهم في الماضي والمستقبل ذكر معناه الزمخشري وأبو حيان . وقوله : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } قد قدمنا معناه مراراً وذكرنا أن العزيز ، هو الغالب الذي لا يغلبه شيء ، وأن العزة هي الغلبة ، ومنه قوله : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ } [ المنافقون : 8 ] وقوله : وعزني في الخطاب : أي غلبني في الخصام ، ومن أمثال العرب من عز بز ، يعنون من غلب استلب ، ومنه قول الخنساء : @ كأن لم يكونوا حمى يختشى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا @@ والحكيم ، هو من يضع الأمور في مواضعها ، ويوقعها في مواقعها . وقوله : { مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . غلب فيه غير العاقل وقد قدمنا في غير هذا الموضع ، أنه تعالى تارة يغلب غير العاقل . في نحو ما في السموات وما في الأرض لكثرته ، وتارة يغلب العاقل لأهميته ، وقد جمع المثال للأمرين قوله تعالى في البقرة : { بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ] . فغلب غير العاقل في قوله : { مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } ، وغلب العاقل في قوله : { قَانِتُونَ } .