Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 64, Ayat: 2-4)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، في مذكرة الدراسة : المعنى أن الله هو الذي خلقكم وقدَّر على قوم منكم الكفر ، وعلى قوم منكم الإيمان ، ثم بعد ذلك يهدي كلاً لما قدره عليه كما قال : { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 3 ] فيسر الكافر إلى العمل بالكفر ، ويسر المؤمن للعمل بالإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " اهـ . ومن المعلوم أن هذا النص من مأزق القدرية والجبرية ، وأن أهل السنة يؤمنون أن كلاً بقدر الله ومشيئته . كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية : وهم أهل السنة وسط بين قول : إن العبد مجبور على عمله لا اختيار له كالورقة في مهب الريح . وبين قول : إن العبد يخلق فعله بنفسه ويفعل ما يريده بمشيئته . وأهل السنة يقولون بقوله تعالى : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ التكوير : 28 - 29 ] . وقد ذكر القرطبي أقوال الطائفتين من أهل العلم ، ولكل طائفة ما استدلت به ، الأولى عن ابن مسعود أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله فرعون في بطن أمه كافراً ، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً " . وبما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " . وقال : قال علماؤنا : تعلق العلم الأزلي بكل معلوم . فيجري ما علم وأراد وحكم . الثانية ما جاء في قوله : وقال جماعة من أهل العلم : إنَّ الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا . قالوا : وتمام الكلام : وهو الذي خلقكم ، ثم وصفهم فقال : { فَمِنكُمْ كَافِرُ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } . وكقوله تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] ، قالوا فالله خلقهم والمشي فعلهم . واختاره الحسين بن الفضل ، قال : لأنه لو خلقهم كافرين ومؤمنين لما وصفهم بفعلهم ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث اهـ . وبالنظر في هاتين المقالتين نجد الآتي : أولاً : التشبيه في المقالة الثانية لا يسلم ، لأن وصف الدواب في حالة المشي ليس وصفاً فعلياً ، وإنما هو من ضمن خلقه تعالى لها ولم يكن منها فعل في ذلك . ثانياً : ما استدلت به كل طائفة من الحديثين لا تعارض بينهما ، لأن الحديث الأول ، " إن أحدكم ليعمل " لبيان المصير والمنتهى ، وفق العلم الأزلي والإرادة القدرية . والحديث الثاني لبيان مبدأ وجود الإنسان في الدنيا وأنه يولد على الفطرة حينما يولد . أما مصيره فبحسب ما قدر الله عليه . وقد نقل القرطبي كلاماً للزجاج وقال عنه : هو أحسن الأقوال ونصه : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر وخلق المؤمن . وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد أن خلق الله إياه ، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه ، لأن وجود خلاف المقدر عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل . قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال ، وهو الذي عليه جمهور الأمة اهـ . ولعل مما يشهد لقول الزجاج قوله تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96 ] . هذا حاصل ما قاله علماء التفسير ، وهذا الموقف كما قدمنا من مأزق القدر والجبر ، وقد زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام ، وبتأمل النص وما يكتنفه من نصوص في السياق مما قبله وبعده : نجد الجواب الصحيح والتوجيه السليم ، وذلك ابتداء من قوله تعالى : { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التغابن : 1 ] . فكون الملك له لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، وكونه على كل شيء قدير يفعل في ملكه ما يريد . ثم قال : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . ثم جاء بعدها قوله تعالى : { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . فخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة آيتان من آيات الدلالة على البعث ، كما قال تعالى في الأولى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [ غافر : 57 ] . وقال في الثانية : { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] . ولذا جاء عقبها قوله : { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } . أي بعد الموت والبعث . فكأنه يقول لهم : هو الذي خلقكم وخلق لكم آيات قدرته على بعثكم ، من ذلك خلق السماوات والأرض ، ومن ذلك خلقكم وتصويركم في أحسن تقويم ، فكأن موجب ذلك الإيمان بقدرته تعالى على بعثكم بعد الموت ، وبالتالي إيمانكم بما بعد البعث ، من حساب وجزاء وجنة ونار ، ولكن فمنكم كافر ومنكم مؤمن . وقد جاء بعد ذكر الأمم قبلهم : وبيان أحوالهم جاء تفنيد زعم الكفار بالبعث والإقسام على وقوعه في قوله تعالى : { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] . لأن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس . ويشهد لهذا التوجيه في قوله تعالى في سورة الإنسان : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 1 - 3 ] . فقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [ الإنسان : 2 ] كقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [ التغابن : 2 ] . ثم قال : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ الإنسان : 2 ] وهما حاستا الإدراك والتأمل ، فقال : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [ الإنسان : 3 ] مع استعداده للقبول والرفض . وقوله : { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] مثل قوله هنا : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] أي بعد التأمل والنظر وهداية السبيل بالوحي ، ولذا جاء في هذا السياق في هذه السورة { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } [ التغابن : 8 ] . وبكل ما تقدم في الجملة يظهر لنا أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم جعل له سمعاً وبصراً ونصب الأدلة على وجوده وقدرته على بعث الموتى ، ومن ثم مجازاتهم على أعمالهم وأرسل إليه رسله وهداه النجدين ، ثم هو بعد ذلك إما شاكراً وإما كفوراً ولو احتج إنسان في الدنيا بالقدر لقيل له : هل عندك علم بما سبق في علم الله عليك ، أم أن الله أمرك ونهاك وبين لك الطريق . وعلى كل ، فإن قضية القدر من أخطر القضايا وأغمضها ، كما قال علي رضي الله عنه : القدر سرّ الله في خلقه . وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا ذُكر القضاء فأمسِكوا " ، ولكن على المسلم النظر فيما أنزل الله من وحي وبعث من رسل . وأهم ما في الأمر هو جري الأمور على مشيئة الله وقد جاء موقف عملي في قصة بدر ، يوضح حقيقة القدر ويظهر غاية العبر في قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [ الأنفال : 43 ] . فهو تعالى الذي سلم من موجبات التنازع والفشل بمقتضى علمه بذات الصدور . ثم قال : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ الأنفال : 44 ] ، فقد أجرى الأسباب على مقتضى إرادته فقلل كلاً من الفريقين في أعين الآخر ليقضي الله أمراً كان في سابق علمه مفعولاً ، ثم بين المنتهى ، { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } ، والعلم عند الله تعالى .