Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 30-31)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاًَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين : الأول : التحريق كما في قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ البروج : 10 ] . والثاني : الابتلاء . وقد تقدم للشيخ مراراً في كتابه ودروسه ، أن أصل الفتنة الاختبار . تقول : اختبرت الذهب إذا أدخلته النار لتعرف زيفه من خالصه . ولكن السياق يدل على الثاني ، وهو الاختبار والابتلاء لقوله تعالى : { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } . وقوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } أي عددهم ، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار ، لما كان مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل ولما كان يصلح أن يجعل مثلاً ، ولما كان الحديث عن عدد جنود : ربك بحال ، وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة . الأولى : جعل المثل المذكور ، أي جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان ، فقد تساءل المستبعدون واستسلم وأذعن المؤمنون ، كما ذكر تعالى في صريح قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] . ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنا { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] ، فهذه الآية من سورة البقرة مبينة تماماً لآية المدثر . المسألة الثانية : قوله تعالى : { لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة ، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم . وقد ذكر القرطبي حديثاً في ذلك واستغربه ، ولكن النص يشهد لذلك . المسألة الثالثة : أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه ، ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله ، ازداد بهذا التصديق إيماناً وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق . المسألة الرابعة : بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد ، ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى ، وهو أعلم بما رواه . وفي هذه المسألة مثار نقاش حكمة التشريع ، وهذا أمر واسع ، ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات وتقدم المخترعات وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام ، فإنا نود أن نقول : إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه ، علمنا الحكمة أو لم نعلم . لأن علمنا قاصر وفهمنا محدود والعليم الحكيم الرَّؤوف الرَّحيم سبحانه لا يكلِّف عباده إلا بما فيه الحكمة . ومجمل القول إن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة : القسم الأول : حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة ، جاء إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ، وهذه حكمة جليلة والزكاة جاء عنها أنها تطهرهم وتزكيهم . وفي الصوم جاء فيه : لعلكم تتقون . وفي الحج جاء فيه : ليشهدوا منافع لهم . فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية . وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست ، حفظ الدين ، والعقل ، والدم ، والعرض ، والنسب ، والمال لقيام الحياة ووفرة الأمن ، وصيانة المجتمع ، وجعلت فيها حدود لحفظها وغير ذلك . وقسم لم تظهر حكمته بهذا الظهور ، ولكنه لم يخل من حكمة ، كالطواف ، والسعي ، والركوع ، والسجود ، والوضوء ، والتيمم ، والغسل ، ونحو ذلك . وقسم ابتلاء وامتحان أولاً ، ولحكمة ثانياً ، كتحويل القبلة ، كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } [ البقرة : 143 ] . وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } [ البقرة : 150 ] . والمسلم في كلتا الحالتين ظهرت له الحكمة أو لم تظهر وجب عليه الامتثال والانقياد ، كا قال عمر عند استلامه للحجر : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك . فقبله امتثالاً واقتداء بصرف النظر عن ما جاء من أن علياً رضي الله عنه قال له : بلى يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع ، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبَّله ، لأن عمر أقبل عليه ليقبله قبل أن يخبره علي رضي الله عنه . وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام ، إذ خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار وكلها أعمال لم يعلم لها موسى عليه السلام حكمة ، فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها . وهكذا نحن اليوم وفي كل يوم ، وقد بين تعالى هذا الموقف بقوله : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] . وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز ويدفعهم إلى التسليم في قوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } . فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها . والعلم عند الله تعالى .