Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 81, Ayat: 15-22)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ظاهر قوله تعالى : { فَلآَ أُقْسِمُ } نفى القسم ، ولكنه قسم قطعاً ، بدليل التصريح بجواب القسم في قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } . وبهذا يترجح ما تقدم في أول سورة القيامة { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] . ومثل الآتي { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [ البلد : 1 ] . تنبيه يجمع المفسرون أن للَّه تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، لأنها دالة على قدرته ، وليس للمخلوق أن يحلف إلا بالله تعالى . ولكن هل في المغايرة بما يقسم الله تعالى به معنى مقصود ، أم لمجرد الذكر ، وتعدد المقسم به ؟ وبعد التأمل ، ظهر والله تعالى أعلم ، أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره ، إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع ، يكون بين المقسم به ، والمقسم عليه مناسبة وارتباط ، وقد يظهر ذلك جلياً ، وقد يكون خفياً . وهذا فعلاً ما تقتضيه الحكمة والإعجاز في القرآن ، وإن كنت لم أقف على بحث فيه . ولكنَّ مما يشير إلى هذا الموضوع ، ما جاء بالإقسام بمكة مرتين ، وفي حالتين متغايرتين . الأولى : قوله تعالى : { لآَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 1 - 4 ] . والموضع الثاني : قوله تعالى : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 1 - 4 ] . فالمقسم به في الموضعين : مكة المكرمة ، والمقسم عليه في الموضعين خلق الإنسان ، ولكن في الموضع الأول كان المقسم عليه مكابدة الإنسان من أول ولادته إلى نشأته ، إلى كده في حياته ، إلى نهايته ومماته . من ذلك مكابدته صلى الله عليه وسلم منذ ولادته إلى حيث مات أبوه قبله ، ولحقت به أمه ، وهو في طفولته ، وبعد الوحي كابد مع قومه ولقى منهم عنتاً شديداً ، حتى تآمروا على قتله ، فلكأنه يقول له : اصبر على ذلك ، فإن المكابدة لا بد منها ، هي ملازمة للإنسان كملازمتك لهذا البلد منذ ولادتك . وفي ذكر { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } إشعار ببدء المكابدة ، وبأشدها من حالة الولادة وطبيعة الطفولة ، ولذا ذكر هنا هذا البلد بدون أي وصف . أما في الموضع الثاني : فالمقسم عليه ، وإن كان هو خلق الإنسان ، إلا أنه في أحسن تقويم ، وهي أعظم نعمة عليه جاء بالمقسم به عرضاً للنعم ، وتعددها من التين والزيتون ، سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة أو أماكنها ، وهو بيت المقدس مع طور سينين . فجاء بمكة أيضاً ولكن بوصف مناسب فقال : { وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [ التين : 3 ] فكأنه يقول : إن من أنعم على تلك البقاع بالخير والبركة والقداسة ، أنعم على الإنسان بنعمة حسن خلقته وحسن تقويمه وفضله على سائر مخلوقاته . والله تعالى أعلم . وهنا يقسم بحالات الكواكب على أصح الأقوال ، في ظهورها واختفائها وجريانها ، وبالليل إذا عسعس : أقبل وأدبر ، أو أضاء وأظلم ، والصبح إذا تنفس : أي أظهرت وأشرق ، وهما أثران من آثار الشمس في غروبها وشروقها . والمقسم عليه : هو أن القرآن قول رسول كريم كأنه يقول : إن القرآن المقسم عليه حاله في الثبوت والظهور ، وحال الناس معه . كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم في ظهورها تارة ، واختفائها أخرى . وكحال الليل والصبح فهو عند أناس موضع ثقة وهداية كالصبح في إسفاره ، قلوبهم متفتحة إليه وعقولهم مهتدية به ، فهو لهم روح ونور ، وعند أناس مظلمة أمامه قلوبهم عمى عنه بصائرهم ، وفي آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ، وأناس تارة وتارة كالنجوم أحياناً ، وأحياناً ، تارة ينقدح نوره في قلوبهم ، فتظهر معالمه فيسيرون معه ، وتارة يغيب عنهم نوره فتخنس عنه عقولهم وتكنس دونه قلوبهم ، كما قال تعالى عنهم : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [ البقرة : 20 ] . وليس بعيداً أن يقال : إنه من وجه آخر ، تعتبر النجوم كالكتب السابقة ، مضى عليها الظهور في حينها والخفاء بعدها . والليل إذا عسعس : هو ظلام الجاهلية . والصبح إذا تنفس : يقابله ظهور الإسلام ، وأنه سينتشر انتشار ضوء النهار ، ولا تقوى قوة قط على حجبه ، وسيعم الآفاق كلها ، مهما وقفوا دونه { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ] . وقد يكون في هذا الإيراد غرابة على بعض الناس ، ولا سيما وأني لم أقف على بحث مستقل فيه ، ولا توجيه يشير إليه ، ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة ، وجدير بأن يفرد برسالة . ومما أطرد فيه هذا التوجيه سورة الضحى ، يقول الله تعالى : { وَٱلضُّحَىٰ وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 1 - 3 ] ، فإن المقسم عليه عدم تركه صلى الله عليه وسلم ولا التخلي عنه ، فجاء بالمقسم به قسمي الزمن ليلاً ونهاراً ، كأنه يقول له : ما قلاك ربك ولا تخلى عنك ، لا في ضحى النهار حيث تنطلق لسعيك ، ولا في ظلمة الليل حين تأوي إلى بيتك . ومعلوم ما كان من عمه أبي طالب حينما كان يجعله ينام مع اولاده ليلاً ، حتى إذا أخذ الجميع مضاجعهم يأتي خفية فيقيمه من مكانه . ويضع أحد أولاده محله ، حتى لو كان أحد نواه بسوء ، وقد رآه في مكانه الأول يصادف ولده ، ويسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] ، أي من كل ما طلعت عليه الشمس وسجاه الليل . ومنه أيضاً : وهو أشد ظهوراً في سورة العصر قال تعالى : { وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العصر : 1 - 3 ] ، إلى آخر السورة . فإن المقسم عليه هو حالة الإنسان ، الغالية عليه من خسر ، إلاَّ من استثنى الله تعالى ، فكان المقسم به ، والعصر المعاصر للإنسان : طيلة حياته وهو محل عمله ، الذي به يخسر ويربح . وهو معاصر له وأصدق شاهد عليه . وكنت قد سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول : إن العمر وزمن الحياة حجة على الإنسان كالرسالة والنذارة سواء ، وذكر قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ } [ فاطر : 37 ] ، فجعل في الآية التعمير ، وهو إشغال العمر موجباً للتذكر والتأمل ، ومهلة للعمل ، كما تخبر إنساناً بأمر ثم تمهله إلى أن يفعل ما مر به ، فهو أمكن في الحجة عليه . فكان القسم في العصر على الربح والخسران ، أنسب ما يكون بينهما ، إذ جعلت حياة الإنسان كسوق قائمة والسلعة فيه العمل والعامل هو الإنسان . كما قال تعالى : { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [ الصف : 10 - 11 ] . وفي الحديث الصحيح عند مسلم : " سبحان الله تملأ الميزان ، وفيه كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " ، فإن كان يشغل عمره في الخير فقد ربح ، وأعتق نفسه وإلاَّ فقد خسر وأهلكها " . ويشير لذلك أيضاً قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] . فصح أن الدنيا سوق ، والسلعة فيها عمل الإنسان ، والمعاملة فيه مع الله تعالى ، فظهر الربط والمناسبة مع المقسم به ، والمقسم عليه . قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } . أجمعوا على أن المراد بالقول هو القرآن ، وأما المراد بالرسول الكريم جبريل عليه السلام بدليل قوله تعالى : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [ التكوير : 20 - 22 ] . فصاحبكم هنا : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي صحبهم منذ ولادته وذو القوة عند ذي العرش : هو جبريل عليه السلام ، وفي إسناد القول إليه ما قد يثير شبهة أن القول منه ، مع أنه كلام الله تعالى . وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، بإيراد النصوص الصريحة في أن القرآن كلام الله تعالى ، وقال : وإن في نفس هذه الآية ما يرد هذه الشبهة ، ويثبت تلك الحقيقة ، وهي قوله تعالى : { لَقَوْلُ رَسُولٍ } لأن الرسول لا يأتي بقول من عنده ، وإنما القول الذي جاء به هو ما أرسل به من غيره ، إلى ما أرسل إليه به . تنيبه في وصف جبريل عليه السلام بتلك الأوصاف . نص في تمكينه من حفظ ما أرسل به ، وصيانته عن التغيير والتبديل ، لأنه مكين ، فلا يصل إليه ما يخل برسالته ، ولأنَّه مطاع ثم . والمطاع لا يؤثر عليه غيره ، والأمين لا يخون ولا يبدل ، فكان القرآن الذي جاء به مصوناً من أن يتسلط أحد عليه فيغيره ، ومن أن يغيره الذي جاء به ، وهذا كله بمثابة الترجمة لسند تلقي القرآن الكريم . وقوله : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [ التكوير : 22 ] بيان لتتمة السند ، حيث قال : { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } [ التكوير : 23 - 24 ] ، فنفى عنه صلى الله عليه وسلم نقص التلقي بنفي آفة الجنون ، فهو في كمال العقل وقوة الإدراك ، ومن قبل أثبت له كمال الخلق { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] . وأثبت له اللقيا ، فلم يلتبس عليه جبريل بغيره ، وهي أعلى درجات السند ، فاجتمع له صلى الله عليه وسلم الكمال الخلقي . والكمال الخلقي - بضم الخاء وكسرها - أي الكمال حساً ومعنى ، ثم نفى عنه التهمة بأن يضمن بشيء مما أرسل به مع نفاسته وعلو منزلته وجليل علومه ، وأنه كلام رب العالمين . وفي الختام إفهامهم : بأنه ليس بقول شيطان رجيم ، حيث تقدم { إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 212 ] . وأن من يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً ، فلم يبق لهم موجب للانصراف عنه ، وألزموا بالأخذ به حيث أصبح من الثابت أنه كلام الله ، جاء به رسول كريم ، وبلغة لصاحبكم صاحب الخلق العظيم ، وليس بقول شيطان رجيم . فلزمهم الأخذ به ، وإلاَّ فأين تذهبون . أين تسيرون عنه ، بعد أن ثبت لكم سنده ومصدره ؟ ونظير هذا السند في تمجيد القرآن وإثبات إتيانه من الله ، قوله تعالى في أول سورة النجم : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } [ النجم : 2 - 7 ] .