Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 83, Ayat: 4-6)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تقريع وتوبيخ لهؤلاء الناس ، وفيه مسألتان : الأولى : أن الباعث على هذا العمل هو عدم اليقين بالبعث أو اليقين موجود ، لكنهم يعملون على غير الموقنين أي غير مبالين ، كما قال الشاعر في مثل ذلك ، وهو ما يسمى في البلاغة بلازم الفائدة : @ جاء شَقيق عارضاً رمحه إن بَني عمك فيهم رماح @@ فالمتكلم يعلم أن شقيقاً عالم بوجود الرماح في بني عمه ، وأنهم مستعدون للحرب معه ، ولكنه رأى منه عدم المبالاة وعدم الاستعداد ، بأن وضع رمحه أمامه معترضاً فهو بمنزلة من لا يؤمن بوجود الرماح في بني عمه ، وهو لم يرد بكلامه معه أن يخبره بأمر يجهله ، ولكنه أراد أن ينبهه لما يجب عليه فعله من التأهب والاستعداد ، وهكذا هنا ، وهذا عام في كل مسوف ومتساهل كما جاء : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إلخ . إي وهو مؤمن بالإيمان ولوازمه من الجزاء والحساب . المسألة الثانية من قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المطففين : 6 ] يفهم أن مطفف الكيل والوزن وهو يعلمون هذا حقيقة غالباً ولا يطلع عليه الطرف الآخر ، فيكون الله تعالى هو المطلع على فعله ، فهو الذي سيحاسبه ويناقشه ، لأنه خان الله الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه ، ولذا قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ولم يقل : يوم يقتص لكل إنسان من غريمه ، ويستوفي كل ذي حق حقه . تحذير شديد قال القرطبي عند هذه الآية : وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له : قد سمعت ما قال الله في المطففين فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن . اهـ . إِنها مقالة ينبغي أن تقال لكل آكل أموال الناس بغير حق أياً كان هو ، وبأي وجه يكون ذلك . تنبيه من الملعوم أن كل متبايعين يطلب كل منهما الأحظ لنفسه ، فالمطفف لا بد أن يخفي طريقه على غريمه . وذكر علماء الحسبة طرقاً عديدة مما ينبغي لولي الأمر خاصة ، وللمتعامل مع غيره عامة ، أن يتنبه لها . من ذلك قالوا : أولاً من ناحية المكيال قد يكون جرم المكيال ليناً فيضغطه بين يديه ، فتتقارب جوانبه فينقص ما يحتوي عليه ، ولذا يجب أن يكون إناء الكيل صلباً ، والغالب جعله من الخشب أو ما يعادله . ومنها : أنه قد يكون خشباً منقوراً من جوفه ، ولكن لا يبلغ بالتجويف إلى نهاية المقدار المطلوب ، فيرى من خارجه كبيراً ، ولكنه من الداخل صغير لقرب قعره . ومنها : قد يكون منقوراً إلى نهاية الحد المطلوب ، ولكنه يدخل فيه شيئاً يشغل فراغه من أسفله ، ويثبته في قعره . فينقص ما يكال بقدر ما يشغل الفراغ المذكور ، فقد يضع ورقاً أو خرقاً أو جبساً أو نحو ذلك . ثانياً : من ناحية الميزان قد يبرد السنج ، أي معايير الوزن حتى ينقص وزنها ، وقد يجوف منها شيئاً ويملأ التجويف بمادة أخف منها . ولذا يجب أن يتفقد أجزاء المعايير ، وقد يتخذ معايراً من الحجر فتتناقص بكثرة الاستعمال بسبب ما يتحتت منها على طول الأيام . ومنها : أن يضع تحت الكفة التي يزن فيها السلعة شيئاً مثقلاً لاصقاً فيها ، لينتقص من الموزون بقدر هذا الشيء . ولكيلا يظهر هذا ، فتراه دائماً يضع المعيار في الكفة الثانية لتكون راجحة بها . وهناك أنواع كثيرة ، كأن يطرح السلعة في الكفة بقوة ، فترجح بسبب قوة الدفع ، فيأخذ السلعة حالاً قبل أن ترجع إلى أعلا ، موهماً الناظر أنها راجحة بالميزان . أما آلة الذرع فقد يكون المقياس كاملاً واقياً ، ولكنه بعد أن يقيس المتر الأول بالآلة إلى الخف ، ويسحب بالمذروع إلى الأمام بمقدار الكف مثلاً ، فيكون النقص من المذروع بقدر ما سحب من القماس . وكلها أمور قد تخفى على كثير من الناس ، وقد وقع لي مع بائع أن لاحظت عليه في ميزان مما يرفعه بيده حتى أعاد الوزن خمس مرات في كل مرة ، يأتي بطريقة تغاير الأخرى ، حتى قضى ما عنده فالتفت إليّ وقال لي : لا أبيع بهذا السعر ، فقلت له : خذ ما تريد وزن كما أريد ، فطلب ضعف الثمن فأعطيته فأعطاني الميزان لأزن بنفسي . وهنا ينبغي أن ننبه على حالات الباعة حينما يكون السعر مرتفعاً وتجد بائعاً يبيع برخص ، فقد يكون لعلة في الوزن أو في السلعة أو مضرة الآخر . تنبيه آخر بهذه الأسباب وحقائقها وشدة خطرها كان عمر رضي الله عنه يتجوّل في السوق بنفسه ، ويتفقد المكيال والميزان . يخرج من السوق من يجد في مكياله أو ميزانه نقصاناً ، ويقول : لا تمنع عنا المطر . وهكذا يجب على ولاة الأمور تفقد ذلك باستمرار ، ولا سيما في البلاد التي يقل فيها الوازع الديني وتشتد فيها الأسعار ، بما يلجىء الباعة إلى التحايل أو العناد . وقد منع عمر بائع زبيب أرخص السعر لعلمه أن تاجراً قدم ومعه زبيب بكثرة ، فقيل لعمر : لماذا منعت البيع برخص ؟ فقال : لأنه يفسد السوق ، فيخسر القادم فيمتنع من الجلب إلى المدينة ، وهذا قد ربح من قبل . تنبيه آخر مما ينبغي أن يعلم أن نوع المكيال ومقداره ونوع الميزان ومقداره مرجعه إلى السلطان ، كما قال علماء الحسبة : أن على الأمة أن تطيع السلطان في أربع : في نوع المكيال والميزان ، ونوع العملة التي يطرحها للتعامل بها ، وإعلان الحرب او قبول الصلح . فإذا اتخذ الصاع أو المد أو الكيلة أو الويبة أو القدح ، أو أي نوع كبيراً كان أو صغيراً ، فيجب التقييد به في الأسواق . وكذلك الوزن اتخذ الدرهم والاوقية والرطل أو الأقة أو اتخذ الجرام والكيلوا فكل ذلك له . أما إذا كان الأمر بين اثنين في قسمة مثلاً كقسمة صبرة من حب فتراضوا على أن يقتسموها بإناء كبير للسرعة وكان مضبوطاً ، لا تختلف به المرات ، بأن يكون صلباً ويمكن الكيل به . أو كذلك الوزن اتفقوا على قطعة حديد معينة ، لكل واحد وزنها عدة مرات فلا بأس بذلك ، لأن الغرض قسمة المجموع لا مثامنة على الأجزاء . أما المكاييل الإسلامية الأساسية والموازين ، فقد تقدم بيانها من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في زكاة ما يخرج من الأرض ، وزكاة النقدين ، وقدمنا بيان مقابلها بالوزن الحديث في زكاة الفطر ، عند قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24 - 25 ] وبالله تعالى التوفيق . غريبة في ليلة الفراغ من كتابة هذا المبحث رأيت الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يرى النائم ، وبعد أن ذهب عني رأيت من يقول لي : إن لتطفيف الكيل والوزن دخلا في الربا ، فألحقته في أول البحث ، بعد أن تأملته فوجدته صحيحاً بسبب المفاضلة .