Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 85, Ayat: 4-5)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال أبو حيان ، وجواب القسم في قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [ البروج : 1 ] قيل : محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه ، وقيل : مذكور ، فقيل : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ونحوه ، وقيل : قتل ، وهذا نختاره ، وحذفت اللام أي لقتل وحسن حذفها كما حسن في قوله : { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] ، ثم قال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] أي لقد أفلح ، ويكون الجواب دليلاً على لعنة الله على من فعل ذلك ، وتنبيهاً لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم . وإذا كان قتل هي الجواب فهي جملة خبرية ، وإذا كان الجواب غيرها في جملة إنشائية ، دعاء عليهم . وقرئ : قتل بالتشديد ، قرأها الحسن وابن مقسم ، وقرأها الجمهور بالتخفيف 1هـ . والأخدود : جمع خد ، وهو الشق في الأرض طويلاً . وقوله : { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } الوقود بالضم وبالفتح ، والقراءة بالفتح كالسحور ، والوضوء . فبالفتح ما توقد كصبور والماء المتوضأ به والطعام المتسحر به ، وبالضم المصدر ، والفعل والوقود بالضم ما توقد به . ذكر صاحب القاموس ، والنار ذات الوقود : بدل من الأخدود . وقيل في معناها : عدة أقوال ، حتى قال أبو حيان : كسلت عن نقلها . ونقل الفخر الرازي ثلاثة منها . والمشهور عند ابن كثير ما رواه أحمد ومسلم : أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبر سني وحضر أجلي ، فادفع لي غلاماً لأعلِّمه السحر ، فدفع إليه غلاماً كان يعلمه السحر ، وكان بين الساحر والملك راهب ، فأتى الغلام الراهب فسمع من كلامه فأعجبه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه ، وقال ما حبسك ؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا أراد الساحر ضربك فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك ، فقل : حبسني الساحر : فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس ، فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فقال : اليوم أعلم أمر الراهب أحبّ إلى الله أمر الساحر ؟ قال : فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحبُّ إليَّك وأرضى من أمر الساحر ، فاقتل هذه الدابة ، حتى يجوز الناس ورماها فقتلها ، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك ، فقال : أي بني أنت أفضل مني ، إنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل عليّ ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم ، وكان للملك جليس أعمى فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : اشفني . فقال : ما أنا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله عزَّ وجلَّ ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن فدعا الله فشفاه ، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس ، فقال له الملك : يا فلان من ردَّ عليك بصرك ؟ فقال : ربي ، فقال : أنا . قال : لا ، ربي وربك الله ، قال : ولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله ، فلم يزل يعذبه حتى دلّه على الغلام ، فبعث إليه فقال : أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص ، وهذه الأدواء ، فقال : أما أنا لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل ، قال : أنا . قالا : لا ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله فأخذه أيضاً بالعذاب حتى دل على الراهب فأوتي بالراهب فقيل : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوضع المنشار في مفرقه أيضاً ، وقال للغلام : ارجع عن دينك فأبى ، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلاَّ فدهدهوه ، فذهبوا به فلما علموا به الجبل ، فال : اللَّهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك ، فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى ، فبعث به نفراً إلى البحر في فرفور ، فقال : إذا لججتم به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه ، فقال الغلام : اللَّهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا هم ، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : ما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي ثم قل : بسم الله رب الغلام ، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني ففعل ، ووضع السهم في قوسه ورماه به في صدغه ، فوضع الغلام يده في موضع السهم ومات ، فقال الناس آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ، فقد والله وقع بك : قد آمن الناس كلهم فأمر بأفواه السكك ، فخدت فيها الأخاديد وأُضرِمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلاَّ فأقحموه فيها قال : فكانوا يتعادون ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي ، اصبري يا أماه فإنك على الحق " وقد قيل : إن الغلام دفن فوجد زمن عمر بن الخطاب ويده على صدغه ، كلما رُفعت خرج الدم من جرحه ، وإذا تُركت أعيدت على الجرح . وقد سقنا هذه القصة ، وهي من أمثل ما جاء في هذا المعنى لها فيها من العبر ، والتي يمكن أن يستفاد منها بعض الأحكام ، حيث إن ابن كثير ، عزاها للإمام أحمد بن حنبل ومسلم ، أي لصحة سندها مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الآتي : الأول : أن السحر بالتعلم كما جاء قصة الملكين ببابل ، هاروت وماروت يعلمان الناس السحر . الثاني : إمكان اجتماع الخير مع الشر : إذا كان الشخص جاهلاً بحال الشر ، كاجتماع الإيمان مع الراهب مع تعلم السحر من الساحر . ثالثاً : إجراء خوارق العادات على أيدي دعاة الخير ، لبيان الحق والتثبت في الأمر ، كما قال الغلام : اليوم أعلم أمر الراهب أحبَّ إلى الله أم أمر الساحر ؟ الرابع : أنه كان أميل بقلبه إلى أمر الراهب ، إذ قال : اللَّهم إن كان أمر الراهب أحب إليك ، فسأل عن أمر الراهب ولم يسل عن أمر الساحر ؟ الخامس : اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه ، كاعتراف الراهب للغلام . السادس : ابتلاء الدعاة إلى الله ووجوب الصبر على ذلك ، وتفاوت درجات الناس في ذلك . السابع : إسناد الفعل كله لله ، إنما يشفي الله . الثامن : رفض الداعي إلى الله الأجر على عمله وهدايته { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الفرقان : 57 ] . التاسع : بيان ركن أصيل في قضية التوسل ، وهو أن مبناه على الإيمان بالله ثم الدعاء وسؤال الله تعالى . العاشر : غباوة الملك المشرك المغلق قلبه بظلام الشرك ، حيث ظن في نفسه أنه الذي شفى جليسه . وهو لم يفعل له شيئاً ، وكيف يكون وهو لا يعلم ؟ الحادي عشر : اللجوء إلى العنف والبطش عند العجز عن الإقناع والإفهام ، أسلوب الجهلة والجبابرة . الثاني عشر : منتهى القسوة والغلظة في نشر الإنسان ، بدون هوادة . الثالث عشر : منتهى الصبر وعدم الرجوع عن الدين ، وهكذا كان في الأمم الأولى ، وبيان فضل الله على هذه الأمة ، إذ جاز لها التلفظ بما يخالف عقيدتها وقلبها مطمئن بالإيمان . وقد جاء عن الفخر الرازي قوله : الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى به أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك ، وقال . وروى الحسن " أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما : تشهد أني رسول رسول الله ؟ فقال : نعم ، فتركه ، وقال للآخر مثله ، فقال : لا بل أنت كذاب . فقتله ، فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم : " أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، وأما الذي قتل فأخذ بالأفضل فهنيئاً له " " . وتقدم بحث هذه المسألة للشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه . الرابع عشر : إجابة دعوة الغلام ونصرة الله لعباده المؤمنين : اللَّهم اكفنيهم بما شئت . الخامس عشر : التضحية بالنفس في سبيل نشر الدعوة ، حيث دل الغلام الملك على الطريقة التي يتمكن الغلام من إقناع الناس بالإيمان بالله ، ولو كان الوصول لذلك على حياته هو . السادس عشر : إبقاء جسمه حتى زمن عمر - رضي الله عنه - إكراماً لأولياء الله ، والدعاة من أن تأكل الأرض أجسامهم . السابع عشر : إثبات دلالة القدرة على البعث . الثامن عشر : حياة الشهداء لوجود الدم وعودة اليد مكانها ، بحركة مقصودة . التاسع عشر : معرفة تلك القصة عند أهل مكة حيث حدثوا بها تخويفاً من عواقب أفعالهم بضعفة المؤمنين ، كما هو موضح في تمام القصة . العشرون : نطق الصبي الرضيع بالحق .