Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 87, Ayat: 16-19)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرئ : تؤثرون بالتاء وبالياء راجعاً إلى { ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } [ الأعلى : 11 - 12 ] ، وعلى أنها بالتاء للخطاب أعم ، وحيث إن هذا الأمر عام في الأمم الماضية ، ويذكر في الصحف الأولى كلها عامة ، وفي صحف إبراهيم وموسى ، مما يدل على خطورته ، وأنه أمر غالب على الناس . وقد جاءت آيات دالة على أسباب ذلك منها الجهل وعدم العلم بالحقائق ، كما في قوله تعالى : { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] ، أي الحياة الدائمة . وقد روى القرطبي عن مالك بن دينار قوله : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى ، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى ؟ ومن أسباب ذلك أن الدنيا زينت للناس وعجلت لهم كما في قوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } [ آل عمران : 14 ] . ثم قال : { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [ آل عمران : 14 ] . وبين تعالى هذا المآب الحسن وهو في وصفه يقابل { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } ، فقال : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [ آل عمران : 15 ] . تأمل هذا البديل ، ففي الدنيا ذهب وخيل ونساء والأنعام والحرث ، وقد قابل ذلك كله بالجنة فعمت وشملت ، ولكن نص على أزواج مطهرة ليعرف الفرق بين نساء الدنيا ونساء الآخرة ، كما تقدم في { أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [ محمد : 15 ] ، { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } [ الواقعة : 19 ] ، وغير ذلك مما ينص على الخيرية في الآخرة . ولا شك أن من آثر الآخرة غالب على من آثر الدنيا ، وظاهر عليه ، كما صرَّح تعالى بذلك في قوله : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ البقرة : 212 ] . فمن هذا يظهر أن أسباب إيثار الناس للحياة الدنيا هو تزيينها وزخرفتها في أعينهم بالمال والبنين والخيل والأنعام { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] . وقد سيق هذا ، لا على سبيل الإخبار بالواقع فحسب ، بل إن من ورائه ما يسمى لازم الفائدة ، وهو ذم من كان هذا حاله ، فوجب البحث عن العلاج لهذه الحالة . وإذا ذهبنا نتطلب العلاج فإننا في الواقع نواجه أخطر موضوع على الإنسان ، لأنه يشمل حياته الدنيا ومآله في الآخرة ، ويتحكم في سعادته وفوزه أو شقاوته وحرمانه ، وإن قرب مأخذ لنا لهو هذا الموطن بالذات من هذه السورة ، وهو بضميمة ما قبلها إليها من قوله تعالى : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } [ الأعلى : 10 - 12 ] ، وبعدها { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [ الأعلى : 14 - 15 ] ، فقد قسمت هذه الآيات الأمة كلها أمة الدعوة إلى قسمين . أما التذكير والإنذار ، إذ قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } [ الأعلى : 9 ] فهذا موقف النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء تقسيم الأمة إلى القسمين الآيتين : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } [ الأعلى : 10 ] فينتفع بالذكرى وتنفعه ، { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى } [ الأعلى : 11 ] فلا تنفعه ولا ينتفع بها ، ثم جاء الحكم بالفلاح : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } [ الأعلى : 14 ] أي من يخشى { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [ الأعلى : 15 ] ولم يغفل عن ذكر الله تعالى ، وهذا الموقف بنفسه هو المفصل في سورة الحديد ، وفي معرض التوجيه لنا والتوبيخ للأمم الماضية أيضاً { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] . فقسوة القلب وطول الأمد والتسويف : هي العوامل الأساسية للغفلة وإيثار الدنيا . والخشية والذكر : هي العوامل الأساسية لإيثار الآخرة ثم عرض الدنيا في حقيقتها بقوله : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ } [ الحديد : 20 ] - إلى قوله - { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [ الحديد : 21 ] . فوصف الداء والدواء معاً في هذا السياق . فالداء : هو الغرور ، والدواء : هو المسابقة إلى مغفرة من الله ورضوانه . وقوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } ، قيل : اسم الإشارة راجع إلى السورة ، كلها لتضمنها معنى التوحيد والمعاد والذكر والعبادات ، والصحف الأولى : هي صحف إبراهيم وموسى ، على أنها بدل من الأولى . وجاء عند القرطبي : أن صحف إبراهيم كانت أمثالاً ، وصحف موسى كانت مواعظ ، وذكر نماذج لها . وعند الفخر الرازي من رواية " أبي ذر رضي الله عنه ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم " كم أنزل الله من كتاب ؟ فقال : مائة وأربعة كتب على آدم عشر صحف ، وعلى شئث خمسين صحيفة : وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان " " . وفي هذا نص على أن في القرآن مما في الصحف الأولى ، وقد جاء ما يدل أن معان أخرى كذلك في صحف إبراهيم وموسى كما في سورة النجم في قوله : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [ النجم : 36 - 40 ] . وهذا يؤيد أنها أكثرها أمثالاً ومواعظ ، كما يؤكد ترابط الكتب السماوية .