Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-2)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } . تقدم الكلام على هذه اللام ، وهل هي لنفي القسم أو لتأكيده ، وذلك عند قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] ، إلاَّ أنها هنا ليست للنفي ، لأن الله تعالى قد أقسم بهذا البلد في موضع آخر ، وهو في قوله تعالى : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [ التين : 1 - 3 ] ، لأن هذا البلد مراد به مكة إجماعاً لقوله تعالى بعده : { وَأَنْتَ } - أي الرسول صلى الله عليه وسلم - { حِلٌّ } ، أي حال أو حلال { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [ البلد : 2 ] ، أي مكة ، على ما سيأتي إن شاء الله . وقد ذكر القرطبي وغيره نظائرها من القرآن ، والشعر العربي مما لا يدل على نفي ، كقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] ، مع أن المراد ما منعك من السجود ، وكقول الشاعر : @ تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع @@ أي وكاد صميم القلب يتقطع . وقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثاً مطولاً في دفع إيهام الاضطراب . وقوله تعالى : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } ، حل : بمعنى حال ، والفعل المضعف يأتي مضارعه من باب ، نصر ، وضرب ، فإن كان متعدياً كان من باب نصر . تقول : حل العقدة يحلها بالضم ، وتقول : حل بالمكان يحل بالكسر إذا أقام فيه ، والإحلال دون الإحرام . وقد اختلف في المراد بحل هل هو من الإحلال بالمكان ، أو هو من التحلل ضد الإحرام ؟ فأكثر المفسرين أنه من الإحلال ضد الإحرام ، واختلفوا في المراد بالإحلال هذا . فقيل : هو إحلال مكة له في عام الفتح ، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده . وقيل : حل : أي حلال له ما يفعل بمكة غير آثم ، بينما هم آثمون بفعلهم . وقيل : حل : أي من المشركين معظمون هذا البلد وحرمته في نفوسهم ، ولكنهم مستحلون إيذاءك وإخراجك . وذكر أبو حيان : أنه من الحلول والبقاء والسكن ، أي وأنت حال بها . 1هـ . وعلى الأول يكون إخباراً عن المستقبل ووعداً بالفتح ، وأنها تحل له بعد أن كانت حراماً ، فيقاتل أهلها وينتصر عليهم أو أنه تسلية له ، وأن الله عالم بما يفعلون به ، وسينصره عليهم . وعلى الثاني : يكون تأكيداً لشرف مكة ، إذ هي أولاً فيها بيت الله وهو شرف عظيم ، ثم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حال فيها بين أهلها . والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن هذا الثاني هو الراجح ، وإن كان أقل قائلاً ، وذلك لقرائن من نفس السورة ومن غيرها من القرآن الكريم . منها : أن حلوله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد له شأن عظيم فعلاً ، وأهمه الله رافع عنهم العذاب لوجوده فيهم ، كما في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] ، فكأنه تعالى يقول : وهذا البلد الأمين من العذاب ، وهؤلاء الآمنون من العذاب بفضل وجودك فيهم . ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم بحلوله فيها بين أظهرهم ، يلاقي من المشاق ويصبر عليها . وفيه أروع المثل للصبر على المشاق في الدعوة ، فقد آذوه كل الإيذاء ، حتى وضعوا سلا الجزور عليه وهو يصلي عند الكعبة . وهو يصبر عليهم ، وآذوه في عودته من الطائف ، وجاء ملك الجبال نصرة له ، فأبى وصبر ودعا لهم ، ومنعوه الدخول إلى بلده مسقط رأسه فصبر ، ولم يدع عليهم ، ورضى الدخول في جوار رجل مشرك وهذا هو المناسب لقوله بعده { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] ، وهذا من أعظمه . فإذا كان كل إنسان يكابد في حياته ، أياً كان هو ، ولأي غرض كان ، فمكابدتك تلك جديرة بالتقدير والإعظام ، حتى يقسم بها . والله تعالى أعلم .