Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 92, Ayat: 15-21)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } . هذه الآية من مواضع الإيهام ، ولم يتعرض لها في دفع إيهام الاضطراب ، وهو أنها تنص وعلى سبيل الحصر ، أنه لا يصلى النار ألاَّ الأشقى مع مجيء قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] مما يدل على ورود الجميع . والجواب من وجهين : الأول كما قال الزمخشري : إن الآية بين حالي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين . فقيل : الأشقى وجعل مختصاً بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقال الأتقى ، وجعل مختصاً بالجنة ، وكأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل : عنهما هما أبو جهل أو أمية بن خلف المشركين ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، حكاه أبو حيان عن الزمخشري . والوجه الثاني : هو أن الصلى الدخول والشي ، وأن يكون وقود النار على سبيل الخلود ، والورود والدخول المؤقت بزمن غير الصلى لقوله في آية الورود ، التي هي قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ، { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] ، ويبقى الإشكال ، بين الذين اتقوا وبين الأتقى ويجاب عنه : بأن التقى يرد ، والأتقى لا يشعر بورودها ، كمن يمر عليها كالبرق الخاطف . والله تعالى أعلم . ولولا التأكيد في آية الورود بالمجيء بحرف من وإلا وقوله : { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] لولا هذه المذكورات لكان يمكن أن يقال : إنها مخصوصة بهذه الآية ، وأن الأتقى لا يردها ، إلاَّ أن وجود تلك المذكورات يمنع من القول بالتخصيص . والله تعالى أعلم . وفيه تقرير مصير القسمين المتقدمين ، من أعطى واتقى وصدق ، ومن بخل واستغنى وكذب ، وأن صليها بسبب التكذيب والتولي والإعراض وهو عين الشقاء ، ويتجنبها الأتقى الذي صدق ، وكان نتيجة تصديقه أنه أعطى ماله يتزكى ، وجعل إتيان المال نتيجة التصديق أمر بالغ الأهمية . وذلك أن العبد لا يخرج من ماله شيئاً إلاَّ بعوض ، لأن الدنيا كلها معاوضة حتى الحيوان تعطيه علفاً يعطيك ما يقابله من خدمة أو حليب … إلخ . فالمؤمن المصدق بالحسنى يعطي وينتظر الجزاء الأوفى الحسنة بعشر أمثالها ، لأنه مؤمن أنه متعامل مع الله ، كما في قوله : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] . أما المكذب : فلم يؤمن بالجزاء آجلاً ، فلا يخرج شيئاً لأنه لم يجد عوضاً معجلاً ، ولا ينتظر ثواباً مؤجلاً ، ولذا كان الذين تبؤوا الدار والإيمان ، يحبون من هاجر إليهم ويواسونهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، إيماناً بما عند الله ، بينما كان المنافقون لا ينفقون إلا كرهاً ولا يخرجون إلا الرديء ، الذي لم يكونوا ليأخذوه من غيرهم إلاَّ ليغمضوا فيه ، ولك ذلك سببه التصديق بالحسنى أو التكذيب بها . ولذا جاء في الحديث الصحيح " والصدقة برهان " أي على صحة الإيمان بما وعد الله المتقين ، من الخلف المضاعفة الحسنة . وقوله : { يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } ، أي يتطهر ويستزيد ، إذ التزكية تأتي بمعنى النماء ، كقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] ، وهذا رد على قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } [ الأعلى : 14 ] ، وعلى عموم : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ } [ الليل : 5 ] ، ولا يقال : إنها زكاة المال ، لأن الزكاة لم تشرع إلا بالمدينة ، والسورة مكية عند الجمهور ، وقيل : مدنية . والصحيح الأول . تنبيه قد قيل أيضاً : إن المراد بقوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } [ الليل : 17 - 18 ] ، إلى آخر السورة . نازل في أبي بكر رضي الله عنه ، ولما كان يعتق ضعفة المسلمين ، ومن يعذبون على إسلامهم في مكة ، فقيل له : لو اشتريت الأقوياء يساعدونك ويدافعون عنك . فأنزل الله الآيات إلى قوله : { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } [ الليل : 19 - 20 ] ، وابتغاء وجه رب هو بعينه ، وصدق بالحسنى أي لوجه الله يرجو الثواب من الله . وكما تقدم ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإن صورة السبب قطعية الدخول . فهذه بشرى عظيمة للصديق رضي الله عنه ، ولسوف يرضى في غاية من التأكيد من الله تعالى ، على وعده إياه صلى الله عليه وسلم وأرضاه . وذكر ابن كثير : أن في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما على من يدعي منها ضرورة ، فهل يدعي منها كلها أحد ؟ قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم " ا هـ . وإنا لنرجو الله كذلك فضلاً منه تعالى . تنبيه في قوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } [ الليل : 21 ] ، وذكر ابن كثير إجماع المفسرين أنها في أبي بكر رضي الله عنه أعلى منازل البشرى ، لأن هذا الوصف بعينه ، قيل للرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً في السورة بعدها ، سورة الضحى { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [ الضحى : 4 - 5 ] ، فهو وعد مشترك للصديق وللرسول صلى الله عليه وسلم ، إلاَّ أنه في حق الرسول صلى الله عليه وسلم أسند العطاء فيه لله تعالى بصفة الربوبية { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } [ الضحى : 5 ] كما ذكر فيه العطاء ، مما يدل على غيره صلى الله عليه وسلم ، وهو معلوم بالضرورة ، من أنه صلى الله عليه وسلم له عطاءات لا يشاركه فيها أحد ، على ما سيأتي إن شاء الله .