Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 92-94)

Tafsir: al-Mīzān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بيان قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } الخطأ بفتحتين من غير مدّ ، ومع المدّ على فعال خلاف الصواب ، والمراد به هنا ما يقابل التعمّد لمقابلته بما في الآية التالية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً } . والمراد بالنفي في قوله { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } ، نفي الاقتضاء ، أي ليس ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطأ ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن ، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفى الاقتضاء قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله } الشورى 51 وقوله { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } النمل 60 وقوله { فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا به من قبل } يونس 74 إلى غير ذلك . والآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي ، بمعنى أن الله تعالى لم يبح قطّ ، ولا يبيح أبداً أن يقتل مؤمن مؤمناً ، وحرم ذلك إلا في قتل الخطأ ، فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلاً ، أو قصداً ، ولكن بزعم ان المقتول كافر جائز القتل مثلاً ، فلا حرمة مجعولة هناك . وقد ذكر جمع من المفسّرين ان الاستثناء في قوله { إلا خطأ } منقطع ، قالوا وإنما لم يحمل قوله { إلا خطأ } على حقيقة الاستثناء لأن ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطأ أو إباحته . انتهى وقد عرفت أن ذلك لا يؤدي إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطأ ، أو عدم وضع الحرمة فيه ، ولا محذور فيه قطعاً . فالحق أن الاستثناء متصل . قوله تعالى { ومن قتل مؤمناً خطأ } إلى قوله { يَصّدّقوا } التحرير جعل المملوك حراً ، والرقبة هي العنق شاع استعمالها في النفس المملوكة مجازاً ، والدية ما يعطى من المال عوضاً عن النفس أو العضو أو غيرها ، والمعنى ومن قتل مؤمناً بقتل الخطأ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة ، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول ، إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية . قوله تعالى { فإن كان من قوم عدوّ لكم } ، الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول ، والقوم العدو هم الكفار المحاربون ، والمعنى إن كان المقتول خطأ مؤمناً وأهله كفّار محاربون لا يرثون ، وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئاً . قوله تعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ، الضمير في { كان } يعود إلى المؤمن المقتول أيضاً على ما يفيده السياق ، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد ، والمعنى وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة ، وقد قدّم ذكر الدية تأكيداً في مراعاة جانب الميثاق . قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام } ، أي من لم يستطع التحرير - لأنه هو الأقرب بحسب اللفظ - وجب عليه صيام شهرين متتابعين . قوله تعالى { توبة من الله } الخ أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف رحمة من الله لفاقد الرقبة ، وينطبق على التخفيف ، فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع ، ويمكن أن يكون قوله { توبة } قيداً راجعاً إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفارة ، أعني قوله { فتحرير رقبة } الخ والمعنى أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعاً . وليتحفّظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } البقرة 179 . وكذا هو توبة من الله للمجتمع ، وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحداً ، ويرمّم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالي بالدية المسلّمة . ومن هنا يظهر أن الاسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعاً من القتل ، ويرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة . وسنوضح هذا المعنى فيما سيأتي من المباحث . وأما تشخيص معنى الخطأ والعمد ، والتحرير والدية ، وأهل القتيل والميثاق وغيره ، المذكورات في الآية ، فعلى السنّة من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه . قوله تعالى { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم } ، التعمّد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذي له ، وحيث ان الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان ، وكان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمدياً من جهة خطائياً من أُخرى ، فالرامي إلى شبح ، وهو يزعم انه من الصيد ، وهو في الواقع انسان إذا قتله كان متعمداً إلى الصيد خاطئاً في قتل الانسان ، وكذا إذا ضرب إنساناً بالعصي قاصداً تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطأ ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمناً متعمداً هو الذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وان المقتول مؤمن . وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمداً بالنار الخالدة ، غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } النساء 116 ان تلك الآية ، وكذا قوله تعالى { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } الزمر 53 تصلحان لتقييد هذه الآية ، فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم ، فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة . قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا } الضرب هو السير في الأرض والمسافرة ، وتقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد ، والتبيّن هو التمييز ، والمراد به التمييز بين المؤمن والكافر بقرينة قوله { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } والمراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الإيمان ، وقرئ لمن ألقى إليكم السلم بفتح اللام وهو الاستسلام . والمراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال والغنيمة ، وقوله { فعند الله مغانم كثيرة } جمع مغنم وهو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذي يريدونه لكثرتها وبقائها ، فهي التي يجب عليكم أن تؤثروها . قوله تعالى { كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبيّنوا } الخ أي على هذا الوصف . وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا - كنتم من قبل أن تؤمنوا ، فمن الله عليكم بالإيمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة ، فإذا كان كذلك ، فيجب عليكم ان تتبيّنوا ، وفي تكرار الأمر بالتبيّن تأكيد في الحكم . والآية مع اشتمالها على العظة ونوع من التوبيخ لا تصرّح بكون هذا القتل الذي ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمّداً ، فالظاهر انه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين ، لعدم وثوق القاتل ، بكونه مؤمناً حقيقة بزعم أنه ، إنما يظهر الإيمان خوفاً على نفسه ، والآية توبخه بأن الاسلام إنما يعتبر بالظاهر ، ويحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير . وعلى هذا فقوله { تبتغون عرض الحياة الدنيا } موضوع في الكلام على اقتضاء الحال ، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الإيمان من غير اعتناء بأمره وتبيّن في شأنه حال من يريد المال والغنيمة ، فيقتل المؤمن المتظاهر بالايمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من موجه العذر ، وهذا هو الحال الذي كان عليه المؤمنون قبل إيمانهم لا يبتغون إلا الدنيا ، فإذا أنعم الله عليهم بالإيمان ، ومنّ عليهم بالاسلام كان الواجب عليهم ان يتبيّنوا فيما يصنعون ، ولا ينقادوا لأخلاق الجاهلية وما بقي فيهم من اثارتها . بحث روائي في الدر المنثور في قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } الآية أخرج ابن جرير عن عكرمة قال كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بني عامر ابن لويّ يعذّب عيّاش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلقيه عيّاش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فنزلت { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } الآية فقرأها عليه ، ثم قال له قم فحرر . أقول وروي هذا المعنى بغيره من الطرق ، وفي بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين خرج عيّاش ، وكان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم وهم يعذبونه ولقي حارثاً وقد أسلم ، وعيّاش لا يعلم بإسلامه فقتله عيّاش إذ ذاك ، وما اثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار وأنسب لتاريخ نزول سورة النساء . وروى الطبري في تفسيره عن ابن زيد أن الذي نزلت فيه الآية هو أبو الدرداء كان في سريّة فعدل إلى شعب يريد حاجة له ، فوجد رجلاً من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال لا إله إلا الله ، فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ، ثم وجد في نفسه شيئاً ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فنزلت الآية . وروي في الدر المنثور أيضاً عن الروياني ، وابن منده ، وأبي نعيم ، عن بكر بن حارثة الجهني ، أنه هو الذي نزلت فيه الآية لقصة نظيرة قصّة أبي الدرداء ، والروايات على أي حال لا تزيد على التطبيق . وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن رجاله ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل ، فإن الله تعالى يقول { فتحرير رقبة مؤمنة } يعنى بذلك مقرّة قد بلغت الحنث " الحديث . وفي تفسير العيَّاشي عن موسى بن جعفر عليه السلام سئل كيف تعرف المؤمنة ؟ قال على الفطرة . وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في رجل مسلم في أرض الشرك ، فقتله المسلمون ، ثم علم به الإمام بعد ، فقال عليه السلام يعتق مكانه رقبة مؤمنة وذلك قول الله عزّ وجل { فإن كان من قوم عدوّ لكم } . أقول وروى مثله العياشي وفي قوله يعتق مكانه ، إشعار بأن حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الإشارة اليه . وربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفّارات هو إضافة حرّ غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية . فافهم ذلك . وفي الكافي عن الصادق عليه السلام إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشهر الأول فإن عليه أن يعيد الصيام ، وإن صام الشهر الأول ، وصام من الشهر الثاني شيئاً ، ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضي . أقول أي يقضي ما بقي عليه كما قيل ، وقد استفيد من التتابع . وفي الكافي ، وتفسير العيّاشي عنه عليه السلام أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمداً له توبة ؟ فقال إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له ، وإن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أشياء الدنيا فإن توبته أن يقاد منه ، وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم ، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية ، وأعتق نسمة ، وصام شهرين متتابعين ، وأطعم ستين مسكيناً توبة إلى الله عزّ وجل . وفي التهذيب بإسناده عن أبي السفاتج ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنّم } قال جزاؤه جهنم إن جازاه . أقول وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن الطبراني وغيره ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . والروايات كما ترى تشمل على ما قدمناه من نكات الآيات ، وفي باب القتل والقود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث . وفي المجمع في قوله تعالى { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم } الآية قال " نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل معه قيس بن هلال الفهري وقال له قل لبني النجّار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه ، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته . فبلغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية ، فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان ، فقال ما صنعت شيئاً أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك . اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدية فضل ، فرماه بصخرة فقتله وركب بعيراً ، ورجع إلى مكة كافراً ، وأنشد يقول قتلــــت بــه فهـراً وحمـــلت عقــله * ســـراة بنــي النجّار أربــاب فارع فأدركت ثأري وأضطجعت موسداً * وكنــت إلــى الأوثــــان أول راجـع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا أؤمنه في حل ولا حرم " رواه الضحّاك وجماعة من المفسرين انتهى . أقول وروي ما يقرب منه عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما . وفي تفسير القمي في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } الآية " أنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزاة خيبر ، وبعث أُسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى ، فلما أحس بخيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع أهله وماله في ناحية الجبل فأقبل يقول أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فمر به أُسامة بن زيد فطعنه فقتله ، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ؟ فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذاً من القتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا كشفت الغطاء عن قلبه ، ولا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت " فحلف أُسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحداً شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فتخلف عن أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه فأنزل في ذلك { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا } الآية . أقول وروى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدّى ، وروي في الدر المنثور روايات كثيرة في سبب نزول الآية ، في بعضها أن القصة لمقداد بن الأسود وفي بعضها لأبي الدرداء ، وفي بعضها لمحلم بن جثامة ، وفي بعضها لم يذكر اسم للقاتل ولا المقتول وابهمت القصة إبهاماً ، هذا ، ولكن حلف أُسامة بن زيد واعتذاره إلى علي عليه السلام في تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ والله أعلم .