Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 104, Ayat: 1-9)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الويل لفظ يدل على الذم وعلى طلب العذاب والهلكة … وقيل اسم لواد فى جهنم . والهُمَزة من الهَمْز ، بمعنى الطعن فى أعراض الناس ، ورميهم بما يؤذيهم … واللُّمَزة من اللمز ، بمعنى السخرية من الغير ، عن طريق الإِشارة باليد أو العين أو غيرهما . قال الجمل الهمزة واللمزة هم المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة الباغون العيب للبرئ ، فعلى هذا هما بمعنى واحد . وقيل الهمزة الذى يعيبك فى الغيب ، واللمزة الذى يعيبك فى الوجه وقيل العكس . وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى أصل واحد ، وهو الطعن وإظهار العيب ، ويدخل فى ذلك من يحاكى الناس فى أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه … ولفظ " ويل " مبتدأ وساغ الابتداء مع كونه نكرة ، لأنه دعاء عليهم ، وقوله { لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } خبره ، وهمزة ولمزة وصفان لموصوف محذوف . أى عذاب شديد ، وخزى عظيم ، لكل من يطعن فى أعراض الناس ، ويغض من شأنهم ، ويحقر أعمالهم وصفاتهم ، وينسب إليهم ما هم برآء منه من عيوب . والتعبير بقوله { هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } يدل على أن تلك الصفات القبيحة ، كانت عادة متأصلة فيهم ، لأن اللفظ الذى بزنة فُعَلَة - بضم الفاء وفتح العين - يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ديدنه ودأبه الإِتيان بهذا الوصف ، ومنه قولهم فلان ضُحَكة إذا كان يكثر من الضحك . كما أن لفظ " فُعْلَة " - بضم الفاء وسكون العين - يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ، يكثر أن يفعل به ذلك ، ومنه قولهم فلان ضُحْكة ، إذا كان الناس يكثرون الضحك منه . وقوله - سبحانه - { ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } زيادة تشنيع وتقبيح للهمزة اللمزة … ومعنى " عدده " جعله عدته وذخيرته ، وأكثر من عده وإحصائه لحرصه عليه ، والجملة الكريمة فى محل نصب على الذم . أى عذاب وهلاك لكل إنسان مكثر من الطعن فى أعراض الناس ، ومن صفاته الذميمة أنه فعل ذلك بسبب أنه جمع مالا كثيرا ، وأنفق الأوقات الطويلة فى عده مرة بعد أخرى ، حبا له وشغفا به وتوهما منه أن هذا المال الكثير هو مناط التفاضل بين الناس . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائى " جمَّع " - بتشديد الميم - وهو مبالغة فى { جمع } بتخفيف الميم . وقوله - تعالى - { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } ، صفة أخرى من صفاته القبيحة ، والجملة يصح أن تكون مستأنفة استنئافا بيانيا ، جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قيل ما باله يجمع المال ويهتم به ؟ فكان الجواب يحسب أن ماله أخلده . ويصح أن تكون حالا من فاعل " جمع " أى هذا الجاهل المغرور جمع المال وعدده ، حالة كونه يظن أن ماله يخلده فى الدنيا ، ويجعله فى مأمن من حوادث الدهر . قال الأستاذ الإِمام محمد عبده أى أن الذى يحمل هذا الهمزة اللمزة على الحط من أقدار الناس ، هو جمعه المال وتعديده … فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه ، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة ، بحيث يكون كل ذ فضل ومزية دونه … ويظن أن ما عنده من المال ، قد حفظ له حياته التى هو فيها ، وأرصدها عليه ، فهو لا يفارقها إلى حياة أخرى ، يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال … ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور فقال { كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي ٱلْحُطَمَةِ . وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ } . و " كلا " حرف زجر وردع ، والمراد به هنا إبطال ما توهمه هذا المغرور من حسبانه أن ماله سيخلده . والنبذ الطرح للشئ والإِلقاء به مع التحقير والتصغير من شأنه . والحُطَمة من الحَطْم ، وهو كسر الشئ بشدة وقوة ، ويقال رجل حطمة ، إذا كان شديداً فى تحطيمه وكسره لغيره ، والمراد بالحطمة هنا النار الشديدة الاشتعال التى لا تبقى على شئ إلا وأحرقته . أى كلا ليس الأمر كما زعم هذا الهمزة واللمزة ، من أن ماله سيخلده ، بل الحق أنه والله ليطرحن بسبب أفعاله القبيحة فى النار التى تحطم كل شئ يلقى فيها ، والتى لا يعرف مقدار شدتها واشتعالها إلا الله - تعالى - . فالمقصود بالاستفهام فى قوله - تعالى - { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَة } تهويل أمر هذه النار ، وتفظيع شأنها ، وبيان أن كنهها لا تدركه عقول البشر … وقوله - سبحانه - { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ } بيان للحطمة وتفصيل لأمرها بعد إبهامها . أى الحطمة هى نار الله - تعالى - الشديدة الإِحراق ، وأضيفت إلى الله - تعالى لزيادة الترويع والتخويف منها ، لأن خالقها - عز وجل - هو الذى لا يعجزه شئ . وقوله - تعالى - { ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } صفة أخرى من صفات هذه النار ، وقوله { تَطَّلِعُ } من الاطلاع ، بمعنى الوصول إلى الشئ بسرعة ، والكشف عن خباياه ، والنفاذ إلى منتهاه . أى سيلقى بهذا الشقى فى نار الله - تعالى - الموقدة ، التى تصل إلى أعماق الأفئدة والقلوب ، فتحيط بها ، وتنفذ إليها ، فتحرقها إحراقا تاما . وخصت الأفئدة التى هى القلوب بالذكر ، لأنها ألطف ما فى الأبدان وأشدها تألما بأدنى أذى يصيبها ، أو لأنها محل العقائد الزائفة ، والنيات الخبيثة ، ومنشأ الأعمال السيئة ، التى استحق هذا الهمزة اللمزة بسببها العقاب الشديد . ثم وصف - سبحانه - هذه النار بصفة ثالثة فقال { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } أى إن هذه النار من صفاتها - أيضا - أنها مطبقة ومغلقة عليهم بحيث لا يستطيعون الخروج منها ، فقوله { مُّؤْصَدَةٌ } اسم مفعول من قولك أوصدت الباب ، إذا أغلقته بشدة ، بحيث لا يستطاع الخروج منه … وقوله - تعالى - { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } صفة رابعة من صفات هذه النار الشديدة الاشتعال . وقوله { عَمَدٍ } - بفتحتين - جمع عمود كأديم وأَدَم ، وقيل جمع عماد ، وقيل هو اسم جمع لعمود ، وليس جمعا له ، والمراد بها الأوتاد التى تشد بها أبواب النار . وقرأ بعض القراء السبعة فى عُمُد بضمتين جمع عمود كسرير وسرر . والممددة الطويلة الممدودة من أول الباب إلى آخره . أى أن هذه النار مغلقة عليهم بأبواب محكمة ، هذه الأبواب قد شدت بأوتاد من حديد ، تمتد هذه الأوتاد من أول الأبواب إلى آخرها . بحيث لا يستطيع من بداخلها الفكاك منها . وبذلك نرى السورة الكريمة قد توعدت هؤلاء المغرورين الجاهلين ، الطاعنين فى أعراض الناس … بأشد ألوان العقاب ، وأكثره إهانة وخزيا لمن ينزل به . نسأل الله - تعالى - أن يعيذنا من ذلك . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .