Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 105, Ayat: 1-5)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ … } للتقرير بما تواتر نقله وعمله صلى الله عليه وسلم وعلمه غيره علما مستفيضا … حتى إن العرب كانوا يؤرخون بتلك الحادثة ، فيقولون هذا الأمر حدث فى عام الفيل ، أو بعده أو قبله … والمراد بالرؤية هنا العلم المحقق . وعبر - سبحانه - عن العلم بالرؤية ، لأن خبر هذه القصة - كما أشرنا كان من الشهرة بمكان ، فالعلم الحاصل بها مساو فى قوة الثبوت للرؤية والمشاهدة . والمعنى لقد علمت - أيها الرسول الكريم - علما لا يخالطه ريب أو لبس ، ما فعله ربك بأصحاب الفيل ، الذين جاءوا لهدم الكعبة ، حيث أهلكناهم إهلاكا شنيعا ، كانت فى العبرة والعظة ، والدلالة الواضحة على قدرتنا ، وعلى حمايتنا لبيتنا الحرام . وأوقع - سبحانه - الاستفهام عن كيفية ما أنزله بهم ، لا عن الفعل ذاته ، لأن الكيفية أكثر دلالة على قدرته - تعالى - وعلى أنه - سبحانه - لا يعجزه شئ . وفى التعبير بقوله { فَعَلَ رَبُّكَ … } إشارة إلى أن هذا الفعل لا يقدر عليه أحد سواه - سبحانه - فهو الذى ربى نبيه صلى الله عليه وسلم وتعهده بالرعاية ، وهو الكفيل بنصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة ، على جيوش الحبشة … وهم أصحاب الفيل . ووصفوا بأنهم " أصحاب الفيل " لأنهم أحضروا معهم الفيلة ، ليستعينوا بها على هدم الكعبة ، وعلى إذلال أهل مكة . والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } للتقرير - أيضا - أى لقد جعل الله - تعالى - مكر أصحاب الفيل وسعيهم لتخريب الكعبة ، فى { تَضْلِيلٍ } أى فى تخسير وإبطال وتضييع ، بأن تبرهم - سبحانه - تتبيرا ودمرهم تدميرا . والكيد إرادة وقوع الإِضرار بالغير فى خفية ، وسمى - سبحانه - ما فعله أبرهة وجيشه كيدا ، مع أنهم جاءوا لهدم الكعبة جهارا نهارا … لأنهم كانوا يضمرون من الحقد والحسد والعداوة لأهل مكة ، أكثر مما كانوا يظهرونه ، فهم - كما قال - تعالى - { قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ … } والمقصود بالتضليل هنا التضييع والإِبطال . تقول ضللت كيد فلان ، إذا جعلته باطلا ضائعا . ثم بين - سبحانه - مظاهر إبطاله لكيدهم فقال { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } . والطير اسم جمع لكل ما من شأنه أن يطير فى الهواء ، وتنكيره للتنويع والتهويل ، والأبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وقيل هو جمع إِبَّالة ، وهى حزمة الحطب الكبيرة ، شبهت بها الجماعة من الطير فى تضامنها وتلاصقها . أى لقد جعل الله - تعالى - كيد هؤلاء المعتدين فى تضييع وتخسير … بأن أرسل إليهم جماعات عظيمة من الطير ، أتتهم من كل جانب فى تتابع ، فكانت سببا فى إهلاكهم والقضاء عليهم . . { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } وجملة " ترميهم بحجارة من سجيل " بيان لما فعلته تلك الطيور بإذن الله - تعالى - ، وهى حال من قوله { طيرا } ، والسجيل الطين اليابس المتحجر … قال بعض العلماء قوله { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } أى من طين متحجر محرق . أو بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون فى السجيل ، وهو الديوان الذى كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن السجيل هو الديوان الذى كتبت فيه أعمالهم . واشتقاقه من الإِسجال بمعنى الإِرسال . وعن عكرمة كانت ترميهم بحجارة معها كالحِمَّصةِ ، فإذا أصاب أحدَهم حجرٌ منها ، خرج به الجُدَرِى ، وكان ذلك أول يوم رئى فيه الجدرى بأرض العرب . وقال ابن عباس كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده أى احترق - ، فكان ذلك أول الجدرى . وقيل إن أول ما رؤيت الحصبة والجدرى بأرض العرب ذلك العام . وقال ابن جُزَى فى تفسيره إن الحجر كان يدخل من رأس أحدهم ويخرج من أسفله . ووقع فى سائرهم الجدرى والأسقام ، وانصرفوا وماتوا فى الطريق متفرقين ، وتمزق أبرهة قطعة قطعة … وقوله - سبحانه - { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } بيان للآثار الفظيعة التى ترتبت على ما فعلته الحجارة التى أرسلتها الطيور عليهم بإذن الله - تعالى - . والعصف ورق الزرع الذى يبقى فى الأرض بعد الحصاد وتعصفه الرياح فتأكله الحيوانات . أو هو التبن الذى تأكله الدواب . أى سلط الله - تعالى - عليهم طيرا ترميهم بحجارة من طين متحجر ، فصاروا بسبب ذلك صرعى هالكين ، حالهم فى تمزقهم وتناثرهم كحال أوراق الأشجار اليابسة أو التبن الذى تأكله الدواب . وهكذا نرى السورة الكريمة قد ساقت من مظاهره قدرة الله - تعالى - ما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم ، وما يحمل الكافرين على الاهتداء إلى الحق ، والإِقلاع عن الشرك والجحود لو كانوا يعقلون . نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من عباده الشاكرين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .