Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 1-5)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سورة هود - عليه السلام - من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وقد سبق أن تكلمنا بشىء من التفصيل عند تفسيرنا لسور البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، عن آراء العلماء فى المراد بهذه الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور . ورجحنا أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن . فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله - تعالى - هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون به كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو هاتوا سورة واحدة . فلما عجزوا - وهم أهل الفصاحة والبيان - ثبت أن غيرهم أعجز ، وأن هذا القرآن من عند الله ، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } . وقوله { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } من الإِحكام - بكسر الهمزة - وهذه المادة تستعمل فى اللغة لمعان متعددة ، ترجع إلى شئ واحد هو المنع . يقال أحكم الأمر . أى أتقنه ومنعه من الفساد . أى منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق ويقال أحكم الفرس ، إذا جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب . وقوله { ثُمَّ فُصِّلَتْ } من التفصيل ، بمعنى التوضيح والشرح للحقائق والمسائل المراد بيانها ، بحيث لا يبقى فيها اشتباه أو لبس . والمعنى هذا الكتاب الذى أنزلناه إليك يا محمد ، هو كتاب عظيم الشأن ، جليل القدر ، فقد أحكم الله آياته إحكاما بديعا ، وأتقنها إتقانا معجزا ، بحيث لا يتطرق إليها خلل فساد . ثم فصل - سبحانه - هذه الآيات تفصيلا حكيما ، بأن أنزلها نجوما ، وجعلها سورا سورا ، مشتملة على ما يسعد الناس فى دنياهم وآخرتهم ، من شئون العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والآداب ، والأحكام . قال صاحب الكشاف ما ملخصه { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أى نظمت نظما رصينا محكما ، بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف … وقيل منعت من الفساد ، من قولهم أحكمت الدابة ، إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ، قال جرير @ أبنى حنيفة أحكموا سفاءكم إنى أخاف عليكم أن أغضبا @@ { ثُمَّ فُصِّلَتْ } كما تفصل القلائد بالفرائد ، ومن دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة ، وآية آية ، أو فرقت فى التنزيل ولم تنزل جملة واحدة " . و { ثم } فى قوله - سبحانه - " ثم فصلت " للتراخى فى الرتبة كما هو شأنها فى عطف الجمل ، لما فى التفصيل من الاهتمام لدى النفوس ، لأن العقول ترتاح إلى التفصيل بعد الإِجمال ، والتوضيح بعد الإِيجاز . وجملة { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفة أخرى للكتاب ، وصف بها ، لإِظهار شرفه من حيث مصدره ، بعد أن وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات أى هذا الكتاب الذى أتقنت آياته إتقانا بديعا ، وفصلت تفصيلا رصينا ، ليس هو من عند أحد من الخلق ، وإنما هو من عند الخلق الحكيم فى كل أقواله وأفعاله ، الخبير بظواهر الأمر وبواطنها . قال الشوكانى وفى قوله { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } لف ونشر ، لأن المعنى أحكمها حكيم ، وفصلها خبير ، عالم بمواقع الأمور . وقوله { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } جملة تعليلية ، أى أنه - سبحانه - فعل ما فعل من إحكام الكتاب وتفصيله وتنزيله من لدن حكيم خبير ، لكى تخلصوا له العبادة والطاعة ، وتتركوا عبادة غيره لأن من أنزل هذا الكتاب المعجز ، من حقه أن يفرد بالخضوع والاستعانة . وقوله { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } بيان لوظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . والضمير المجرور فى " منه " يعود على الله - تعالى - . أى عليكم - أيها الناس - أن تخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة ، فإنه - سبحانه - قد أرسلنى إليكم لكى أنذر الذين فسقوا عن أمره بسوء العاقبة ، وأبشر الذين استجابوا لدعوته بحسن المثوبة . وقدم - سبحانه - الإِنذار على التبشير لأن الخطاب موجه إلى الكافرين ، الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى . قال بعضهم " والجمع بين النذارة والبشارة ، لمقابلة ما نضمته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله . بطريق النهى ، وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء ، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول ، والبشارة ترجع إلى الجزء الثانى " . ثم بين - سبحانه - ما يترتب على طاعته من خيرات فقال { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ … } . والاستغفار طلب المغفرة والرحمة من الله - تعالى - . والتوبة الإِقلاع عن كل ما نهى الله ، مع التصميم على عدم العودة إلى ذلك فى المستقبل . ويمتعكم من الإِمتاع ، وأصل الإِمتاع الإِطالة ، ومنه أمتعنا الله بك أى أطال لنا بقاءك . والآية الكريمة معطوفة على قوله - سبحانه - قبل ذلك { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ … } . والمعنى وعليكم - أيها الناس - بعد أن نبذتم كل عبادة لغير الله ، أن تديموا طلب مغفرته ورحمته ، وأن تتوبوا إليه توبة نصوحا ، فإنكم إن فعلتم ذلك { يُمَتِّعْكُمْ } الله - تعالى - { مَّتَاعاً حَسَناً } بأن يبدل خوفكم أمنا ، وفقركم غنى ، وشقاؤكم سعادة . قوله { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أى إلى نهاية حياتكم التى قدرها الله لكم فى هذه الدنيا . وقوله { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أى ويعط كل صاحب عمل صالح جزاء عمله . فالمراد بالفضل الأول العمل الصالح . والمراد بالفضل الثانى الثواب الجزيل من الله - تعالى - . فالجملة الكريمة ، وعد كريم عن الله - تعالى - لكل من آمن وعمل صالحا . وجملة { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } معطوفة على استغفروا . و { ثم } هنا على بابها من التراخى ، لأن الإِنسان يستغفر أولا ربه من الذنوب ، ثم يتوب إليه التوبة الصادقة النصوح التى لا رجعة معها إلى ارتكاب الذنوب مرة أخرى . ووصف المتاع بالحسن ، ليدل على أنه عطاء ليس مشوبا بالمكدرات والمنغصات التى تقلق الإِنسان فى دنياه ، وإنما هو عطاء يجعل المؤمن يتمتع بنعم الله التى أسبغها عليه ، مع المداومة على شكره - سبحانه - على هذه النعم . قال - تعالى - { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثم حذر - سبحانه - من الإِعراض عن طاعته فقال { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } . أى ذكرهم أيها الرسول الكريم بأن فى إخلاصهم العبادة لله ، وفى طاعتهم له ، سعادتهم الدنيوية والأخروية ، وفى إعراضهم عن ذلك شقاؤهم وحلول العذاب بهم . أى إن تتولوا - أيها الناس - عن الحق الذى جئتكم به ، فإنى أخاف عليكم عذاب يوم القيامة ، الذى هو عذاب كبير هوله ، عظيم وقعه ، كما أخاف عليكم عذاب الدنيا . فتنكير { يوم } للتهويل والتعميم ، حتى يشمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، حيث إنهم كانوا ينكرون البعث والحساب ، فتخويفهم بالعذابين أزجر لنفوسهم القاسية ، وقلوبهم العاتية . وفى وصفه بالكبر ، زيادة - أيضا - فى تهويله وشدته ، حتى يثوبوا إلى رشدهم ، ويقلعوا عن غيهم وعنادهم . وقوله - سبحانه - { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تحذير آخر لهم ، إثر التحذير من الإِعراض عما جاءهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - . والمرجع مصدر ميمى بمعنى الرجوع الذى لا انفكاك لهم منه ، ولا محيد لهم عنه . أى إلى الله - تعالى - وحده رجوعكم مهما طالت حياتكم ، ليحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليها بما تستحقونه من جزاء ، وهو - سبحانه - على كل شيء قدير ، لا يعجزه أمر ولا يحول بينه وبين نفاذ إرادته حائل . وما دام الأمر كذلك ، فأخلصوا لله العبادة ، واستغفروه ثم توبوا إليه لتظفروا بالسعادة العاجلة والآجلة . ثم حكى - سبحانه - جانبا من جهالات المنحرفين عن الحق ، ومن أوهامهم الباطلة فقال - تعالى - { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . وقوله { يَثْنُونَ } من الثنى بمعنى الطى والستر . يقال ثنيت الثوب إذا طويته على ما فيه من الأشياء المستورة . وثنى الصدور إمالتها وطأطأتها وحنيها بحيث تكون القامة غير مستقيمة ، والاستخفاء محاولة الاختفاء عن الأعين ، ومنه قوله - تعالى - { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ … } وقوله { يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ … } أى يتدثرون ويتغطون بها ، مبالغة فى الاستخفاء عن الأعين . فالسين والتاء فيه للتأكيد ، كما فى قوله - تعالى - { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ … } أى جعلوها كالغشاء عليهم . وقد ذكر بعض المفسرين فى سبب نزول هذه الآية روايات منها أنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ، ويرخى ستره ، ويحنى ظهره ، ويتغشى بثوبه ثم يقول هل يعلم الله ما فى قلبى فنزلت هذه الآية . وقيل نزلت فى المنافقين ، كان أحدهم إذا مر بالنبى - صلى الله عليه وسلم - ثنى صدره ، وتغشى بثوبه لئلا يراه . وقيل " نزلت فى الأخنس بن شريق ، وكان رجلا حلو المنطق ، حسن السياق للحديث ، يظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحبة ، ويضمر فى قلبه ما يضادها … " وعلى أية الحال فإن الآية الكريمة تصور تصويرا بديعا جهالات بعض الضالين بعلم الله - تعالى - المحيط بكل شىء ، كما تصور تصويرا دقيقا أوضاعهم الحسية حين يأوون إلى فراشهم ، وحين يلتقون بالنبى - صلى الله عليه وسلم - . والضمير المجررو فى قوله { منه } يعود إلى الله - تعالى - وعليه يكون المعنى ألا إن هؤلاء المشركين يلوون صدورهم عن الحق الذى جاءهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - توهما متهم أن فعلهم هذا يخفى على الله - تعالى - . ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { منه } يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وعليه يكون المعنى ألا إن هؤلاء المشركين يعرضون عن لقاء النبى - صلى الله عليه وسلم - ويطـأطئون رءوسهم عند رؤيته ، ليستخفوا منه ، حتى لا يؤثر فيهم بسحر بيانه . ومع أن كلا القولين له وجاهته وله من سبب النزول ما يؤيده ، إلا أننا نميل إلى كون الضمير يعود على الله - تعالى - لأن قوله - بعد ذلك { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } يؤيد عودة الضمير إليه - سبحانه - إذ علم السر والعلن مرده إليه وحده . وافتتحت الآية الكريمة بحرف التنبيه { ألا } وجئ به مرة أخرى فى قوله { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ … } للاهتمام بمضمون الكلام ، وللفت أنظار السامعين إلى ما بلغه هؤلاء الضالون من جهل وانطماس بصيرة . ثم بين - سبحانه - أنه لا يخفى عليه شئ من أحوالهم فقال { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . أى ألا يعلم هؤلاء الجاهلون أنهم حين يأوون إلى فراشهم ، ويتدثرون بثيابهم ، يعلم الله - تعالى - ما يسرونه فى قلوبهم من أفكار ، وما يعلنونه بأفواههم من أقوال ، لأنه - سبحانه - محيط بما تضمره النفوس من خفايا ، وما يدور بها من أسرار . وجملة { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } تعليلية لتأكيد ما قبلها من علمه - سبحانه - بالسر والعلن . والمراد بذات الصدور الأسرار المستكنة فيها . هذا ، وقد ذكر ابن كثير رواية أخرى فى سبب نزول هذه الآية فقال قال ابن عباس كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم ، فأنزل الله هذه الآية رواه البخارى من حديث ابن جريج . وفى لفظ آخر له قال ابن عباس " أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم … " وظاهر من هذا الكلام المنقول عن ابن عباس أنها نزلت فى شأن جماعة من المسلمين هذا شأنهم ، ولعل مراده أن الآية تنطبق على صنيعهم وليس فعلهم هو سبب نزولها ، لأن الآية مسوقة للتوبيخ والذم ، والذين يستحقون ذلك هم أولئك المشركون وأشباههم الذين أعرضوا عن الحق ، وجهلوا صفات الله - تعالى - . قال الجمل بعد أن ذكر قول ابن عباس " وتنزيل الآية على هذا القول بعيد جدا ، لأن الاستحياء من الجماع وقضاء الحاجة فى حال كشف العورة إلى جهة السماء ، أمر مستحسن شرعا ، فكيف يلام عليه فاعله ويذم بمقتضى سياق الآية " . وإذا فالذى يستدعيه السياق ويقتضيه ربط الآيات ، كون الآية فى ذم المشركين ومن على شاكلتهم من المنحرفين عن الطريق المستقيم . ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وسابغ فضله ، وشمول علمه فقال - تعالى - { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ … } .