Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 35-42)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ } بيان لما فعله العزيز وحاشيته مع يوسف - عليه السلام - بعد أن ثبتت براءته . وبدا هنا من البداء - بالفتح - وهو - كما يقول الإِمام الرازى - عبارة عن تغير الرأى عما كان عليه فى السابق . والضمير فى " لهم " يعود إلى العزيز وأهل مشورته . والمراد بالآيات الحجج والبراهين الدالة على براءة يوسف ونزاهته ، كانشقاق قميصه من دبر ، وقول امرأة العزيز ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، وشهادة الشاهد بأن يوسف هو الصادق وهى الكاذبة … والحين الزمن غير المحدد بمدة معينة . والمعنى ثم ظهر للعزيز وحاشيته ، من بعد ما رأوا وعاينوا البراهين المتعددة الدالة على صدق يوسف - عليه السلام - وطهارة عرضه … بدا لهم بعد كل ذلك أن يغيروا رأيهم فى شأنه ، وأن يسجنوه فى المكان المعد لذلك ، إلى مدة غير معلومة من الزمان . واللام فى قوله " ليسجننه " جواب لقسم محذوف على تقدير القول أى ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين ، والله ليسجننه حتى حين . ولا شك أن الأمر بسجن يوسف - عليه السلام - كان بتأثير من امرأة العزيز ، تنفيذا لتهديدها بعد أن صمم يوسف - عليه السلام - على عصيانها فيما تدعوه إليه ، فقد سبق أن حكى القرآن عنها قولها { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } ولا شك - أيضا - أن هذا القرار بسجن يوسف يدل على أن المرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها صاحب المنصب الكبير ، فهى تقوده حيث تريد كما يقود الرجل دابته . ولقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف فقال ما ملخصه قوله { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ … } وهى الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه فى الذروة والغارب ، وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه فى يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها فى سجنه ، لإِلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، وطمعت فى أن يذلِّلَه السجن ويسخره لها . ثم بين - سبحانه - جانبا من أحواله بعد أن دخل السجن فقال { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ … } والفتيان تثنية فتى ، وهو من جاوز الحلم ودخل فى سن الشباب . قالوا وهذان الفتيان كان أحدهما خبازا للملك وصاحب طعامه وكان الثانى ساقيا للملك ، وصاحب شرابه . وقد أدخلهما الملك السجن غضبا عليهما ، لأنهما اتهما بخيانته . والجملة الكريمة عطف على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير بعد أن بدا للعزيز وحاشيته سجن يوسف . نفذا ما بدا لهم فسجنوه ، ودخل معه فى السجن فتيان من خدم الملك " قال أحدهما " وهو ساقى الملك ليوسف - عليه السلام - { إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } أى إنى رأيت فيما يرى النائم . إنى أعصر عنبا ليصير خمرا . سماه بما يؤول إليه . { وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ } أى وقال الثانى وهو خباز الملك ، إنى رأيت فى المنام أنى أحمل فوق رأسى سلالا بها خبز ، وهذا الخبز تأكل الطير منه وهو فوق رأسى . والضمير المجرور فى قوله { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } يعود إلى المرئى فى المنام أى أخبرنا بتفسير ما رأيناه فى منامنا ، إذ نراك ونعتقدك من القوم الذين يحسنون تأويل الرؤى ، كما أننا نتوسم فيك الخير والصلاح ، لإِحسانك إلى غيرك ، من السجناء الذين أنت واحد منهم . وقبل أن يبدأ يوسف - عليه السلام - فى تأويل رؤياهما ، أخذ يمهد لذلك بأن يعرفهما بنفسه ، وبعقيدته ، ويدعوهما إلى عبادة الله وحده ويقيم لهما الأدلة على ذلك … وهذا شأن المصلحين العقلاء المخلصين لعقيدتهم الغيورين على نشرها بين الناس ، إنهم يسوقون لغيرهم من الكلام الحكيم ما يجعل هذا الغير يثق بهم ، ويقبل عليهم ، ويستجيب لهم … وهذا ما كان من يوسف - عليه السلام - فقد بدأ فى رده عليهما بقوله { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا … } . أى قال يوسف لرفيقيه فى السجن اللذين سألاه أن يفسر لهما رؤياهما " لاَ يَأْتِيكُمَا " أيها الرفيقان { طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } فى سجنكما ، فى حال من الأحوال ، إلا وأخبرتكما بماهيته وكيفيته وسائر أحواله قبل أن يصل إليكما . وإنما قال لهما ذلك ليبرهن على صدقه فيما يقول ، فيستجيبا لدعوته لهما إلى وحدانية الله بعد ذلك . وقوله { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } نفى لما قد يتبادر إلى ذهنهما من أن علمه مأخوذ عن الكهانة أو التنجيم أو غير ذلك مما لا يقره الدين . أى ذلك التفسير الصحيح للرؤيا ، والأخبار عن المغيبات ، كأخباركما عن أحوال طعامكما قبل أن يصل إليكما … ذلك كله إنما هو العلم الذى علمنى إياه ربى وخالقى ومالك أمرى ، وليس عن طريق الكهانة أو التنجيم كما يفعل غيرى . وقوله { مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } فيه إشعار بأن ما أخبرهما به من مغيبات هو جزء من علوم كثيرة علمها إياه ربه - عز وجل - فضلا منه - سبحانه - وكرما . ثم أضاف إلى ذلك قوله { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ } أى دين قوم { لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } أى لا يدينون بالعبودية لله - تعالى - وحده الذى خلقهم ورزقهم ، وإنما يدينون بالعبودية لآلهة أخرى لا تنفع ولا تضر . { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ } وما فيها من ثواب وعقاب { هُمْ كَافِرُونَ } جاحدون لما يجب الإِيمان به . وفى هذه الجملة الكريمة تعريض بما كان عليه العزيز وقومه ، من إشراك وكفر ، ولم يواجه الفتيان بأنهما على دين قومهما ، وإنما ساق كلامه على سبيل العموم ، لكى يزيد فى استمالتهما إليه ، وإقبالهما عليه … وهذا شأن الدعاة العقلاء ، يلتزمون فى دعوتهم إلى الله الحكمة والموعظة الحسنة ، بدون إحراج أو تنفير . ولما كان تركه لملة هؤلاء القوم ، يقتضى دخوله فى ملة قوم آخرين ، تراه يصرح بالملة التى اتبعها فيقولك { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ } الكرام المؤمنين بوحدانية الله وبالآخرة وما فيها من حساب وجزاء . { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } . وسماهم آباء جميعا ، لأن الأجداد آباء ، وقدم الجد الأعلى ثم الجد الأقرب ثم الأب ، لكون إبراهيم هو أصل تلك الملة التى اتبعها ، ثم تلقاها عنه إسحاق ، ثم تلقاها عن إسحاق يعقوب - عليهم السلام - . وفى هذه الجملة الكريمة ، بيان منه - عليه السلام - لرفيقيه فى السجن ، بأنه من سلسلة كريمة ، كلها أنبياء ، فحصل له بذلك الشرف الذى ليس بعده شرف ، وقوله { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } تنزه عن الشرك بأبلغ وجه . أى ما صح وما استقام لنا أن نشرك بالله - تعالى - أى شئ من الإِشراك ، فنحن أهل بيت النبوة الذين عصمهم الله - تعالى - عن ذلك . و " من " فى قوله { مِن شَيْءٍ } لتأكيد النفى وتعميمه . أى ما كان لنا أهل هذا البيت الكريم أن نشرك بالله شيئا من الإِشراك ، قليلا ذلك الشئ أو حقيرا . وقوله { ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ … } اعتراف منه - عليه السلام - برعاية الله - تعالى - له ولآبائه . واسم الإِشارة . يعود إلى الإيمان بالله - تعالى - المدلول عليه بنفى الشرك . أى ذلك الإِخلاص لله - تعالى - فى العبادة ، كائن من فضله - سبحانه - علينا معاشر هذا البيت ، وعلى غيرنا من الناس ، الذين هداهم إلى الإِيمان الحق . وقوله { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } إنصاف للقلة الشاكرة لله - تعالى - . أى ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله - تعالى - على نعمه الجزيلة وآلائه التى لا تحصى . وبعد أن عرف يوسف صاحبيه فى السجن بنفسه وبملته وبآبائه . شرع يقيم لهم الأدلة على صحة عقيدته ، وعلى فساد عقيدتهما فقال - كما حكى القرآن عنه { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } . أى يا صاحبى ورفيقى فى السجن أخبرانى بربكما ، أعبادة عدد من الأرباب المتفرقة فى ذواتها وصفاتها " خير " لكما " أم " عبادة الله - تعالى - " الواحد " فى ذاته وصفاته " القهار " لكل من غالبه أو نازعه ؟ وكرر نداءهما بالصحبة ليتحبب إليهما بهذه الصفة التى فيها إيناس للقلوب ، وليسترعى انتباههما إلى ما سيقوله لهما . قال صاحب المنار ما ملخصه " وقوله { ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ … } هذا استفهام تقرير بعد تخيير ، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد ، وكان المصريون المخاطبون به ، يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين فى ذواتهم وفى صفاتهم وفى الأعمال التى يسندونها إليهم بزعمهم ، فهو يقول لصاحبيه أأرباب متفرقون ، أى عديدون هذا شأنهم فى التفرق والانقسام " خير " لكما ولغيركما { أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ … } ولا شك أن الجواب الذى لا يختلف فيه عاقلان ، أن عبادة الله - تعالى - الواحد القهار ، هى العبادة الصحيحة التى توافق الفطرة السليمة والعقول القويمة . ثم انتقل يوسف - عليه السلام - إلى تفنيد العقائد الباطلة والأوهام الكاذبة فقال { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } أى من دون الله - تعالى - المستحق للعبادة . { إِلاَّ أَسْمَآءً } أى ألفاظا فارغة لا قيمة لها . { سَمَّيْتُمُوهَآ } آلهة بزعمكم { أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ } أما هى فليس لها من هذا الاسم المزعوم ظل من الحقيقة ، لأنها مخلوقة وليست خالقة ، ومرزوقة وليست رازقة ، وزائلة وليست باقية ، وما كان كذلك لا يستحق أن يكون إلها . ومفعول { سَمَّيْتُمُوهَآ } الثانى محذوف . والتقدير سميتموها آلهة . وقوله { وَآبَآؤُكُمْ } لقطع عذرهم ، حتى لا يقولوا إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، فكأنه - تعالى - يقول لهم إن آباءكم كانوا أشد منكم جهلا وضلالا ، فلا يصح لكم أن تقتدوا بهم . والمراد بالسلطان فى قوله - تعالى - { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } الحجة والبرهان . أى ما أنزل الله - تعالى - بتسميتها أربابا - كما سميتموها بزعمكم - من برهان أو دليل يشعر بتسميتها بذلك ، وإنما أنتم الذين خلعتم عليها هذه الأسماء . وقوله { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم … أى ما الحكم فى شأن العقائد والعبادات والمعاملات وفى صحتها أو عدم صحتها إلا الله - تعالى - وحده ، لأنه الخالق لكل شئ ، والعليم بكل شئ . وقوله { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } انتقال من الأدلة الدالة على وحدانيته - سبحانه - إلى الأمر بإخلاص العبادة له وحده . أى أمر - سبحانه - عباده أن لا يجعلوا عبادتهم إلا له وحده ، لأنه هو خالقهم ورازقهم ، وهو يحييهم ويمييتهم . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . أى ذلك الذى أمرناكم به من وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، هو الدين القيم . أى الحق المستقيم الثابت ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم ، لاستيلاء الشهوات والمطامع على نفوسهم . وبعد أن عرف يوسف صاحبيه فى السجن بنفسه ، وأقام لهما الأدلة على أن عبادة الله - تعالى - وحده هى الدين الحق ودعاهما إلى الدخول فيه … بعد كل ذلك شرع فى تفسير رؤياهما ثقة فى قوله ، فقال { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا } وهو ساقى الملك ، فيخرج من السجن بريئا ويسقى " ربه " أى سيده الملك " خمرا " . { وَأَمَّا ٱلآخَرُ } وهو خباز الملك وصاحب طعامه " فيصلب " أى فيقتل ثم يصلب { فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } بعد موته . ولم يعين يوسف - عليه السلام - من هو الذى سيسقى ربه خمرا ، ومن هو الذى سيصلب ، وإنما اكتفى بقوله " أما أحدكما … وأما الآخر " تلطفا معهما ، وتحرجا من مواجهة صاحب المصير السئ بمصيره ، وإن كان فى تعبيره ما يشير إلى مصير كل منهما بطريق غير مباشر . ثم أكد لهما الأمر واثقا من صدق العلم الذى علمه الله إياه ، فقال { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } . والاستفتاء مصدر استفتى إذا طلب الفتوى من غيره فى أمر خفى عليه فهمه أى تم التفسير الصحيح لرؤييكما اللتين سألتمانى عن تأويلهما . ثم ختم يوسف - عليه السلام - حديثه مع صاحبيه فى السجن ، بأن أوصى الذى سينجو منهما بوصية حكاها القرآن فى قوله { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } . أى " وقال " يوسف - عليه السلام - للفتى الذى اعتقد أنه سينجو منهما وهو ساقى الملك ، أيها الساقى بعد أن تخرج من السجن وتعود إلى عملك عند سيدك الملك ، اذكر حقيقة حالى عنده ، وأنى سجين مظلوم . ولكن الساقى بعد أن عاد إلى عمله عند الملك ، لم ينفذ الوصية ، لأن الشيطان أنساه ما قاله له يوسف ، فكانت النتيجة أن لبث يوسف - عليه السلام - فى السجن مظلوما بضع سنين . والبضع - بالكسر - من ثلاث إلى تسع ، وهو مأخوذ من البضع - بالفتح - بمعنى القطع والشق . يقال بضعت الشئ أى قطعته . وقد اختلفوا فى المدة التى قضاها يوسف فى السجن على أقوال من أشهرها أنه لبث فيه سبع سنين . وعلى هذا التفسير يكون الضمير فى " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، ويكون المراد بربه أى سيده ملك مصر . وهناك من يرى أن الضمير فى قوله " فأنساه " يعود إلى يوسف - عليه السلام - وأن المراد بالرب هنا الخالق - عز وجل - ، وعليه يكون المعنى . وقال يوسف - عليه السلام - للفتى الذى اعتقد نجاته وهو ساقى الملك اذكر مظلمتى عند سيدك الملك عندما تعود إليه . واذكر له إحسانى لتفسير الرؤى … وقوله { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أى فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر حاجته لله وحد ، ولا يذركها للساقى ليبلغها إلى الملك . فكانت النتيجة أن لبث يوسف فى السجن بضع سنين بسبب هذا الاعتماد على المخلوق . والذى يبدو لنا أن التفسير الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ . … } يدل دلالة واضحة على أن الضمير فى قوله " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، وأن المراد بربه أى سيده . وقد علق الإِمام الرازى على هذه الآية تعليقا يشعر بترجيحه للرأى الثانى فقال ما ملخصه " واعلم أن الاستعانة بالناس فى دفع الظلم جائزة فى الشريعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق ، إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية ، وألا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب … ثم قال والذى جربته من أول عمري إلى آخره أن الإِنسان كلما عول فى أمر من الأمور على غير الله ، صار ذلك سببا إلى البلاء وإلى المحنة … وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه ، فهذه التجربة قد استمرت لى من أول عمرى إلى هذا الوقت الذى بلغت فيه السابعة والخمسين من عمرى . ثم قال واعلم أن الحق هو قول من قال إن الضمير فى قوله { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } راجع إلى يوسف … والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه وخالقه … " . ونحن مع احترامنا لرأى الفخر الرازى ، إلا أننا ما زلنا نرى أن عودة الضمير فى قوله " فأنساه " إلى الساقى الذى ظن يوسف أنه هو الناجى من العقوبة ، أولى لما سبق أن ذكرناه . قال ابن كثير وقوله { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ … } أى " قال يوسف اذكر قصتى عند ربك وهو الملك ، فنسى ذلك الموصى أن يذكر مولاه بذلك ، وكان نسيانه من جملة مكايد الشيطان … هذا هو الصواب أن الضمير فى قوله " فأنساه " … عائد على الناجى كما قال مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد … " . وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا بأسلوبها المشوق الحكيم جانبا من حياة يوسف - عليه السلام - فى السجن فماذا كان بعد ذلك ؟ لقد كان بعد ذلك أن أراد الله - تعالى - فتح باب الفرج ليوسف - عليه السلام - ، وكان من أسباب ذلك أن رأى الملك فى منامه رؤيا أفزعته ، ولم يستطع أحد تأويلها تأويلا صحيحا سوى يوسف - عليه السلام - استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك فيقول { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ … } .