Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 50-57)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فقوله - سبحانه - { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ … } حكاية لما طلبه الملك فى ذلك الوقت من معاونيه فى شأن يوسف - عليه السلام - ، وفى الكلام حذف يفهم من المقام ، والتقدير وقال الملك بعد أن سمع من ساقيه ما قاله يوسف فى تفسير الرؤيا أحضروا لى يوسف هذا لأراه وأسمع منه ، وأستفيد من علمه . وهذا يدل - كما يقول الإِمام الرازى - على فضيلة العلم ، فإنه - سبحانه - جعل ما علمه ليوسف سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية ، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية . وقوله - سبحانه - { فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } بيان لما قاله يوسف - عليه السلام - لرسول الملك … أى فلما جاء رسول الملك إلى يوسف بأناة وإباء ارجع إلى ربك ، أى إلى سيدك الملك " فاسأله " قبل خروجى من السجن وذهابى إليه { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أى ما حالهن ، وما حقيقة أمرهن معى ، لأن الجميع أننى برئ ، وأننى نقى العرض طاهر الذيل . والمراد بالسؤال فى قوله { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ } الحث والتحريض على معرفة حقيقة أمر النسوة اللائى قطعن أيديهن … ولم يكشف له يوسف عن حقيقة أمرهن معه لزيادة تهييجه على البحث والتقصى إذ من شأن الإِنسان - خصوصا إذا كان - حاكما - أن يأنف من أن يسأل عن شئ مهم ، ثم لا يهتم بالإِجابة عنه . وقد آثر يوسف - عليه السلام - أن يكون هذا السؤال وهو فى السجن لتظهر الحقيقة خالصة ناصعة ، دون تدخل منه فى شأنها . وجعل السؤال عن النسوة اللائى قطعن أيديهن دون امرأة العزيز ، وفاء لحق زوجها ، واحترازا من مكرها ، ولأنهن كن شواهد على إقرارها بأنها قد راودته عن نفسه ، فقد قالت أمامهن بكل تبجح وتكشف { فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } واكتفى بالسؤال عن تقطيع أيديهن ، دون التعرض لكيدهن له ، سترا لهن ، وتنزها منه - عليه السلام - عن ذكرهن بما يسؤوهن . ولذا فقد اكتفى بالإِشارة الإِجمالية إلى كيدهن ، وفوض أمرهن إلى الله - تعالى - فقال { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } . أى إن ربى وحده هو العليم بمكرهن بى ، وكيدهن لى ، وهو - سبحانه - هو الذى يتولى حسابهن على ذلك . ولا شك فى امتناع يوسف - عليه السلام - عن الذهاب إلى الملك إلا بعد التحقيق فى قضيته ، يدل دلالة واضحة على صبره ، وسمو نفسه ، وعلو همته … ولقد أجاد صاحب الكشاف فى تعليله لامتناع يوسف عن الخروج من السجن للقاء الملك إلا بعد أن تثبت براءته فقال " إنما تأنى وتثبت يوسف فى إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة ، ليظهر براءة ساحته عما قذف به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده . ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا ما خلد فى السجن إلا لأمر عظيم ، وجرم كبير ، حق به أن يسجن ويعذب ، ويستكف شره . وفيه دليل على أن الاجتهاد فى نفى التهم ، واجب وجوب اتقاء الوقوف فى مواقفها " وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث فى فضل يوسف - عليه السلام - فقال ما ملخصه وقد وردت السنة بمدحه على ذلك - أى على امتناعه من الخروج من السجن حتى يتحقق الملك ورعيته من براءة ساحته ونزاهة عرضه - ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، إذ قال رب أرنى كيف تحيى الموتى ؟ قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبى ، ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن شديد ، ولو لبثت فى السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعى " . وروى الإِمام أحمد عن أبى هريرة فى قوله - تعالى - { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ … } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال " لو كنت أنا لأسرعت الإِجابة ، وما ابتغيت العذر " . وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترط أن يخرجونى . ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له ، حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم إلى الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر " . هذا ، وقوله - سبحانه - { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } حكاية لما فعله الملك بعد أن بلغه الرسول بما طلبه يوسف منه . وفى الكلام حذف يفهم من السياق ، والتقدير وبعد أن رجع رسول الملك إليه وأخبره بما قاله يوسف ، استجاب الملك لما طلبه يوسف منه ، فأحضر النسوة وقال لهن ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه . والخطب مصدر خطب يخطب ، ويطلق - غالبا - على الأمر المهم الذى يجعل الناس يتحدثون فيه كثيراً ، وجمعه خطوب . والمعنى بعد أن جمع الملك النسوة قال لهن ما الأمر الهام الذى حملكن فى الماضى على أن تراودن يوسف عن نفسه ؟ وهل وجدتن فيه ميلا إلى الاستجابة لكنَّ … " قال صاحب الظلال ما ملخصه " والخطب الأمر الجلل . … فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن ، وهو المعتاد فى مثل هذه الأحوال ، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه ، فهو يواجههن مقررا الاتهام ، ومشيرا إلى أمر لهن جلل … ومن هذا نعلم شيئاً بما دار فى حفل الاستقبال فى بيت الوزير ، وما قالته النسوة ليوسف ، وما لمحن به وأشرن إليه ، من الإِغراء الذى بلغ حد المراودة . ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى فى ذلك العهد الموغل فى التاريخ ، فالجاهلية هى الجاهلية دائماً ، وِأنه حيثما كان الترف ، وكانت القصور والحاشية ، كان التحلل والتميع والفجور الناعم الذى يرتدى ثياب الأرستقراطية " . وأمام هذه المواجهة التى واجههن بها الملك ، لم يملكن الإِنكار ، بل قلن بلسان واحد { حَاشَ للَّهِ } أى معاذ الله . { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ } قط ، وإنما الذى علمناه منه هو الاستعصام عن كل سوء . وهنا { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ } ويبدو أنها كانت حاضرة ، معهم عند الملك . { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } أى الآن ظهر الحق وانكشف انكشافا تاما بعد أن كان خافيا والفعل حصحص أصله حص ، كما قيل ، كبكب فى كب ، وهو مأخوذ من الحص بمعنى الاستئصال والإِزالة ، تقول فلان حص شعره إذا استأصله وأزاله فظهر ما كان خافيا من تحته … ثم أضافت إلى ذلك قولها { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } أى أنا التى طلبت منه ما طلبت { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فى قوله { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } وهكذا يشاء الله - تعالى - أن تثبت براءة يوسف على رءوس الأشهاد ، بتلك الطريقة التى يراها الملك ، وتنطق بها امرأة العزيز ، والنسوة اللائى قطعن أيديهن . قال صاحب الكشاف " ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة ، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشئ مما قذفنه به لأنهن خصومة ، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال " - إذ الفضل ما شهدت به الأعداء - . ثم وصلت امرأة العزيز حديثها فقالت { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } . أى ذلك الذى قلته واعترفت به على نفسى من أنى راودته عن نفسه ، إنما قلته ليلعم يوسف أنى لم أخنه فى غيبته ، ولم أقل فيه شيئاً يسوؤه بعد أن فارقنى ، ولبث بعيدا عنى فى السجن بضع سنين ، وإنما أنا أقرر أمام الملك وحاشيته بأنه من الصادقين … وإنما قررت ذلك لأن الله - تعالى - لا يهدى كيد الخائنين ، أى لا ينفذ كيدهم ولا يسدده ، بل يفضحه ويزهقه ولو بعد حين من الزمان . لذا فأنا التزمت الأمانة فى الحديث عنه ، وابتعدت عن الخيانة ، لأن الله - تعالى - لا يرضاها ولا يقبلها . فأنت ترى أن هذه المرأة التى شهدت على نفسها شهادة لا تبالى بما يترتب عليها بشأنها ، قد عللت شهادتها هذه بعلتين إحداهما كراهتها أن تخونه فى غيبته بعد أن فقد الدفاع عن نفسه وهو فى السجن . . وثانيتهما علمها بأن الله - تعالى - لا يهدى كيد الخائنين ولا يسدده ، وإنما يبطله ويزهقه … ثم أضافت إلى كل ذلك قولها { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أى ومع أنى أعترف بأنه من الصادقين ، وأعترف بأنى لم أخنه بالغيب ، إلا أنى مع كل ذلك لا أبرئ نفسى ولا أنزهها عن الميل إلى الهوى ، وعن محاولة وصفه بما هو برئ منه ، فأنا التى قلت لزوجى فى حالة دهشتى وانفعالى الشديد ، { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وما حملنى على هذا القول إلا هواى وشهواتى ، ونفسى إن النفس البشرية لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء إلا نفسا رحمها الله وعصمها من الزلل والانحراف ، كنفس يوسف - عليه السلام - . وجملة { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل لما قبلها ، أى إن ربى كثير الغفران وكثير الرحمة ، لمن يشاء أن يغفر له ويرحمه من عباده . والذى يتأمل هذا الكلام الذى حكاه القرآن عن امرأة العزيز ، يراه زاخرا بالصراحة التى ليس بعدها صراحة ، وبالمشاعر والانفعالات الدالة على احترامها ليوسف الذى خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، رغم الإِغراءات المصحوبة بالترغيب والترهيب ، ويبدو لنا - والله أعلم - أن هذا الكلام ما قالته امرأة العزيز ، إلا بعد أن استقرت عقيدة الإِيمان التى آمن بها يوسف فى قلبها ، وبعد أن رأت فيه إنسانا يختلف فى استعصامه بالله وفى سمو نفسه ، عن غيره من الناس الذين رأتهم . هذا ، ويرى كثير من المفسرين أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } وأن قوله - تعالى - بعد ذلك { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ … } إلى قوله - تعالى - { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هو من كلام يوسف - عليه السلام - ، فيكون المعنى وذلك ليعلم " أى العزيز " أنى لم أخنه ، فى أهله { بالغيب } أى في غيبته { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِين } من النساء والرجال ، بل يبطل هذا الكيد ويفضحه . { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } أى ولا أنزهها عن السوء ، وهذا من باب التواضع منه - عليه السلام - { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } أى إن هذا الجنس من الأنفس البشرية ، شأنه الأمر بالسوء والميل إلى الشهوات . { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء . { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من خلقه . والذى نراه أن الرأى الأول الذى سرنا عليه هو الجدير بالقبول ، لأنه هو المناسب لسياق الآيات من غير تكلف ، ولأنه لا يؤدى إلى تفكك الكلام وانقطاع بعضه عن بعض ، بخلاف الرأى الثانى الذى يرى أصحابه أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فإنه يؤدى إلى تفكك الكلام ، وعدم ارتباط بعضه ببعض ، فضلا عن أن وقائع التاريخ لا تؤيده ، لأن يوسف - عليه السلام - كان فى السجن عندما أحضر الملك النسوة وقال لهن { مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ . … } وعندما قالت امرأة العزيز أمام الملك وأمامهن { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ … } إلى قوله - تعالى - { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . ومن المفسرين الذين أيدوا الرأى الأول الإِمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ … } نقول إنما اعترفت بهذا على نفسى ، بأنى راودت هذا الشاب فامتنع ، { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ … } تقول المرأة ولست أبرئ نفسى ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء . { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } أى من عصمه الله - تعالى - … ثم قال " وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصه ومعانى الكلام . لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف - عليه السلام - عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك " . وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن القسم الأول من حياة يوسف - عليه السلام - القسم الذى تعرض خلاله لألوان من المحن والآلام ، بعضها من إخوته ، وبعضها من امرأة العزيز ، وبعضها من السجن ومرارته … ثم بدأت بعد ذلك فى الحديث عن الجانب الثانى من حياته عليه السلام . وهو جانب الرخاء والعز والتمكين فى حياته ، فقال - تعالى - { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي … } وفى الكلام إيجاز بالحذف ، والتقدير وبعد أن انكشفت للملك براءة يوسف - عليه السلام - انكشافا تاما ، بسبب ما سمعه عنه من النسوة ومن امرأة العزيز ، وبعد أن سمع تفسيره للرؤيا وأعجب به ، كما أعجب بسمو نفسه وإبائه … بعد كل ذلك قال الملك لخاصته ائتونى بيوسف هذا ، ليكون خالصا لنفسى ، وخاصا بى فى تصويف أمورى ، وكتمان أسرارى ، وتسيير دفة الحكم فى مملكتى . والسين والتاء فى قوله " أستخلصه " للمبالغة فى الخلوص له ، فهما للطلب كما فى استجاب ، والاستخلاص طلب خلوص الشئ من شوائب الشركة . فكأن الملك قد شبه يوسف - عليه السلام - بالشئ النفيس النادر ، الذى يجب أن يستأثر به الملك دون أن يشاركه فيه أحد سواه . والفاء فى قوله { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } معطوفة على محذوف يفهم من السياق . والضمير المنصوب فى " كلَّمه " يعود على الملك - على الراجح - . والمراد باليوم الزمان الذى حدث فيه التخاطب بين الملك ويوسف . و { مكين } صفة مشبهة من الفعل مكن - بضم الكاف - ، بمعنى صاحب مكانة ومرتبة عظيمة ، يقال مكن فلان مكانة إذا ارتفعت منزلته ، ويقال مكنت فلانا من هذا الشئ إذا جعلت له عليه سلطانا وقدرة . { أمين } بزنة فعيل بمعنى مفعول ، أى مأمون على ما نكلفك به ، ومحل ثقتنا . والمعنى وقال الملك لجنده ائتونى بيوسف هذا أستخلصه لنفسى فأتوه به إلى مجلسه . فازداد حب الملك له وتقديره إياه وقال له إنك منذ اليوم عندنا صاحب الكلمة النافذة ، والمنزلة الرفيعة ، التى تجعلنا نأتمنك على كل شئ فى هذه المملكة ، وتلك المقالة من الملك ليوسف ، هى أولى بشائر عاقبة الصبر وعزة النفس ، وطهارة القلب ، والاستعصام بحبل الله المتين … وهنا طلب يوسف - عليه السلام - من الملك بعزة وإباء أن يجعله فى الوظيفة التى يحسن القيام بأعبائها { قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } والخزائن جمع خزانة - بكسر الخاء وهى اسم للمكان الذى يخزن فيه الشئ ، والمراد بالأرض أرض مصر . أى قال يوسف - عليه السلام - للملك اجعلنى - أيها الملك - المتصرف الأول فى خزائن أرض مملكتك ، المشتملة على ما يحتاج إليه الناس من أموال وأطعمة ، لأنى شديد الحفظ لما فيها ، عليم بوجوه تصريفها فيما يفيد وينفع … فأنت ترى أن يوسف - عليه السلام - لم يسأل الملك شيئا لنفسه من أعراض الدنيا ، وإنما طلب منه أن يعينه فى منصب يتمكن بواسطته من القيام برعاية مصالح الأمة ، وتدبير شئونها … لأنها مقبلة على سنوات عجاف ، تحتاج إلى خبرة يوسف وأمانته وكفاءته وعلمه … قال صاحب الكشاف " وصف يوسف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى - وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه فى ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله - لا لحب الملك والدنيا " وقال القرطبى ما ملخصه " ودلت الآية - أيضاً - على جواز أن يطلب الإِنسان عملاً يكون له أهلاً . فإن قيل فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإِمارة … فالجواب أولاً أن يوسف - عليه السلام - إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه فى العدل والإِصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم ، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه ، فإنه لم يكن هناك غيره … الثانى أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم ، وإن كان كذلك ، ولم يقل إنى جميل مليح … وإنما قال { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال . الثالث إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه ، وصار ذلك مستثنى من قوله - تعالى - { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ … } والخلاصة أن يوسف - عليه السلام - إنما قال ما قال للملك ، وطلب ما طلب منه ، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه فى ذلك الوقت وفى تلك الظروف ، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لأجل منفعة شخصية لنفسه … وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله - تعالى - الذى أعطاه هذه الصفات الكريمة ، والمناقب العالية ، وليس من باب تزكية النفس المحظورة . هذا ، وقوله - سبحانه - { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ … } بيان لسنة الله - تعالى - فى خلقه ، من كونه - سبحانه - لا يضيع أجر الصابرين المحسنين أى ومثل هذا التمكين العظيم . مكنا ليوسف فى أرض مصر ، بعد أن مكث فى سجنها بضع سنين ، لا لذنب اقترفه ، وإنما لاستعصامه بأمر الله . وقوله { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } تفصيل للتمكين الذى منحه الله - تعالى - ليوسف فى أرض مصر ، والتبوأ اتخاذ المكان للنزول به . يقال بوأ فلان فلانا منزلاً . أى مكنه منه وأنزله به أى ومثل هذا التمكين العظيم ، مكنا ليوسف فى أرض مصر ، حيث هيأنا له أن يتنقل فى أماكنها ومنازلها حيث يشاء له التنقل ، دون أن يمنعه مانع من الحلول فى أى مكان فيها . فالجملة الكريمة كناية عن قدرته على التصرف والتنقل فى جميع أرض مصر ، كما يتصرف ويتنقل الرجل فى منزله الخاص . وقوله { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ … } بيان لكمال قدرته ونفاذ إرادته - سبحانه - أى نصيب برحمتنا وفضلنا وعطائنا من نشاء عطاءه من عبادنا بمقتضى حكمتنا ومشيئتنا . { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } الذين يتقنون أداء ما كلفهم الله بأدائه ، بل نوفيهم أجورهم على إحسانهم فى الدنيا قبل الآخرة إذا شئنا ذلك . { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } وأبقى { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله - إيماناً حقا { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } خالقهم - عز وجل - فى كل ما يأتون وما يذرون ، بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه . وهكذا كافأ الله - تعالى - يوسف على صبره وتقواه وإحسانه ، بما يستحقه من خير وسعادة فى الدنيا والآخرة . ثم تطوى السورة بعد ذلك أحداثاً تكل معرفتها إلى فهم القارئ وفطنته ، فهى لم تحدثنا - مثلاً - عن الطريقة التى اتبعها يوسف فى إدراته لخزائن أرض مصر ، اكتفاء بقوله { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } للدلالة على كفايته وأمانته . كذلك لم تحدثنا عن أحوال الناس فى السنوات السبع العجاف ، وفى السنوات الخضر لأن هذا مقرر ومعروف فى دنيا الناس . كذلك لم تحدثنا عن صلة الملك وحاشيته بيوسف ، بعد أن صار أميناً على خزائن الأرض ، بل أفسحت المجال كله للحديث عن يوسف ، إنزالاً للناس منازلهم ، إذ هو صاحب التفسير الصحيح لرؤيا الملك ، وصاحب الأفكار الحكيمة التى أنقذت الأمة من فقر سبع سنوات شداد ، وصاحب الدعوة إلى وحدانية الله - تعالى - وإخلاص العبادة له ، بين قوم يشركون مع الله فى العبادة آلهة أخرى . لم تحدثنا السورة الكريمة عن كل ذلك ، فى أعقاب حديثها عن تمكين الله - تعالى - ليوسف فى الأرض ، وإنما انتقلت بنا بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن لقاء يوسف بإخوته ، وعما دار بينه وبينهم من محاورات ، وعن إكرامه لهم … قال تعالى { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ … }