Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 42-52)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإِمام القرطبى " قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ … } هذا تسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عجبه من أفعال المشركين ، ومخالفتهم دين إبراهيم ، أى اصبر كما صبر إبراهيم ، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم ، بل سنة الله إمهال العصاة مدة . قال ميمون بن مهران هذا وعيد للظالم . وتعزية للمظلوم " . والخطاب { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } ، يجوز أن يكون للنبى - صلى الله عليه وسلم - لقصد زيادة تثبيته على الحق ، ودوامه على ذلك ، ويجوز أن يكون لكل من يصلح للخطاب . والغفلة سهر يعترى الإِنسان بسبب قلة تيقظه وانتباهه ، ولا شك أن ذلك محال فى حق الله - تعالى - ، لذا وجب حمل المعنى على أن المراد بالغفلة هنا ترك عقاب المجرمين . والمراد بالظالمين كل من انحرفوا عن طريق الحق ، واتبعوا طريق الباطل ، ويدخل فيهم دخولا أوليا مشركو مكة ، الذين أبوا الدخول فى الإِسلام الذى جاءهم به النبى - صلى الله عليه وسلم - . وقوله { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } استئناف وقع تعليلا للنهى السابق . وقوله { تشخيص } من الشخوص بمعنى رفع البصر بدون تحرك يقال شخص بصر فلان - من باب خضع - فهو شاخص ، إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف من شدة الخوف والفزع . والمعنى ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن الله تعالى - تارك عقاب هؤلاء الظالمين ، الذين كذبوك فى دعوتك ، كلا لن يترك الله - تعالى - عقابهم ، وإنما يؤخره ليوم هائل شديد ، هو يوم القيامة الذى ترتفع فيه أبصار أهل الموقف ، فلا تطرف أجفانهم من هول ما يرونه . ثم بين - سبحانه - بعض أحوال هؤلاء الظالمين فى هذا اليوم العظيم فقال - تعالى - { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } . والإِهطاع السير السريع . يقال أهطع فلان فى مشيه فهو يهطع إهطاعا إذا أسرع فى سيره بذلة واضطراب . و { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أى رافعيها ، يقال أهطع فلان رأسه ، إذا نصبه ورفعه دون أن يلتفت يمينا أو شمالا . وقيل ، إقناع الرءوس طأطأتها وانتكاسها . الأفئدة جمع فؤاد ، والمراد بها القلوب . والمعنى أن هؤلاء الظالمين يخرجون من قبورهم فى هذا اليوم مسرعين إلى الداعى بذلة واستكانة ، كإسراع الأسير الخائف ، رافعى رءوسهم إلى السماء مع إدامة النظر بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شئ . { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أى لا تتحرك أجفان عيونهم ، بل تبقى مفتوحة بدون حراك لهول ما يشاهدونه فى هذا اليوم العصيب . { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } أى وقلوبهم فارغة خالية عن الفهم ، بحيث لا تعى شيئا من شدة الفزع والدهشة ، ومنه قولهم فى شأن الأحمق والجبان قلبهما هواء ، أى لا رأى فيه ولا قوة . وأفرد هواء وإن كان خبرا عن جمع لأنه فى معنى فارغة أو خالية . قال - تعالى - { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً … } أى خاليا من كل شئ إلا من التفكير فى شأن مصير ابنها موسى - عليه السلام - . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء الظالمين فى هاتين الآيتين بجملة من الصفات الدالة على فزعهم وحيرتهم . وصفهم أولا بشخوص الأبصار ، ووصفهم ثانيا بالإِسراع إلى الداعى فى ذلة وانكسار ، ووصفهم ثالثا برفع رءوسهم فى حيرة واضطراب ، ووصفهم رابعا بانفتاح عيونهم دون أن تطرف من شدة الوجل ، ووصفهم خامسا بخلو قلوبهم من إدراك أى شئ بسبب ما اعتراهم من دهشة ورعب . وقوله - سبحانه - { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } من باب التشبيه البليغ الذى حذفت فيه الأداة ، والتقدير وقلوبهم كالهواء فى الخلو من الإدراك من شدة الهول . ثم أمر الله تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحذر الناس من أهوال هذا اليوم ، وأن يقدموا العمل الصالح الذى ينفعهم فقال - تعالى - { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ … } والإِنذار التخويف من ارتكاب شئ تسوء عاقبته . والمراد بالناس جميعهم ، وقيل المراد بهم الكفار . ويبدوا أن الأول أرجح لأن الإنذار يكون للمؤمن كما يكون للكافر ، إلا أن المؤمن يستجيب للنصح فينجو من العقاب ، والكافر لا يستجيب فيحل عليه العذاب . والمعنى وخوف - أيها الرسول الكريم - الناس من أهوال يوم القيامة ، ومرهم بأن يستعدوا له بالإِيمان والعمل الصالح ، من قبل أن يحل عذابه بالظالمين منهم فيقولون يا ربنا أعدنا إلى الحياة مرة أخرى ، وأخر أعمارنا وحسابنا إلى وقت قريب ، حتى نستطيع فيه أن نستجيب لدعوتك التى تأمرنا بإخلاص العبادة لك ، وأن نتبع رسلك فى كل ما أمرونا به ونتدارك ما فرطنا فيه من أعمال الدنيا . قال الجمل " وقوله { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ … } مفعول ثان لأنذر على حذف المضاف ، أى أنذرهم أهواله وعظائمه ، فهو مفعول به لا مفعول فيه ، إذ لا إنذار فى ذلك اليوم ، وإنما الإنذار يقع فى الدنيا … " وإنما اقتصر - سبحانه - على ذكر إتيان العذاب فى هذا اليوم . مع كون الثواب يحصل فيه - أيضا - لأن المقام مقام تهديد وزجر ، فكان من المناسب ذكر أهواله وشدائده . وجمع لفظ الرسل فقال { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } للإِشارة إلى أن الرسل جميعا قد جاءوا برسالة واحدة فى جوهرها وأصولها ، وهى إخلاص العبادة لله - تعالى - ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق . وفى معنى هذه الآية الكريمة جاءت آيات كثيرة ومنها قوله - تعالى - { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ . لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وقوله - تعالى - { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } وجملة { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } مقول لقول محذوف . والزوال الانتقال من مكان إلى آخر ، أو من حال إلى حال ، والمراد به هنا انتقالهم من قبورهم إلى الحساب يوم القيامة . والمعنى أن هؤلاء الظالمين عندما يقولون يا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . يقال لهم من قبل الله والملائكة على سبيل التوبيخ والتبكيت أو لم تكونوا - أيها الظالمون - تقسمون بالأيمان المغلظة فى الدنيا ، بأنكم بعد موتكم ستبقون فى قبوركم إلى أن تبلى أجسادكم ، وأنه ليس بعد ذلك من بعث ولا حساب ، ولا ثواب ولا عقاب . قال - تعالى - { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ … } فالجملة الكريمة تحكى رفض مطالبهم بأبلغ أسلوب ، حتى يزدادوا حزنا على حزنهم ، وحسرة على حسرتهم . وجملة { مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } جواب القسم . وقوله - سبحانه - { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ … } معطوف على " أقسمتم … " . والمراد بالسكنى الحلول فى أماكن الظالمين لوقت يكفى للاتعاظ والاعتبار وكفار قريش كانوا يمرون بديار قوم ثمود فى رحلتهم إلى الشام ، وكانوا يحطون رحالهم هناك ، كما كانوا يمرون على ديار قوم عاد فى رحلتهم إلى اليمن . والمعنى لقد أقسمتم - أيها الضالون - بأنكم مالكم من انتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة ، وحللتم فى مساكن القوم الظالمين . { وتبين لكم } عن طريق المشاهدة وتواتر الأخبار . { كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } من الإِهلاك والتدمير بسبب كفرهم وفسوقهم . { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } بما فعلوه وبما فعلناه بهم ، عن طريق كتابنا ، وعلى لسان رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - . وكان من الواجب عليكم بعد كل ذلك أن تعتبروا وتتعظوا وتثوبوا إلى رشدكم ، وتدخلوا فى الإِسلام ، ولكنكم كنتم قوما فاسقين ، سائرين على نهج هؤلاء المهلكين فى الكفر والفجور ، فاليوم ذوقوا العذاب بسبب جحودكم للحق فى الدنيا . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية " أى قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم . قال - تعالى - { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من ألوان عراقتهم فى الكفر والجحود فقال { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } . والمكر تبييت فعل السوء بالغير وإضماره ، مع إظهار ما يخالف ذلك . وانتصب " مكرهم " الأول على أنه مفعول مطلق لمكروا ، لبيان النوع ، والإِضافة فيه من إضافة المصدر لفاعله . أى أن هؤلاء الظالمين جاءتهم العبر فلم يعتبروا ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم مكروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مكرهم العظيم الذى استفرغوا فيه جهدهم لإِبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، والذى كان من مظاهره محاولتهم قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وقوله { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } أى وفى علم الله - تعالى - الذى لا يغيب عنه شئ مكرهم ، وسيجازيهم عليه بما يستحقونه من عذاب مهين . وقوله - تعالى { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } قرأ الجمهور { لتزول } - بكسر اللام على أنها لام الجحود والفعل منصوب بعدها . بأن مضمرة وجوبا ، و " إن " فى قوله { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } نافية بمعنى ما . والمعنى ولقد مكر هؤلاء الكافرون مكرهم الشديد الذى اشتهروا به ، وفى علم الله - تعالى - مكرهم ، وما كان مكرهم - مهما عظم واشتد - لتنتقل منه الجبال من أماكنها ، لأنه لم يتجاوز أمثالهم ممن دمرناهم تدميرا . وعلى هذه القراءة يكون المقصود بهذه الجملة الكريمة ، الاستخفاف بهم وبمكرهم ، وبيان أن ما يضمرونه من سوء ليس خافيا على الله - تعالى - ولن يزلزل المؤمنين فى عقيدتهم ، لأن إيمانهم كالجبال الرواسى فى ثباته ورسوخه . وقرأ " السكائى " { لِتَزُولَ } - بفتح اللام على أنها لام الابتداء ، ورفع الفعل بعدها - و " إن " مخففة من الثقيلة . فيكون المعنى وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم ، وإن مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها ، لو كان لها أن تزول أو تنقلع . وعلى هذه القراءة يكون المراد بهذه الجملة الكريمة التعظيم والتهويل من شأن مكرهم ، وأنه أمر شنيع أو شديد فى بابه ، كما فى قوله - تعالى - { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً . لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً . تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً … } وقوله - سبحانه - { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ … } تفريع على ما تقدم من قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ … } وتأكيد لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولتثبيت يقينه . وقوله { مخلف } اسم فاعل من الأخلاف ، بمعنى عدم الوفاء بالوعد وهو مفعول ثان لتحسب والمراد بالوعد هنا ما وعد الله - تعالى - به أنبياءه ورسله من نصره إياهم ، ومن جعل العاقبة لهم . قال - تعالى - { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } وقال - تعالى - { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } والمعنى لقد وعدناك - أيها الرسول الكريم - بعذاب الظالمين ، وأخبرناك بجانب من العذاب الذى سيحل بهم يوم القيامة ، وما دام الأمر كذلك فاثبت على الحق أنت وأتباعك ، وثق بأن الله - تعالى - لن يخلف ما وعدك به من نصر على أعدائك . قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا قيل مخلف رسله وعده ، ولم قدم المفعول الثانى لمخلف - وهو وعده - على المفعول الأول - وهو رسله - ؟ قلت قدم الوعد ليعلم أنه - سبحانه - لا يخلف الوعد أصلا ، كقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلفه مع رسله الذين هم خيرته وصفوته من خلقه … " ويرى صاحب الانتصاف أن تقدم المفعول الثانى هنا ، إنما هو للإِيذان بالعناية به ، لأن الآية فى سياق الإِنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله - تعالى - به على ألسنة رسله ، فكان المهم فى هذه الحال تقديم ذكر الوعيد على غيره . وقوله - سبحانه - { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } تعليل للنهى عن الحسبان المذكور . والعزيز الغالب على كل شئ . أى إن الله - تعالى - غالب على كل شئ ، وذو انتقام شديد من أعدائه لأنهم تحت قدرته ، وما دام الأمر كذلك فإخلاف الوعد منتف فى حقه - تعالى - . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض العلامات التى تدل على قرب قيام الساعة فقال - تعالى - { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } . والظرف { يوم } متعلق بمحذوف تقديره اذكر . وقوله { تبدل } من التبديل بمعنى التغيير ، وهذا التغيير والتبديل لهما قد يكون فى ذواتهما كما فى قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } وقد يكون فى صفاتهما كقولك " بدلت الحلقة خاتما " وقد يكون فيهما معا وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال " وقال الإمام أحمد ، حدثنا محمد بن عدى ، عن داود ، عن الشعبى ، عن مسروق ، " عن عائشة أنها قالت أنا أول الناس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ … } قالت قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال على الصراط " . وفى رواية " أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها لقد سألتنى عن شئ ما سألنى عنه أحد من أمتى ، ذاك أن الناس - يومئذ يكونون - على جسر جهنم " . والمعنى اذكر - أيها العاقل ، لتتعظ وتعتبر يوم يتغير هذا العالم المعهود بعالم آخر جديد ، يأتى به الله - تعالى - على حسب إرادته ومشيئته ويوم يخرج الخلائق جميعا من قبورهم ليستوفوا جزاءهم ، وليجازوا على أعمالهم . من الله - تعالى - الواحد الأحد ، الذى قهر كل شئ وغلبه ، ودانت له الرقاب ، وخضعت له الألباب . وختمت الآية الكريمة بهذين الوصفين لله - تعالى - للرد على المشركين الذين جعلوا مع الله آلهة أخرى يشركونها معه فى العبادة ، ويتوهمون أن هذه الآلهة سوف تدافع عنهم يوم القيامة . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما سيحل بالمجرمين يوم القيامة من عذاب عنيف مهين يناسب إجرامهم وكفرهم فقال { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } وقوله { مقرنين } جمع مقرن ، وهو من جمع مع غيره فى قرن ووثاق واحد يربطان به . والأصفاد جمع صفد - بفتح الفاء - وهو القيد الذى يوضع فى الرجل ، أو الغل - بضم الغين - الذى تضم به اليد والرجل إلى العنق . والسرابيل جمع سربال وهو القميص . والقطران مادة حارة نتنة شديدة الاشتعال تصلى بها جلود الإِبل الجربى ، ليزول الجرب منها . أى وترى - أيها العاقل - المجرمين فى هذا اليوم العسير عليهم { مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } أى قد قرن بعضهم مع بعض ، وضم كل قرين إلى من يشبهه فى الكفر وفى الفسوق وفى العصيان ، وقد قيدوا جميعا بالأصفاد والقيود والأغلال . قال - تعالى - { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ … } أى وأمثالهم من العصاة ، فعابد الصنم يكون مع عابد الصنم ، وشارب الخمر مع شارب الخمر . ويصح أن يكون اقترانهم مع الشياطين كما قال - تعالى - { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } هذا عن مشهد المجرمين وهم مقرنون فى الأصفاد ، وهو مشهد مهين مذل ولكنه ليس كافيا فى عقابهم ، بل يضاف إليه أن ملابسهم من قطران ، ليجتمع لهم لذعته ، وقبح لونه ، ونتن ريحه ، وسرعة اشتعاله ، وفوق كل ذلك فإن وجوههم تعلوها وتحيط بها النار التى تستعر بأجسادهم المسربلة بالقطران . وخص - سبحانه الوجوه بغشيان النار لها ، لكونها أعز موضع فى البدن وأشرفه . وقوله - سبحانه - { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ … } متعلق بمحذوف ، والتقدير فعل ما فعل - سبحانه - من إثابة المؤمنين ، ومعاقبة المجرمين ، ليجازى كل نفس بما تستحقه من خير أو شر ، دون أن يظلم ربك أحدا . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أى إنه - سبحانه - سريع المحاسبة لعباده ، لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، بل جميع الخلق بالنسبة لقدرته كالنفس الواحدة . قال - تعالى - { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ … } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } . واسم الإشارة " هذا " يعود إلى ما أنزله الله - تعالى - من قرآن فى هذه السورة وفى غيرها . و { بلاغ } مصدر بمعنى التبليغ . والإنذار التخويف من سوء عاقبة ارتكاب الشرور والآثام . والألباب جمع لب وهو الخالص من كل شئ ، والمراد بها العقول . أى هذا القرآن الكريم الذى أنزلناه عليك يا محمد ، فيه التبليغ الكافى لهداية الناس ، وفيه ما يخوفهم من سوء عاقبة الكفر والفسوق والعصيان ، وفيه ما يجعلهم يعلمون عن طريق توجيهاته وهداياته ودلائله ، أن الله - تعالى - واحد لا شريك له ، وفيه ما يجعل أصحاب العقول السليمة يتعظون ويعتبرون ، فيترتب على ذلك سعادتهم فى الدنيا والآخرة . وخص - سبحانه - بالتذكر أولى الألباب ، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداية القرآن الكريم ، أما غيرهم فهم كالأنعام بل هم أضل . وقد رتب - سبحانه - فى هذه الآية الكريمة ، وسائل الدعوة إلى الحق ترتيبا عقليا حكيما ، فبدأ بالصفة العامة وهى التبليغ ، ثم ثنى بما يعقب ذلك من إنذار وتخويف ، ثم ثلث بما ينشأ عنهما من العلم بوحدانية الله - تعالى - ثم ختم الثناء على أصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بما يسمعون وبما يبصرون . قال الإِمام الرازى " هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإِنسان ، ولا منقبة له ، إلا بسبب عقله ، لأنه - تعالى - بين أنه إنما أنزل هذه الكتب ، وإنما بعث الرسل ، لتذكير أولى الألباب … " .