Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 1-15)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سورة الحجر من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى { الر } . وقد بينا - بشئ من التفصيل - عند تفسيرنا لسورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف … آراء العلماء فى هذه الحروف التى افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم . وقلنا ما خلاصته من العلماء من يرى أن المعنى المقصود منها غير معروف لأنها من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه … ومنهم من يرى أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه ، بل هى أسماء للسور التى افتتحت بها … أو هى حروف مقطعة بعضها من أسماء الله ، وبعضها من صفاته … ثم قلنا ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض السور للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والحكمة مَرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل . وفضلاً عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة ، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكماً وهدايات قد تكون سبباً فى استجابتهم للحق ، كما استجاب صالحو الجن الذين حكى الله - تعالى - عنهم أنهم عندما استمعوا إلى القرآن قالوا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً … } واسم الإِشارة { تلك } يعود إلى الآيات التى تضمنتها هذه السورة ، أو إلى جميع الآيات القرآنية التى نزلت قبل ذلك . والمراد بالكتاب القرآن الكريم ، ولا يقدح فى هذا ، ذكر لفظ القرآن بعده ، لأنه - سبحانه - جمع له بين الاسمين تفخيماً لشأنه ، وتعظيماً لقدره . و { مبين } اسم فاعل من أبان الذى هو بمعنى بان ، مبالغة فى الوضوح والظهور . قال صاحب الصحاح يقال " بان الشئ يبين بيانا ، أى اتضح ، فهو بين وكذا أبان الشئ فهو مبين … " . والمعنى تلك - أيها الناس - آيات بينات من الكتاب الكامل فى جنسه ، ومن القرآن العظيم الشأن ، الواضح فى حكمه وأحكامه ، المبين فى هدايته وإعجازه فأقبلوا عليها بالحفظ لها ، وبالعمل بتوجيهاتها ، لتنالوا السعادة فى دنياكم وآخرتكم . قال الآلوسى " وفى جمع وصفى الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه ، حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإِلهية فكأنه كلها ، وبالثانى إلى كونه ممتازاً عن غيره ، نسيجا وحده ، بديعاً فى بابه ، خارجاً عن دائرة البيان ، قرآناً غير ذى عوج . . " . ثم بين - سبحانه - أن الكافرين سيندمون بسبب كفرهم فى وقت لا ينفع فيه الندم ، فقال - تعالى - { رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } . قال الشوكانى ما ملخصه قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من { ربما } ، وقرأ الباقون بتشديدها … وأصلها أن تستعمل فى القليل وقد تستعمل فى الكثير . قال الكوفيون أى يود الكفار فى أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين . وقيل " هى هنا للتقليل ، لأنهم ودوا ذلك فى بعض المواضع لا فى كلها لشغلهم بالعذاب … " . وقد حاول بعض المفسرين الجمع بين القولين فقال من قال بأن { ربما } هنا للتكثير نظر إلى كثرة تمنيهم أن لو كانوا مؤمنين ، ومن قال بأنها للتقليل نظر إلى قلة زمان إفاقتهم من العذاب بالنسبة إلى زمان دهشتهم منه ، وهذا لا ينافى أن التمنى يقع كثيراً منهم فى زمن إفاقتهم القليل ، فلا تخالف بين القولين . والمعنى ود الذين كفروا عندما تنكشف لهم الحقائق ، فيعرفون أنهم على الباطل ، وأن المؤمنين على الحق ، أن لو كانوا مسلمين ، حتى ينجوا من الخزى والعقاب . ودخلت { رب } هنا على الفعل المضارع { يود } مع اختصاصها بالدخول على الفعل الماضى ، للإِشارة إلى أن أخبار الله - تعالى - بمنزلة الواقع المحقق سواء أكانت للمستقبل أم لغيره . قال صاحب الكشاف " فإن قلت لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضى ؟ قلت لأن المترقب فى أخبار الله - تعالى - بمنزلة الماضى المقطوع به فى تحققه ، فكأنه قيل " ربما ود الذين كفروا … " " . و { لو } فى قوله { لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } يصح أن تكون امتناعية ، وجوابها محذوف ، والتقدير لو كانوا مسلمين لسروا بذلك . ويصح أن تكون مصدرية ، والتقدير ود الذين كفروا كونهم مسلمين . وعلى كلا المعنيين فهى مستعملة فى التمنى الذى هو طلب حصول الأمر الممتنع الحصول . وقال - سبحانه - { لو كانوا … } بفعل الكون الماضى ، للإِشعار بأنهم يودون الدخول فى الإِسلام ، بعد مضى وقت التمكن من الدخول فيه . وعبر - سبحانه - عن متمناهم بالغيبة { كانوا } ، نظراً لأن الكلام مسوق بصدد الإِخبار عنهم ، وليس بصدد الصدور منهم ، ولو كان كذلك لقيل لو كنا مسلمين . هذا ، وللمفسرين أقوال فى الوقت الذى ود فيه الكافرون أن لو كانوا مسلمين ، فمنهم من يرى أن ودادتهم هذه تكون فى الدنيا ، ومنهم من يرى أنها تكون عند الموت ، ومنهم من يرى أنها تكون عند الحساب ، وعند عفو الله عن عصاة المؤمنين . والحق أن هذه الودادة تكون فى كل موطن يعرف فيه الكافرون بطلان كفرهم ، وفى كل وقت ينكشف لهم فيه أن الإِسلام هو الدين الحق . فهم تمنوا أن لو كانوا مسلمين فى الدنيا ، عندما رأوا نصر الله لعباده المؤمنين ، فى غزوة بدر وفى غزوة الفتح وفى غيرهما ، فعن ابن مسعود - رضى الله عنه - " ود كفار قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر الله للمسلمين " . وهم تمنوا ذلك عند الموت كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ … } وهم يتمنون ذلك عندما يعرضون على النار يوم القيامة . قال - تعالى - { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وهم يتمنون ذلك عندما يرون عصاة المؤمنين ، وقد أخرجهم الله - تعالى برحمته من النار . وقد ذكر الإِمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الدالة على ذلك منها ما أخرجه الطبرانى عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ناساً من أهل " لا إله إلا الله " يدخلون النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى ما أغنى عنكم قولكم " لا إله إلا الله " وأنتم معنا فى النار ؟ قال فيغضب الله لهم ، فيخرجهم ، فيلقيهم فى نهر الحياة فيبرأون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ، فيدخلون الجنة . ويسمون فيها الجهنميين " . فقال رجل يا أنس ، أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " نعم ، أنا سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول هذا . قال بعض العلماء وأقوال العلماء فى هذا الآية راجعة إلى شئ واحد ، لأن من يقول إن الكافر إذا احتضر تمنى أن لو كان مسلماً ، ومن يقول إنه إذا عاين النار تمنى أن لو كان مسلماً … كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقية ندموا على الكفر وتمنوا أنهم لو كانوا مسلمين . وفى هذه الآية ما فيها من تثبيت المؤمنين ، ومن تبشيرهم بأنه على الحق ، ومن حض للكافرين على الدخول فى الإِسلام قبل فوات الأوان ، ومن تحذير لهم من سوء عاقبة الكفر والطغيان . ثم أمر - سبحانه - الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يذرهم فى طغيانهم يعمهون ، بعد أن ثبت أنهم قوم لا ينفع فيهم إنذار فقال - تعالى - { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } . وذر فعل أمر بمعنى اترك ، ومضارعه يذر ، ولا يستعمل له ماض إلا فى النادر ، ومن هذا النادر ما جاء فى الحديث الشريف " ذروا الحبشة ما وذرتكم " . و { يتمتعوا } من المتاع بمعنى الانتفاع بالشئ بتلذذ وعدم نظر إلى العواقب . { ويلههم } من الانشغال عن الشئ ونسيانه ، يقال فلان ألهاه كذا عن أداء واجبه ، أى شغله . والأمل الرغبة فى الحصول على الشئ ، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله . والمعنى اترك - أيها الرسول الكريم - هؤلاء الكافرين ، وخلهم وشأنهم ، ليأكلوا كما تأكل الأنعام ، وليتمتعوا بدنياهم كما يشاءون ، وليشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك ، فسوف يعلمون سوء عاقبة صنيعهم فى العاجل أو الآجل . قال صاحب الكشاف وقوله { ذرهم } يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم من النهى عما هم عليه ، والصد عنه بالتذكرة والنصيحة ، واتركهم { يأكلوا ويتمتعوا } بدنياهم ، وتنفيذ شهواتهم ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال وألا يلقوا فى العاقبة إلا خيرا فسوف يعلمون سوء صنيعهم . وإنما أمره - سبحانه - بذلك ، لعدم الرجاء فى صلاحهم ، بعد أن مكث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم زمناً طويلاً ، يدعوهم إلى الحق ، بأساليب حكيمة . وفى تقديم الأكل على غيره ، إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب . قال - تعالى - { … وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } كما أن فيه تعييرا لهم بما تعارفوا عليه من أن الاقتصار فى الحياة على إشباع اللذات الجسدية ، دون التفات إلى غيرها من مكارم الأخلاق ، يدل على سقوط الهمة ، وبلادة الطبع . قال الخطيئة يهجو الزبرقان بن عمرو @ دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى @@ أى واقعد عن طلب المكارم والمعالى فإنك أنت المطعوم المكسو من جهة غيرك . والفعل { يأكلوا } وما عطف عليه مجزوم فى جواب الأمر { ذرهم } ، وبعضهم يجعله مجزوم بلام الأمر المحذوفة ، الدالة على التوعد والتهديد ، ولا يستحسن جعله مجزوما فى جواب الأمر ، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء أترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم . والفاء فى قوله - سبحانه - { فسوف يعلمون } للتفريع الدال على الزجر والإِنذار . والاستجابة للحق قبل فوات الأوان . أى ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية ، لا تفكر فيها ولا تدبر ، ومن آمال خادعة براقة شغلتهم عن حقائق الأمور ، فسوف يعلمون سوء عاقبة ذلك وسوف يرون ما يحزنهم ويشقيهم ويبكيهم طويلاً بعد أن ضحكوا قليلاً … وفى ذلك إشارة إلى أن لإِمهالهم أجلا معينا ينقضى عنده ، ثم يأتيهم العذاب الأليم . قال الآلوسى - رحمه الله - وفى هذه الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم ، وعدم الاستعداد للآخرة ، والتأهب لها ، ليس من أخلاق من يطلب النجاة . وجاء عن الحسن ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل . وأخرج أحمد فى الزهد ، والطبرانى فى الأوسط ، والبيهقى فى شعب الإِيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - لا أعلمه إلا رفعه - قال " صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل " . وفى بعض الآثار عن على - كرم الله وجهه - " إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل ، واتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسى الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق " . هذا ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } وقوله - تعالى - { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } وقوله - تعالى - { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } ثم قرر - سبحانه - أن هلاك الأمم الظالمة ، موقوف بوقت محدد فى علمه ، وأن سنته فى ذلك ماضية لا تتخلف ، فقال - تعالى - { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } . و { من } فى قوله { من قرية } و { من أمة } للتأكيد . والمراد بالقرية أهلها . والمراد بالكتاب المعلوم الوقت المحدد فى علم الله - تعالى - لهلاكها ، شبه بالكتاب لكونه لا يقبل الزيادة أو النقص . والأجل مدة الشئ . أى وما أهلكنا من قرية من القرى الظالم أهلها ، إلا ولهلاكها وقت محدد فى علمنا المحيط بكل شئ ، ومحال أن تسبق أمة من الأمم أجلها المقدر لها أو تتأخر عنه . قال ابن جرير - رحمه الله - عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه " يقول - تعالى - ذكره - { وما أهلكنا } يا محمد { من } أهل { قرية } من القرى التى أهلكنا أهلها فيما مضى { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } أى أجل مؤقت ومدة معروفة ، لا نهلكهم حتى يبلغوها ، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك … دون أن يتقدم هلاكهم عن ذلك أو يتأخر " . وجملة { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } فى محل نصب على الحال من قرية ، وصح ذلك لأن كلمة قرية وإن كانت نكرة ، إلا أن وقوعها فى سياق النفى سوغ مجىء الحال منها . أى ما أهلكناها فى حال من الأحوال ، إلا فى حال بلوغها نهاية المدة المقدرة لبقائها دون تقديم أو تأخير . قال - تعالى - { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وجملة { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } بيان لجملة { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } لتأكيد التحديد ، فى بدئه وفى نهايته . وحذف متعلق { يستأخرون } للعلم به ، أى وما يستأخرون عنه . والآيتان الكريمتان تدلان بوضوح ، على أن إمهال الظالمين ليس معناه ترك عقابهم ، وإنما هو رحمة من الله بهم لعلهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويسلكوا الطريق القويم … فإذا ما لجوا فى طغيانهم ، حل بهم عقاب الله - تعالى - فى الوقت المحدد فى علمه - سبحانه - . قال صاحب الظلال ولقد يقال إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل . وهى مع ذلك قوية ثرية باقية ، وهذا وهم . فلا بد من بقية من خير فى هذه الأمم ، ولو كان هو خير العمارة للأرض ، وخير العدل فى حدوده الضيقة بين أبنائها ، وخير الإِصلاح المادى والإِحسان المحدود بحدودها . فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها ، فلا تبقى فيها من الخير بقية ثم تنتهى حتما إلى المصير المعلوم . إن سنة الله لا تتخلف . ولكل أمة أجل معلوم . ثم حكى - سبحانه - سوء أدب هؤلاء الكافرين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - { وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } والقائلون هم بعض مشركى قريش . قال مقاتل نزلت الآيتان فى عبد الله بن أمية ، والنضر بن الحارث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة . والمراد بالذكر القرآن الكريم . قال - تعالى - { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } و { مجنون } اسم مفعول من الجنون ، وهو فساد العقل . و { لوما } حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمنى ، ومن ما الزائدة فأفاد المجموع الحث على الفعل . والمعنى وقال الكافرون لرسولهم صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء والتهكم { يأيها } المدعى بأن الوحى ينزل عليك بهذا القرآن الذى تتلوه علينا ، { إنك لمجنون } بسبب هذه الدعوى التى تدعيها . وبسبب طلبك منا اتباعك وتركنا ما وجدنا عليه آباءنا … هلا إن كنت صادقاً فى دعواك ، أن تحضر معك الملائكة ، ليخبرونا بأنك على حق فيما تدعيه ، وبأنك من الصادقين فى تبليغك عن الله - تعالى - ما أمرك بتبليغه ؟ وأكدوا الحكم على الجنون بإن واللام ، لقصدهم تحقيق ذلك فى نفوس السامعين ممن هم على شاكلتهم فى الكفر والضلال ، حتى ينصرفوا عن الاستماع إليه صلى الله عليه وسلم . قال الآلوسى يعنون يا من يدعى مثل هذا الأمر العظيم ، الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى تحقق جنونك على أتم وجه . وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده ، أنت مجنون . فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا ألواناً من سوء أدبهم ، منها مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الدال على التهكم والاستخفاف ، حيث قالوا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ } ، مع أنهم لا يقرون بنزول شئ عليه . ووصفهم له بالجنون ، وهو صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً ، وأفضلهم فكراً … وشكهم فى صدقه ، حيث طلبوا منه - على سبيل التعنت - أن يحضر معه الملائكة ليعاضدوه فى دعواه كما قال تعالى فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا … } وقوله - تعالى - { … لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } . وقرأ الجمهور { ما تنزل } - بفتح التاء والزاى على أن أصله تتنزل - ورفع الملائكة على الفاعلية . وقرأ أبو بكر عن عاصم { ما تنزل } - بضم التاء وفتح الزاى على البناء للمجهول - ورفع الملائكة على أنه نائب فاعل . وقرأ الكسائى وحفص عن عاصم { ما ننزل } - بنون فى أوله وكسر الزاى - ونصب الملائكة على المفعولية والباء فى قوله { إلا بالحق } للملابسة . أى ما ننزل الملائكة إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق ، أى بالوجه الذى تقتضيه حكمتنا وجرت به سنتنا ، كأن ننزلهم لإِهلاك الظالمين ، أو لتبليغ وحينا إلى رسلنا ، أو لغير ذلك من التكاليف التى نريدها ونقدرها ، والتى ليس منها ما اقترحه المشركون على رسولنا صلى الله عليه وسلم من قولهم { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } ، ولذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا عدم إجابة مقترحاتهم . وقوله { وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } بيان لما سيحل بهم فيما لو أجاب الله - تعالى - مقترحاتهم . و { إذا } حرف جواب وجزاء . و { منظرين } من الإِنظار بمعنى التأخير والتأجيل . وهذه الجملة جواب لجملة شرطية محذوفة ، تفهم من سياق الكلام ، والتقدير ولو أنزل - سبحانه - الملائكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبقى هؤلاء المشركون على شركهم مع ذلك ، لعوجلوا بالعقوبة المدمرة لهم ، وما كانوا إذا ممهلين أو مؤخرين ، بل يأخذهم العذاب بغتة . قال الإِمام الشوكانى " قوله { وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } فى الكلام حذف . والتقدير ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة ، وما كانوا إذا منظرين . فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة " . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } ثم بين - سبحانه - أنه قد تكفل بحفظ هذا القرآن الذى سبق للكافرين أن استهزءوا به ، وبمن نزل عليه فقال - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . أى إنا نحن بقدرتنا وعظم شأننا نزلنا هذا القرآن الذى أنكرتموه على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم { وإنا } لهذا القرآن { لحافظون } من كل ما يقدح فيه ، كالتحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف ، ولحافظون له بالإِعجاز ، فلا يقدر أحد على معارضته أو على الإِتيان بسورة من مثله ، ولحافظون له بقيام طائفة من أبناء هذه الأمة الإِسلامية باستظهاره وحفظه والذب عنه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . قال صاحب الكشاف " قوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ } رد لانكارهم واستهزائهم فى قولهم { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } ، ولذلك قال إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذى بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومن بين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظاً من الشياطين ، وهو حافظه فى كل وقت من كل زيادة ونقصان . … " . وقال الآلوسى ما ملخصه " ولا يخفى ما فى سبك الجملتين - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة ، وعلى فخامة شأن التنزيل ، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد . و { نحن } ليس ضمير فصل لأنه لم يقع بين اسمين ، وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن . والضمير فى { له } للقرآن كما هو الظاهر ، وقيل هو للنبى صلى الله عليه وسلم … " . هذا ونحن ننظر فى هذه الآية الكريمة ، من وراء القرون الطويلة منذ نزولها فنرى أن الله - تعالى - قد حقق وعده فى حفظ كتابه ، ومن مظاهر ذلك 1 - أن ما أصاب المسلمين من ضعف ومن فتن ، ومن هزائم ، وعجزوا معها عن حفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم … هذا الذى أصابهم فى مختلف الأزمنة والأمكنة ، لم يكن له أى اثر على قداسة القرآن الكريم ، وعلى صيانته من أى تحريف . ومن أسباب هذه الصيانة أن الله - تعالى - قيض له فى كل زمان ومكان ، من أبناء هذه الأمة ، من حفظه عن ظهر قلب ، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبى صلى الله عليه وسلم ، وصار حفاظه بالغين عدد التواتر فى كل مصر وفى كل عصر . قال الفخر الرازى فإن قيل فلماذا اشتغل الصحابة بجمع القرآن فى المصحف ، وقد وعد الله بحفظه ، وما حفظه الله فلا خوف عليه ؟ فالجواب أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله - تعالى - إياه ، فإنه - سبحانه - لما أن حفظه قيضهم لذلك … 2 - أن أعداء هذا الدين - سواء أكانوا من الفرق الضالة المنتسبة للإِسلام أم من غيرهم - امتدت أيديهم الأثيمة إلى أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فأدخلوا فيها ما ليس منها … وبذل العلماء العدول الضابطون ما بذلوا من جهود لتنقية السنة النبوية مما فعله هؤلاء الأعداء … ولكن هؤلاء الأعداء ، لم يقدروا على شئ واحد ، وهو إحداث شئ فى هذا القرآن ، مع أنهم وأشباههم فى الضلال ، قد أحدثوا ما أحدثوا فى الكتب السماوية السابقة … قال بعض العلماء . سئل القاضى إسماعيل البصرى عن السر فى تَطرُّق التغيير للكتب السالفة ، وسلامة القرآن من ذلك فأجاب بقوله إن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } وتولى - سبحانه - حفظ القرآن بذاته فقال { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . وقد ذكر الإِمام القرطبى ما يشبه ذلك نقلاً عن سفيان بن عيينه فى قصة طويلة . والخلاصة ، أن سلامة القرآن من أى تحريف - رغم حرص الأعداء على تحريفه ورغم ما أصاب المسلمين من أحداث جسام ، ورغم تطاول القرون والدهور - دليل ساطع على أن هناك قوة خارقة - خارجة عن قوة البشر - قد تولت حفظ هذا القرآن ، وهذه القوة هى قوة الله - عز وجل - ولا يمارى فى ذلك إلا الجاحد الجهول . … ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك من الآيات ما فيه تعزية وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه ، فأخبره بأن ما أصابه منهم يشبه ما فعله المكذبون السابقون مع رسلهم ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } . قال الجمل " لما أساءوا فى الأدب ، وخاطبوه صلى الله عليه وسلم خطاب السفاهة ، حيث قالوا له { إنك لمجنون } ، سلاّه الله فقال له إن عادة الجهال مع جميع الأنبياء كانت هكذا ، وكانوا يصبرون على أذى الجهال . ويستمرون على الدعوة والإِنذار ، فاقتد أنت بهم فى ذلك … " . والشيع جمع شيعة وهى الطائفة من الناس المتفقة على طريقة ومذهب واحد ، من شاعه إذا تبعه ، وأصله - كما يقول القرطبى - مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار . والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - رسلاً كثيرين ، فى طوائف الأمم الأولين ، فدعا الرسل أقوامهم إلى ما دعوت إليه أنت قومك من وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - ، فما كان من أولئك المدعوين السابقين إلا إن قابلت كل فرقة منهم رسولها بالسخرية والاستهزاء ، كما قابلك سفهاء قومك . وذلك لأن المكذبين فى كل زمان ومكان يتشابهون فى الطباع الذميمة ، وفى الأخلاق القبيحة كمال قال - تعالى - { كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } والجار والمجرور { من قبلك } متعلق بأرسلنا ، أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف . أى ولقد أرسلنا رسلاً كائنة من قبلك . وإضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند بعض النحاة ، أو من حذف الموصوف عند البعض الآخر ، أى شيع الأمم الأولين . وعبر بقوله - سبحانه - { إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } للإِشعار بأن الاستهزاء بالرسل كان طبيعة فيهم - كما يومئ إليه لفظ كان ، وأنه متكرر منهم - كما يفيده التعبير بالفعل المضارع - والكاف فى قوله { كذلك نسلكه … } للتشبيه ، واسم الإِشارة { ذلك } يعود إلى السلك المأخوذ من نسلكه . والسلك مصدر سلك - من باب نصر - وهو إدخال الشئ فى الشئ ، كإدخال الخيط فى المخيط . والضمير المنصوب فى { نسلكه } يعود إلى القرآن الكريم الذى سبق الحديث عنه . والمراد بالمجرمين فى قوله { فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } مشركو قريش ومن لف لفهم . والمعنى كما سلكنا كتب الرسل السابقين فى قلوب أولئك المستهزئين نسلك القرآن فى قلوب هؤلاء المجرمين من قومك يا محمد ، بأن نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويدركون خصائصه دون أن يستقر فى قلوبهم استقرار تصديق وإذعان لاستيلاء الجحود والعناد والحسد عليهم . وقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بيان للسلك المشبه به ، أو حال من المجرمين . أى أدخلنا القرآن فى قلوبهم ففهموه ، ولكنهم لا يؤمنون به عناداً وجحوداً . وعلى هذا التفسير يكون الضمير فى { نسلكه } وفى { به } يعودان إلى القرآن الكريم ، الذى سبق الحديث عنه فى قوله - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . ومن المفسرين الذين ذكروا هذا الوجه ولم يذكروا سواه صاحب الكشاف ، فقد قال " والضمير فى قوله { نسلكه } ، للذكر أى مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر { فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } على معنى أن يلقيه فى قلوبهم مكذباً مستهزئاً به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت كذلك أنزلها باللئام تعنى مثل هذا الإِنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية . ومحل قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } النصب على الحال ، أى غير مؤمن به . أو هو بيان لقوله { كذلك نسلكه … } . وقد زكى هذا الوجه صاحب الانتصاف فقال والمراد - والله أعلم - إقامة الحجة على المكذبين ، بأن الله - تعالى - سلك القرآن فى قلوبهم ، وأدخله فى سويدائها ، كما سلك ذلك فى قلوب المؤمنين المصدقين ، فكذب به هؤلاء ، وصدق به هؤلاء ، كل على علم وفهم { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ … } ولئلا يكون للكفار حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإِعجاز كما فهمها من آمن … " . ويرى بعض المفسرين - كالإِمام ابن جرير - أن الضمير فى نسلكه يعود إلى الكفر الذى سلكه الله فى قلوب المكذبين السابقين ، أما الضمير فى { به } فيعود إلى القرآن الكريم ، فقد قال قوله - تعالى - { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ … } يعنى كما سلكنا الكفر فى قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل ، كذلك نفعل ذلك فى قلوب مشركى قومك الذين أجرموا بسبب الكفر بالله . { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يقول لا يصدقون بالذكر الذى أنزل إليك . ومع أن هذا التفسير الذى ارتضاه شيخ المفسرين ابن جرير له وجاهته ، إلا أننا نميل إلى التفسير الأول الذى ارتضاه صاحب الكشاف ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، ومن المفسرين الذين رجحوا ذلك الفخر الرازى ، فقد قال - رحمه الله - خلال كلام طويل ما ملخصه " التأويل الصحيح أن الضمير فى قوله - تعالى - { كذلك نسلكه } عائد إلى الذكر ، الذى هو القرآن ، فإنه - تعالى - قال قبل هذه الآية { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ } وقال بعده { كذلك نسلكه } أى هكذا نسلك القرآن فى قلوب المجرمين . والمراد من هذا السلك ، هو أنه - تعالى - يسمعهم هذا القرآن ، ويخلق فى قلوبهم حفظه والعلم بمعانيه . إلا أنهم مع هذه الأحوال لا يؤمنون به عناداً وجهلاً … ويدل على صحة هذا التأويل ، أن الضمير فى قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } عائد على القرآن بالإِجماع ، فوجب أن يكون الضمير فى { نسلكه } عائداً إليه - أيضاً - لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شئ واحد … وقوله - سبحانه - { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } تهديد لهؤلاء المكذبين من كفار مكة ومن سار على شاكلتهم ، وتكملة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أى وقد مضت سنة الله التى لا تتخلف وطريقته المألوفة بأن ينزل عذابه بالمجرمين ، كما أنزله بالأمم الماضية ، بسبب تكذيبها لرسلها ، واستهزائها بهم فلا تحزن - أيها الرسول الكريم - لما أصابك من سفهاء قومك فسننصرك عليهم . وأضاف - سبحانه - السنة إلى الأولين ، باعتبار تعلقها بهم ، وإنما هى سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا ، والإِضافة لأدنى ملابسة . ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة برسم صورة عجيبة لعناد هؤلاء المكذبين ولجحودهم للحق بعدما تبين فقال { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } . وقوله - سبحانه - { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ … } معطوف على قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ … } لإِبطال معاذيرهم ، ولبيان أن سبب عدم إيمانهم هو الجحود والعناد ، وليس نقصان الدليل والبرهان على صحة ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم . قال الإِمام الرازى . وقوله - تعالى - { فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } يقال ظل فلان نهاره يفعل كذا ، إذا فعله بالنهار ، ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظلول . ويعرجون من العروج ، وهو الذهاب فى صعود ، وفعله من باب دخل ، يقال عرج فلان إلى الجبل يعرج إذا صعد ، ومنه المعراج والمعارج أى المصاعد . وقوله { سكرت } من السَّكْر - بفتح السين المشددة وسكون الكاف - بمعنى السد والحبس والمنع ، يقال سكرت الباب أسْكرُه سَكْراً ، إذا سددته ، والتشديد فى { سكرت } للمبالغة ، وهو قراءة الجمهور . وقرأ ابن كثير { سكرت } ، بكسر الكاف بدون تشديد . وقوله { مسحورون } اسم مفعول من السحر ، بمعنى الخداع والتخييل والصرف عن الشئ إلى غيره . والمعنى أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الغلو فى الكفر والعناد ، أننا لو فتحنا لهم بابا من أبواب السماء ، ومكناهم من الصعود إليه ، فظلوا فى ذلك الباب يصعدون ، ويطلعون على ملكوت السماوات وما فيها من الملائكة والعجائب لقالوا بعد هذا التمكين والاطلاع - لفرط عنادهم وجحودهم - إنما أبصارنا منعت من الإِبصار ، وما نراه ما هو إلا لون من الخداع والتخييل والصرف عن إدراك الحقائق بسبب سحر محمد صلى الله عليه وسلم لنا وعلى هذا التفسير الذى سار عليه جمهور المفسرين ، يكون الضمير فى قوله { فظلوا } يعود إلى هؤلاء المشركين المعاندين . وقيل الضمير للملائكة ، فيكون المعنى فظل الملائكة فى هذا الباب يعرجون ، والكفار يشاهدونهم وينظرون إليهم ، فقالوا - أى الكفار - بعد كل ذلك ، { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا … } . وعلى كلا الرأيين فالآية الكريمة تصور أكمل تصوير ، مكابرة الكافرين وعنادهم المزرى . وعبر - سبحانه - بقوله { فظلوا … } ليدل على أن عروجهم كان فى وضح النهار ، بحيث لا يخفى عليهم شئ مما يشاهدونه . وجمعوا فى قولهم بين أداة الحصر { إنما } وبين أداة الإِضراب { بل } للدلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له ، بل هو باطل ، وما يرونه ما هو إلا من تخيلات المسحور . وقالوا { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } ولم يقولوا بل نحن مسحورون ، للإِشعار بأن السحر قد تمكن منهم جميعاً ، ولم يخص بعضاً منهم دون بعض . قال الشوكانى " وفى هذا البيان لعنادهم العظيم الذى لا يقلعهم عنه شئ من الأشياء كائنا ما كان ، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقى لعارض الانسداد أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح . ومن بلغ فى التعنت إلى هذا الحد ، فلا تنفع فيه موعظة ولا يهتدى بآية " . وبذلك نجد السورة الكريمة قد حدثتنا فى خمس عشرة آية من مطلعها إلى هنا ، عن سمو منزلة القرآن الكريم ، وعن حسرات الكافرين يوم تتجلى لهم الحقائق ، وعن استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن رد القرآن عليهم وعن تسلية الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم … ثم انتقلت السورة بعد ذلك ، فساقت ألواناً من النعم الدالة على وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته ، وبديع صنعه ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ … } .