Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 26-44)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والمراد بالإِنسان فى قوله - سبحانه - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ } آدم - عليه السلام - لأنه أصل النوع الإِنسانى ، وأول فرد من أفراده . والصلصال الطين اليابس الذى يصلصل ، أى يحدث صوتاً إذا حرك أو نقر عليه ، كما يحدث الفخار قال - تعالى - { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } وقيل الصلصال الطين المنتن ، مأخوذ من قولهم صَلَّ اللحم وأصلَّ ، إذا أنتن … قال الإِمام ابن جرير " والذى هو أولى بتأويل الآية ، أن يكون الصلصال فى هذا الموضع ، الطين اليابس الذى لم تصبه النار ، فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة - وذلك أن الله - تعالى - وصفه فى موضع آخر فقال { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } فشبهه - تعالى ذكره - بأنه كالفخار فى يُبسِه ، ولو كان معناه فى ذلك المنتن لم يشبهه بالفخار ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبه به فى النتن غيره " . والحمأ الطين إذا اشتد سواده وتغيرت رائحته . والمسنون المصور من سن الشئ إذا صوره . قال الآلوسى ما ملخصه قوله { من حمأ } أى من طين تغير واسود من مجاورة الماء ، ويقال للواحدة حمأة - بسكون الميم - … وقوله { مسنون } أى مصوَّر من سُنَّة الوجه وهى صورته . وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبى صلى الله عليه وسلم @ أغرُّ كأن البدرَ سنَّةُ وجهه جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا @@ وقيل مسنون " أى مصبوب ، من سنَّ الماء بمعنى صبه . ويقال شَنَّ - بالشين أيضاً - أى مفرغ على هيئة الإِنسان … وقيل المسنون المنتن … " . والذى يتدبر القرآن الكريم يرى أن الله - تعالى - قد وضح فى آيات متعددة أطوار خلق آدم - عليه السلام - ، فقد بين فى بعض الآيات أنه خلقه من تراب ، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ … } وبين فى آيات أخرى أنه - سبحانه - خلقه من طين ، كما فى قوله - تعالى - { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } وبين هنا أنه - سبحانه - خلقه { مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } . قال الجمل " وهذا الطور آخر أطوار آدم الطينية ، وأول ابتدائه أنه كان ترابا متفرق الأجزاء ، ثم بُلَّ - أى التراب - فصار طينا ، ثم ترك حتى أنتن وأسود فصار حمأ مسنونا . أى متغيرا ، ثم يبس فصار صلصالاً ، وعلى هذه الأحوال والأطوار تتخرج الآيات الواردة فى أطواره الطينية ، كآية خلقه من تراب ، وآية { بَشَراً مِّن طِينٍ } وهذه الآية التى نحن فيها " . والمقصود من هذه الآيات الكريمة ، التنبيه على عجيب صنع الله - تعالى - وعظيم قدرته ، حيث أخرج - سبحانه - الجملة الكريمة بلام القسم وقد ، لزيادة التحقيق ، وللإِرشاد إلى أهمية هذا الخلق ، وأنه بهذه الصفة . و { من } فى قوله { من صلصال } لابتداء الغاية أو للتبعيض ، وفى قوله { من حمأ } ابتدائية . والجار والمجرور صفة لصلصال أى من صلصال كائن من حمأ ، ومسنون صفة لحمأ . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك المادة التى خلق منها الجان فقال - سبحانه - { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } والمراد بالجان هنا أبو الجن عند جمهور المفسرين . وقيل هو إبليس . وقيل هو اسم لجنس الجن . وسمى جانا لتواريه عن الأعين ، واستتاره عن بنى آدم . أى والجان خلقناه { من قبل } أى من قبل خلق آدم { مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } أى من الريح الحارة التى تقتل . وسميت سموماً ، لأنها لشدة حرارتها ، وقوة تأثيرها تنفذ فى مسام البدن . قال ابن كثير وقد ورد فى الحديث الصحيح " خُلِقت الملائكة من نور ، وخُلِقت الجان من مارج من نار ، وخُلق بنو آدم مما وصف لكم " . ثم حكى - سبحانه - ما أمر به ملائكته عندما توجهت إرادته - سبحانه - لخلق آدم ، فقال - تعالى - { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } . أى واذكر - أيها العاقل - وقت أن قال ربك - سبحانه - للملائكة - الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - { إنى خالق } بقدرتى { بشرا } أى إنسانا ، وعبر عنه بذلك اعتبارا بظهور بشرته وهى ظاهر الجلد { مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } . { فإذا سويته } أى سويت خلق هذا البشر ، وكملت أجزاءه ، وجعلته فى أحسن تقويم … { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } أى وضعت فيه ما به حياته وحركته وهو الروح ، الذى لا يعلم حقيقته أحد سواى . قال القرطبى قوله { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } النفخ إجراء الريح فى الشئ . والروح جسم لطيف ، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة فى البدن مع ذلك الجسم . وحقيقته إضافة خلق إلى خالق ، فالروح خلق من خلقه أضافه - سبحانه - إلى نفسه تشريفاً وتكريماً ، كقوله ، أرضى وسمائى وبيتى وناقة الله وشهر الله … وقوله { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } أمر منه - سبحانه - للملائكة بالسجود لآدم . أى فإذا سويت خلقه ، وأفضت عليه ما به حياته ، فاسقطوا وخروا له ساجدين ، سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة ، فإن سجود العبادة لى وحدى . وقال - سبحانه - { فقعوا … } بفاء التعقيب ، للإشعار بأن سجودهم له واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير إبطاء أو تأخير . وهذا نوع من تكريم الله - تعالى - لعبده آدم - عليه السلام - ، وله - سبحانه - أن يكرم بعض عباده بما يشاء ، وكيف شاء . . { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } ثم بين - سبحانه - ما كان من الملائكة بعد ذلك فقال { فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } أى امتثل الملائكة لأمر الله بعد أن خلق - سبحانه - آدم وسواه ونفخ فيه من روحه ، فسجدوا له كلهم أجمعون دون أن يتخلف منهم أحد . وجمع - سبحانه - بين لفظى التوكيد { كلهم أجمعون } للمبالغة فى ذلك ، ولإِزالة أى التباس بأن أحداً شذ عن طاعة الله - تعالى - . وقوله { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } بيان لموقف إبليس من أمر الله - تعالى - . وإبليس اسم مشتق من الإِبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس ، وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمى ، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة . وهو كائن حى ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعى الشر الذى يخطر فى النفوس ، لأنه ليس من المعقول أن يكون الأمر كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه . قال - تعالى - { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ … } وقوله { أبى } من الإِباء وهو الامتناع عن فعل الشئ مع القدرة على فعله ، بسبب الغرور والتكبر والتعاظم . أى فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، امتثالاً وطاعة لله - تعالى - ، إلا إبليس فإنه امتنع عن أن يكون مع الساجدين . تكبرا وغرورا وعصياناً لأمر الله - تعالى - . وللعلماء فى كون إبليس من الملائكة ، أم لا ، قولان أحدهما أنه كان منهم ، لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لآدم ، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لما كان عاصيًا ، ولما استحق الطرد واللعنة ، ولأن الأصل فى المستثنى أن يكون داخلاً تحت اسم المستثنى منه ، حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه . وعلى هذا الرأى اختاره ابن عباس وابن مسعود وغيرهما يكون الاستثناء متصلاً . والثانى أنه لم يكن من الملائكة ، لقوله - تعالى - { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ … } فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإِنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، والملائكة لا ذرية لهم … وعلى هذا الرأى الذى اختاره الحسن وقتادة وغيرهما يكون الاستثناء منقطعًا . قال الشيخ القاسمى " وقد حاول الإِمام ابن القيم - رحمه الله - أن يجمع بين الرأيين فقال والصواب التفصيل فى هذه المسألة ، وأن القولين فى الحقيقة قول واحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله فإن أصله من نار وأصل الملائكة من نور ، فالنافى كونه من الملائكة والمثبت كونه منهم لم يتواردا على محل واحد " . والذى نميل إليه فى هذه المسألة أن إبليس لم يكن من الملائكة ، بدليل الحديث الصحيح الذى يقول فيه النبى صلى الله عليه وسلم " خلقت الملائكة من نور . وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق بنو آدم مما وصف لكم " والآية الكريمة - وهى قوله - تعالى - { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } صريحة فى أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة . ومع هذا فإن الأمر بالسجود يشمله ، بدليل قوله - تعالى - { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ … } فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الله - تعالى - قد أمر إبليس بالسجود لآدم … ووجود إبليس مع الملائكة لا يستلزم أن يكون منهم ، ومثل ذلك كمثل أن تقول حضر بنو فلان إلا محمدا ، ومحمد ليس من بنى فلان هؤلاء ، وإنما هو معهم بالمجاورة أو المصاحبة أو غير ذلك . هذا ما نختاره ونميل إليه ، إستنادًا إلى ظاهر الآيات وظاهر الأحاديث ، والله - تعالى - أعلم . وقوله - سبحانه - { قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } بيان لما وبخ الله - تعالى - به إبليس ، ولرد إبليس - لعنه الله - على خالقه - عز وجل - . أى قال الله - تعالى - لإِبليس على سبيل التوبيخ والزجر أى سبب حملك على مخالفة أمرى ، وجعلك تمتنع عن السجود لمن أمرتك بالسجود له ؟ فكان رد إبليس ما كان ليليق بشأنى ومنزلتى أن أسجد مع الساجدين لبشر خلقته - أيها الخالق العظيم - من صلصال من حمأ مسنون . ومقصود إبليس بهذا الرد إثبات أنه خير من آدم ، كما حكى عنه - سبحانه - ذلك فى قوله - تعالى - { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } وهذا الرد منه يدل على عصيانه لأمر ربه ، وعدم الرضا بحكمه ، وسوء أدبه مع خالقه - سبحانه - . قال الآلوسى وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة ، وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل ، وباعتبار الصورة ، وباعتبار الغاية ، بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلى عن الملكات الردية ، والتحلى بالمعارف الربانية . @ فشمال والكأس فيها يمين ويمين لا كأس فيها شمال @@ وقوله - سبحانه - { قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } بيان للحكم العادل الذى أصدره الله - تعالى - على إبليس . والضمير فى قوله { منها } يعود إلى السماء لأنها مسكن الطائعين الأخيار ، أو إلى الجنة لأنها لا يسكنها إلا من أطاع الله - تعالى - ، أو إلى المنزلة التى كان فيها قبل طرده من رحمة الله . . أى قال الله - تعالى - لإِبليس على سبيل الزجر والتحقير فاخرج من جنتى ومن سمائى فإنك { رجيم } مطرود من كل خير وكرامة ، وإن عليك اللعنة والإِبعاد من رحمتى إلى يوم الدين ، وهو يوم الحساب والجزاء . وليس المراد أن تنقطع عنه اللعنة يوم الدين ، بل المراد أن هذه اللعنة مستمرة عليه إلى يوم الدين ، فإذا ما جاء هذا اليوم استمرت هذه اللعنة ، وأضيف إليها العذاب الدائم المستمر الباقى ، بسبب عصيانه لأمر ربه ، فذكر يوم الدين ، إنما هو للمبالغة فى طول مدة هذه اللعنة ودوامها ما دامت الحياة الدنيا . وعبر - سبحانه - بعلى فى قوله { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ } للإشعار بتمكنها منه ، واستعلائها عليه ، حتى لكأن اللعنة فوقه يحملها دون أن تفارقه فى لحظة من اللحظات . ثم حكى - سبحانه - ما طلبه إبليس من ربه ، ومارد الله به عليه ، فقال - تعالى - { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } . والفاء فى قوله { فأنظرنى } للتفريع وهى متعلقة بمحذوف يدل عليه سياق الكلام . والإِنظار التأخير والإِمهال ومنه قوله - تعالى - { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } أى قال إبليس لربه . عز وجل ما دمت قد أخرجتنى من جنتك ومن سمائك ، وجعلتنى مرجوماً ملعوناً إلى يوم الدين ، فأخر موتى إلى يوم يبعث آدم وذريته للحساب وخاطب الله - تعالى - بصفة الربوبية تخضعا وتذللا لكى يجاب طلبه . وقد أجاب الله - تعالى - له طلبه فقال { فإنك } يا إبليس من جملة { المنظرين } أى الذين أخرت موتهم { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } وهو يوم القيامة الذى استأثرت بعلم وقته ، والذى وصفت أحواله للناس ، كى يستعدوا له بالإِيمان والعمل الصالح . ويصح أن يكون المراد بالوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق ويموت هو معهم . قال ابن كثير أجابه الله - تعالى - إلى ما سأل ، لما له فى ذلك من الحكمة والإِرادة والمشيئة التى لا تخالف . ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب . وقال بعض العلماء وهذا الإِنظار رمز إلهى على أن ناموس الشر لا ينقضى من عالم الحياة الدنيا ، وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر ، وبين الأخيار والأشرار . قال - تعالى - { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ … } ولذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح ، وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذود عنها . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى حملت إبليس على طلب تأخير موته إلى يوم القيامة ، والتى من أهمها الانتقام من آدم وذريته فقال - تعالى - { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } . والباء فى قوله { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ . . } للسببية أو للقسم . قال الإِمام الرازى ما ملخصه الباء ههنا بمعنى السبب ، أى بسبب كونى غاويا لأزينن لهم كقول القائل أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار ، وبطاعته ليدخلن الجنة . أو للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن لهم . والمعنى أقسم بإغوائك لى لأزينن لهم . ونظيره قوله - تعالى - { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله { أغويتنى } من الإِغواء ، وهو خلق الغى فى القلوب . وأصل الغى الفساد ، ومنه غوى الفصيل - كرضى - إذا بشم من اللبن ففسدت معدته . أو منع من الرضاع فهزل وكاد يهلك ، ثم استعمل فى الضلال . يقال غوى فلان يغوى غيا وغواية فهو غاو إذا ضل عن الطريق المستقيم . وأغواه غيره وغواه أضله . وقوله { لأزينن لهم } من التزيين بمعنى التحسين والتجميل ، وهو تصيير الشى زينًا ، أى حسنًا حتى ترغب النفوس فيه وتقبل عليه . والضمير فى { لهم } يعود على ذرية آدم ، وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر لهم ذكر ، وقد جاء ذلك صريحًا فى قوله - تعالى - فى آية أخرى { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } وحذف مفعول { لأزينن } لدلالة المقام عليه . أى لأزينن لهم المعاصى والسيئات ، بأن أحسن لهم القبيح . وأزين لهم المنكر . وأحبب الشهوات إلى نفوسهم حتى يتبعوها ، وأبذل نهاية جهدى فى صرفهم عن طاعتك … وقال - سبحانه - { فى الأرض } لتحديد مكان إغوائه ، إذ هى المكان الذى صار مستقرًا له ولآدم وذريته ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا } - أى الجنة - فأخرجهما - أى آدم وحواء - مما كانا فيه ، { وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } وقوله { ولأغوينهم أجمعين } مؤكدًا لما قبله . أى والله لأغوينهم جميعًا مادمت قادرًا على ذلك ، ولأعملن على إضلالهم بدون فتور أو يأس ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال القرطبى وروى ابن لهيعة عبد الله عن دراج أبى السمح ، عن أبى الهيثم ، عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبليس قال يارب وعزتك وجلالك لا أزال أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم فى أجسامهم ، فقال الرب وعزتى وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى " . وقوله - سبحانه - { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } اعتراف من إبليس بأن من عباد الله - تعالى - قومًا لا يستطيع أن يغويهم ، ولا يقدر على إضلالهم . وكلمة { المخلصين } قرأها نافع وحمزة وعاصم والكسائى - بفتح اللام - ، فيكون المعنى لأغوينهم أجمعين إلا عبادك الذين استخلصتهم لطاعتك ، وصنتهم عن اقتراف ما نهيتهم عنه . وقرأها ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو - بكسر اللام - ، فيكون المعنى لأضلنهم جميعًا ، إلا عبادك الذين أخلصوا لك العمل ، وابتعدوا عن الرياء فى أقوالهم وأفعالهم . وهذا الاستثناء الذى اعترف به إبليس بعد أن أدرك أنه لا محيص له عنه - هو سنة الله - تعالى - فى خلقه ، فقد جرت سنته التى لا تغيير ولا تبديل لها ، بأن يستخلص لذاته من يخلص له قلبه ، وأن يرعى من يرعى حدوده ، ويحفظ من يحفظ تكاليفه ، ولذا كان جوابه - سبحانه - على إبليس ، هو قوله - تعالى - { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } . واسم الإشارة { هذا } يعود إلى الاستثناء السابق وهو قوله { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } . وقد اختار هذا الرأى الإِمام الآلوسى فقال قال الله - تعالى - { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ } أى حق لابد أن أراعيه { مستقيم } لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره . والإِشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه وكلمة على تستعمل فى الوجوب . والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الأصلح عليه - تعالى - . وقال أهل السنة ، إن ذلك وإن كان تفضلاً منه - سبحانه - إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه ، بمقتضى وعده - عز وجل - ، فجئ بعلىَّ لذلك . ثم قال وقرأ الضحاك ومجاهد ويعقوب … { هذا صراط عَلِيٌّ } - بكسر اللام وضم الياء المشددة وتنوينها - أى عال لارتفاع شأنه . وقد اختار صاحب الكشاف عودة اسم الإِشارة إلى ما بعده فقال قال الله - تعالى - { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أى هذا طريق حق على أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادى ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته . ويرى ابن جرير أن على هنا بمعنى إلى ، فقد قال - رحمه الله - قوله - تعالى - { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } بمعنى هذا طريق إلى مستقيم . فكان معنى الكلام هذا طريق مرجعه إلى ، فأجازى كلا بأعمالهم ، كما قال - تعالى - { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويتهدده طريقك على وأنا على طريقك ، فكذلك قوله { هذا صراط } معناه هذا طريق علىّ وهذا طريق إلى … ويبدوا لنا أن الآية الكريمة مسوقة لبيان المنهاج القويم الذى كتبه الله - تعالى - على نفسه فضلاً منه وكرمًا ، والميزان العادل الذى وضعه - سبحانه - لتمييز الخبيث من الطيب . فكأنه - سبحانه - يقول فى الرد على إبليس الذى اعترف بعجزه عن إغواء المخلصين من عباد الله يا إبليس ، إن عدم قدرتك على إغواء عبادى المخلصين منهج قويم من مناهجى التى اقتضتها حكمتى وعدالتى ورحمتى ، وسنة من سننى التى آليت على نفسى أن ألتزم بها مع خلقى . إن عبادى المخلصين لا قوة ولا قدرة لك على إغوائهم ، لأنهم حتى إذا مسهم طائف منك . أسرعوا بالتوبة الصادقة إلى ، فقبلتها منهم . وغفرت لهم زلتهم … ولكنك تستطيع إغواء أتباعك الذين استحوذت عليهم فانقادوا لك … وفى هاتين الآيتين ما فيهما من التنويه بشأن عباد الله المخلصين ، ومن المديح لهم بقوة الإِيمان ، وعلو المنزلة ، وصدق العزيمة وضبط النفس … قال - تعالى - { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً } قال الآلوسى وقوله { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ … } أى تصرف وتسلط ، والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين ، فالإِضافة للعهد والاستثناء على هذا فى قوله { إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } منقطع . واختار هذا غير واحد … وجوز أن يكون بالعباد العموم والاستثناء متصل ، والكلام كالتقرير لقوله إلا عبادك منهم المخلصين ، ولذا لم يعطف على ما قبله ، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين ، بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء … ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المتبعين لإِبليس فقال { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } . والضمير فى قوله { لموعدهم } يعود إلى الغاوين ، أو إلى { من اتبعك } والموعد مكان الوعد . والمراد به هنا المكان الذى سينتهون إليه حتمًا بعد أن كانوا غافلين عنها فى الدنيا ، وهو جهنم أى وإن جهنم لمكان محتوم لهؤلاء الذين أغواهم إبليس دون أن يفلت أحد من سعيرها . وجملة { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها . وجملة { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } صفة لأبواب ، وضمير { منهم } يعود إلى الغاوين أتباع إبليس . والمقسوم من القَسْمِ وهو إفراز النصيب عن غيره تقول قسمت كذا قسماً وقسمة إذا ميزت كل قسم عن سواه . والمعنى إن لجهنم سبعة أبواب ، لكل باب منها ، فريق معين من الغاوين يدخلون منه ، على حسب تفاوتهم فى الغواية وفى متابعة إبليس ويرى كثير من المفسرين أن المراد بالأبواب هنا الأطباق والدركات . أى لجهنم سبعة أطباق أو دركات بعضها فوق بعض ، ينزلها الغاوون ، بحسب أصنافهم وتفاوت مراتبهم فى الغى والضلال . قال الإِمام ابن كثير قوله - تعالى { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } أى قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس ، يدخلونه لا محيد لهم عنه - أجارنا الله منها - وكل يدخل من باب بحسب عمله ، ويستقر فى درك بقدر فعله … ثم قال وعن عمرة بن جندب - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } قال " إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ، وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه … " . وبعد فهذه قصة خلق الإِنسان ، وقصة خلق الجان - كما بينتها هذه السورة الكريمة - ومن الدروس والعظات التى نأخذها منها 1 - دلالتها على كمال قدرة الله - تعالى - ، وبديع خلقه ، وبليغ حكمته ، حيث خلق - سبحانه - الإِنسان من مادة تختلف عن المادة التى خلق منها الجان ، وحيث كرم الإِنسان بخاصية أخرى أشار إليها القرآن فى قوله - تعالى - { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي … } وهذه الخاصية هى التى تجعل من هذا الإِنسان ، إنسانًا ينفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى التى تشاركه فى هذه الحياة … 2 - أن خلق الجان سابق على خلق الإِنسان ، بدليل قوله - تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } . 3 - إن الملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فهم بمجرد أن أمرهم الله - تعالى - بالسجود لآدم ، سجدوا جميعًا دون أن يشذ منهم أحد . 4 - أن الإِصرار على معصية الله - تعالى - يؤدى إلى الطرد من رحمته - سبحانه - ومن الخروج من رضوانه ومغفرته . 5 - أن التكبر والغرور والحسد ، من أبرز الصفات الذميمة التى حملت إبليس على الامتناع عن السجود لآدم ، وعلى مخالفة أمر ربه - عز وجل - . 6 - أن إجابته - سبحانه - لطلب إبليس فى تأخير موته ، لم يكن لكرامة له عنده - عز وجل - ، وإنما كان استدراجاً له وإمهالاً ، وابتلاء لبنى آدم ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه . 7 - أن العداوة بين إبليس وقبيله ، وبين آدم وذريته ، باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وأن إبليس وجنوده لم ولن يتركوا باب من أبواب الشر إلا وزينوه وجملوه لبنى آدم ، وحرضوهم على الدخول فيه ، ليكتسبوا السيئات التى نهاهم الله - تعالى - عنها . قال - تعالى - { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } 8 - أن عدالة الله - تعالى - ورحمته قد اقتضت أن يحمى عباده المخلصين من تسلط الشيطان عليهم ، لأنهم منه فى حمى ، ولأن مداخله إلى نفوسهم مغلقة ، إذ أنهم خافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى … أما الذين يستطيع الشيطان التسلط عليهم ، والتأثير فيهم ، فهم أولئك الذين انقادوا لوساوسه ، واستجابوا لنزعاته ، وصاروا مطية له يسخرها كما يشاء … وهؤلاء هم الذين تنتظرهم جهنم بأبوابها السبعة … قال - تعالى - { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } . هذه هى عاقبة الغاوين أتباع إبليس ، أما عاقبة المخلصين الذين أخلصوا نفوسهم لله - تعالى - وأطاعوه فى السر والعلن ، فقد بينها - سبحانه - بعد ذلك فى قوله { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ … } .