Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 38-40)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - سبحانه - { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ … } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا } للإيذان بأنهم قد جمعوا بين إنكار التوحيد وإنكار البعث بعد الموت . والقسم الحلف وسمى الحلف قسما ، لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب والجهد - بفتح الجيم - المشقة . يقال جهد فلان دابته وأجهدها ، إذا حمل عليها فوق طاقتها . وجهد الرجل فى كذا ، إذا جد فيه وبالغ ، وبابه قطع . والمراد بقوله { جهد أيمانهم } أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق ، على أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت ، لأنهم يزعمون أن إعادة الميت إلى الحياة بعد أن صار ترابا وعظاما نخرة ، أمر مستحيل . وقد أكدوا زعمهم هذا بالقسم ، للتدليل على أنهم متثبتون مما يقولونه ، ومتيقنون من صحة ما يدعونه ، من أنه لا يبعث الله من يموت . قال القرطبى . قوله - تعالى - { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ … } هذا تعجيب من صنعهم ، إذ أقسموا بالله وبالغوا فى تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت . ووجه العجب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات . وقال أبو العالية كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه ، وكان فى بعض كلامه والذى أرجوه بعد الموت إنه لكذا ، فأقسم المشرك بالله لا يبعث الله من يموت ، فنزلت الآية . وفى البخارى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم " قال الله - تعالى - كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمنى ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى ، وأما شتمه إياى فقوله اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " . وقوله - سبحانه - { بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } تكذيب لهم فيما زعموه من أن الله - تعالى - لا يبعث من يموت ، ورد عليهم فيما قالوه بغير علم . و { بلى } حرف يؤتى به لإِبطال النفى فى الخبر والاستفهام . أى بلى سيبعث الله - تعالى - الأموات يوم القيامة ، وقد وعد بذلك وعدا صدقا لا خلف فيه ولا تبديل ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة لجهلهم بكمال قدرة الله - تعالى - وعموم علمه ، ونفاذ إرادته ، وسمو حكمته . قال الجمل " وقوله { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد ، أى وعد ذلك وعدا ، وحق حقا . وقيل حقا نعتا لوعدا ، والتقدير ، بلى يبعثهم وعد بذلك وعدا حقا " . وجئ بقوله { عليه } لتأكيد هذا الوعد ، تفضلا منه - سبحانه - وكرما . والمراد بالحق هنا الصدق الذى لا يتخلف ، والثابت الذى لا يتبدل . أى وعدا صادقا ثابتا لا يقبل الخلف ، لأن البعث من مقتضيات حكمته - سبحانه - . والمراد بأكثر الناس المشركون ومن كان على شاكلتهم فى إنكار البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة . وفى التنصيص على أكثر الناس ، مدح للأقلية منهم ، الذين آمنوا بالبعث وبالآخرة وما فيها من حساب ، وهم المؤمنون الصادقون . هذا ، وقد حكى - سبحانه - مزاعم المشركين ورد عليها فى آيات كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ … } وقوله - تعالى - { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ … } ثم بين - سبحانه - الحكمة من بعث الناس يوم القيامة ، فقال - تعالى - { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } . واللام فى قوله { ليبين لهم … } وفى قوله { وليعلم … } متعلقة بما دل عليه حرف { بلى } وهو يبعثهم . أى بلى يبعث الله - تعالى - الموتى ، ليظهر لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه فى شأن البعث وغيره ، وليعلم الذين كفروا علم مشاهدة ومعاينة ، أنهم كانوا كاذبين فى قسمهم أن الله - تعالى - لا يبعث من يموت ، وفى غير ذلك من أقوالهم الباطلة . وفى إظهار الحق ، وفى بيان كذبهم يوم البعث ، حسرة وندامة لهم ، حيث ظهر لهم ما أنكروه فى الدنيا ، وما كانوا يستهزئون به ، عندما كان الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يدعونهم إلى نبذ الشرك ، وإلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده . فالآية الكريمة قد بينت حكمتين لبعث الناس للحساب يوم القيامة ، الأولى إظهار ما اختلفوا فيه فى شأن البعث وغيره مما جاءتهم به الرسل . والثانية إظهار كذب الكافرين الذين أنكروا البعث واستهزأوا بمن دعاهم إلى الإِيمان به . وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } استئناف لتأكيد قدرة الله - تعالى - النافذة ، وشمولها لكل شئ من بعث وغيره ، وذلك لأن الكفار لما أقسموا بالله جهد أيمانهم بأنه - سبحانه - لا يبعث الموتى ، ورد عليهم بما يبطل مزاعمهم ، أتبع ذلك ببيان أن قدرته - تعالى - لا يتعاصى عليها شئ ، ولا يحول دون نفاذها حائل . قال الإِمام ابن كثير " أخبر - سبحانه - عن قدرته على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء ، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له { كن فيكون } . والمراد من ذلك إذا أراد كونه ، فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء ، قال - تعالى - { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } وقال - سبحانه - { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وقال - سبحانه - فى هذه الآية { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أى يأمر به دفعة واحدة فإذا هو كائن قال الشاعر @ إذا ما أراد الله أمرا فإنما يقول له " كن " قولة فيكون @@ أى " أنه - تعالى - لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه - سبحانه - لا يمانع ولا يخالف ، لأنه الواحد القهار العظيم ، الذى قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شئ … " . وقال بعض العلماء " وعبر - تعالى - عن المراد قبل وقوعه باسم الشئ ، لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل ، فلا تنافى الآية إطلاق الشئ - على خصوص الموجود دون المعدوم ، لأنه لما سبق فى علم الله أنه يوجد ذلك الشئ - وأنه يقول كن فيكون - ، كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه . أو لأنه أطلق عليه اسم الشئ باعتبار وجوده المتوقع كتسمية العصير خمرا فى قوله { إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً … } نظرا لما يؤول إليه … " . وقوله { فيكون } قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أى فهو يكون . وقرأ ابن عامر والكسائى { فيكون } بالنصب عطفا على قوله { أَن نَّقُولَ لَهُ … } . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت جانبا من أقوال المشركين ، وردت عليها بما يبطلها ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم . وبعد أن عرضت السورة الكريمة لأقاويل المشركين وردت عليها … أتبعت ذلك بذكر جانب من الثواب العظيم الذى أعده الله - تعالى - للمؤمنين الصادقين ، الذين فارقوا الدار والأهل والخلان ، من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى - ، فقال - سبحانه - { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ … } .