Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 26-30)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال أبو حيان فى البحر " لما أمر الله - تعالى - ببر الوالدين ، أمر بصلة القرابة . قال الحسن نزلت فى قرابة النبى صلى الله عليه وسلم . والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ … } وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه . قال نحوه ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم " . والمراد بذوى القربى من تربطك بهم صلة القرابة سواء أكانوا من المحارم أم لا . والمسكين هو من لا يملك شيئا من المال ، أو يملك ما لا يسد حاجته ، وهذا النوع من الناس فى حاجة إلى العناية والرعاية ، لأنهم فى الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل ، على إراقة ماء وجوههم بالسؤال . وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس المسكين الذى يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، قالوا فما المسكين يا رسول الله ؟ قال الذى لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " . وابن السبيل هو المسافر المنقطع عن ماله سمى بذلك - كما يقول الآلوسى - لملازمته السبيل - أى الطريق - فى السفر . أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته . وهذا النوع من الناس - أيضا - فى حاجة إلى المساعدة والمعاونة ، حتى يستطيع الوصول إلى بلده . وفى هذا الامر تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغى أن يكونوا فى التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة . والمعنى وأعط - أيها العاقل - ذوى قرباك حقوقهم الثابتة لهم من البر ، وصلة الرحم ، والمعاونة ، والزيارة ، وحسن المعاشرة ، والوقوف إلى جانبهم فى السراء والضراء ، ونحو ذلك مما توجبه تعاليم دينك الحنيف . وأعط - كذلك - المسكين وابن السبيل حقوقهما التى شرعها الله - تعالى - لهما ، من الإِحسان إليهما ، ومعاونتهما على ما يسد حاجتهما . وقدم - سبحانه - الأقارب على غيرهم ، لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم . روى الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم ، عن سليمان بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذى الرحم اثنتان صدقة وصلة " . وقوله - سبحانه - { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } نهى عن وضع المال فى غير موضعه الذى شرعه الله - تعالى - مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه فى الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه ، ثم استعير لتضييع المال فى غير وجوهه . قال صاحب الكشاف التبذير تفريق المال فيما لا ينبغى ، وإنفاقه على وجه الإِسراف ، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها فى الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك فى أشعارها ، فأمر الله - تعالى - بالنفقة فى وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف . … وقال ابن كثير وقوله { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } لما أمر بالإِنفاق نهى عن الإِسراف فيه ، بل يكون وسطا ، كما قال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } وقال ابن مسعود التبذير الإِنفاق فى غير حق . وكذا قال ابن عباس . وقال مجاهد لو أنفق إنسان ماله كله فى الحق لم يكن مبذرا . ولو أنفق مُدا فى غير حقه كان تبذيرا . وقوله { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } تعليل للنهى عن التبذير ، وتنفير منه بأبلغ أسلوب . والمراد بأخوة الشياطين المماثلة لهم فى الصفات السيئة ، والسلوك القبيح . قال الإِمام الرازى والمراد من هذه الأخوة ، التشبه بهم فى هذا الفعل القبيح ، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشئ أخا له ، فيقولون فلان أخو الكرم والجود . وأخو السفر ، إذا كان مواظبا على هذه الأعمال . أى كن - أيها العاقل - متوسطا فى نفقتك ، ولا تبذر تبذيرا . لأن المبذرين يماثلون ويشابهون الشياطين فى صفاتهم القبيحة ، وكان الشيطان فى كل وقت وفى كل حال جحودا لنعم ربه ، لا يشكره عليها ، بل يضعها فى غير ما خلقت له هذه النعم . وفى تشبيه المبذر بالشيطان فى سلوكه السيئ ، وفى عصيانه لربه ، إشعار بأن صفة التبذير من أقبح الصفات التى يجب على العاقل أن يبتعد عنها ، حتى لا يكون مماثلا للشيطان الجاحد لنعم ربه . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما يجب على المؤمن فعله فى حال عدم قدرته على تقديم العون للأقارب والمحتاجين ، فقال - تعالى - { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } . ولفظ { إما } مركب من " إن " الشرطية ، ومن " ما " المزيدة . أى إن تعرض عنهم . وقوله { تعرضن } من الإِعراض ، بمعنى صرف الوجه عن السائل حياء منه وبسبب عدم القدرة على تلبية طلبه . وقوله { ابتغاء } مفعول لأجله منصوب بتعرضن ، وهو من باب وضع المسبب موضع السبب . لأن الأصل وإما تعرضن عنهم لإِعسارك . والمراد بالرحمة انتظار الحصول على الرزق ، وحلول الفرج بعد الضيق . والميسور اسم مفعول من يسر الأمر - بالبناء للمفعول - مثل سعد الرجل ، ومعناه السهل اللين . والمعنى وإما تعرضن - أيها المخاطب - عن ذى قرابتك وعن المسكين وابن السبيل ، بسبب إعسارك وانتظارك لرزق يأتيك من الله - عز وجل - فقل لهم فى هذه الحالة قولا لينا رفيقا يدل على اهتمامك بشأنهم ، ويدخل السرور على نفوسهم ، كأن تقول لهم مثلا - ليس عندى اليوم ما أقدمه لكم ، وإن يرزقنى الله بشئ فسأجعل لكم نصيبا منه . قال القرطبى ما ملخصه وهو تأديب عجيب ، وقول لطيف بديع ، أى لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر غنى وقدرة فتحرمهم ، وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض ، وعائق يعوق ، وأنت عند ذلك ترجو من الله - تعالى - فتح باب الخير ، لتتوصل به إلى مواساة السائل ، فإن قعد بك الحال { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } أى لينا لطيفا … ولقد أحسن من قال @ إلاَّ تكن وَرِقٌ يوماً أجود بها للسائلين فإنى لينُ العود لا يعدم السائلون الخير من خلقى إما نوالى وإما حسنُ مردود @@ ثم أرشد - سبحانه - عباده إلى أفضل الطرق لإِنفاق أموالهم والتصرف فيها ، فقال - تعالى - { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } . وقوله { مغلولة } من الغل - بضم الغين - وأصله الطوق الذى يجعل فى العنق وتربط به اليد ، كما يربط المذنب والأسير وهو كناية عن البخل والتقتير . قال صاحب الكشاف ما ملخصه غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط . ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة . حتى أنه يستعمله فى ملك لا يعطى عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها . ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا ما أبسط يده بالنوال لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان للبخل والجود … وقوله { محسورا } من الحسور بمعنى الانقطاع عن الشئ ، والعجز عن الحصول عليه . يقال فلان حسره السير ، إذا أثر فيه أثرا بليغا جعله يعجز عن اللحاق برفقائه . ويقال بعير محسور . أى ذهبت قوته وأصابه الكلل والإِعياء . فصار لا يستطيع النهوض بما يوضع عليه من أحمال . والمقصود من الآية الكريمة الأمر بالتوسط والاعتدال فى الإِنفاق والنهى عن البخل والإِسراف . فقد شبه - سبحانه - مال البخيل ، بحال من يده مربوطة إلى عنقه ربطا محكما بالقيود والسلاسل ، فصار لا يستطيع تحريكها أو التصرف بها . وشبه حال المسرف والمبذر ، بحال من مد يده وبسطها بسطا كبيرا ، بحيث أصبحت لا تمسك شيئا يوضع فيها سواء أكان قليلا أم كثيرا . والمعنى كن - أيها الإِنسان - متوسطا فى كل أمورك ، ومعتدلا فى إنفاق أموالك بحيث لا تكون بخيلا ولا مسرفا ، فان الإِسراف والبخل يؤديان بك إلى أن تصير ملوما . أى مذموما من الخلق والخالق ، محسورا ، أى مغموما منقطعا عن الوصول إلى مبتغاك بسبب ضياع مالك ، واحتياجك إلى غيرك . قال الآلوسى ما ملخصه فالآية الكريمة تحض على التوسط ، وذلك هو الجود الممدوح ، فخير الأمور أوساطها . وأخرجه أحمد وغيره عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عال من اقتصد " وأخرجه البيهقى عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة " وفى رواية عن أنس مرفوعا " التدبير نصف المعيشة ، والتودد نصف العقل ، والهم نصف الهرم ، وقلة العيال أحد اليسارين " وكما يقال حسن التدبير مع الكفاف ، خير من الغنى مع الإِسراف . ثم بين - سبحانه - أن مرجع الأمور كلها اليه ، فهو المعطى وهو المانع ، فقال - تعالى - { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } . أى إن ربك - أيها الانسان - العاقل - يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء أن يبسطه له ويمسك الرزق ويضيقه ويقدره على من يشاء من خلقه . إذ كل شئ فى هذا الكون يسير على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، وهو - سبحانه - العليم ببواطن الناس وبظواهرهم ، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم ، ولا يعطى أو يمنع ، إلا لحكمة هو يعلمها . قال - تعالى - { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد حضت على إيتاء ذوى القربى والمساكين وابن السبيل حقوقهم . وعلى الاعتدال فى إنفاق المال ، ونهت عن الشح والتبذير ، وأسندت العطاء والمنع إلى الله - تعالى - الخبير البصير بالظواهر والبواطن . ثم يسوق - سبحانه - جملة من النواهى التى يؤدى الوقوع فيها إلى فساد أحوال الأفراد والجماعات ، وإلى شيوع الفاحشة فى الأمم ، مما يؤدى إلى اضمحلالها وذهاب ريحها ، فقال - تعالى - { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً … } .