Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 45-48)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والخطاب فى قوله - تعالى - { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ … } للرسول صلى الله عليه وسلم وقوله { حجابا } من الحجب بمعنى المنع . قال صاحب المصباح حجبه حجبا - من باب قتل - منعه . ومنه قيل للستر حجاب لأنه يمنع المشاهدة . وقيل للبواب حاجب ، لأنه يمنع من الدخول . والأصل فى الحجاب جسم حائل بين جسدين ، وقد استعمل فى المعانى فقيل العجز حاجب ، أى بين الإِنسان ومراده … وقوله { مستورا } ساترا ، فهو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل . كميمون بمعنى يامن . ومشئوم بمعنى شائم . واختار بعضهم أن مستورا على معناه الظاهر ، من كونه اسم مفعول ، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه ، أو مستورا به القارئ فلا يراه غيره ، ويجوز أن يكون مستورا ، أى ذا ستر فهو للنسب كمكان مهول ذو هول … وللمفسرين فى تفسير هذه الآية أقوال ، أشهرها قولان أولهما يرى أصحابه ، أن المراد بالحجاب المستور ما حجب الله به قلوب هؤلاء الكافرين عن الانتفاع بهدى القرآن الكريم ، بسبب جحودهم وجهلهم وإصرارهم على كفرهم . فهو حجاب معنوى خفى ، حال بينهم وبين الانتفاع بالقرآن . فهم يستمعون إليه ، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له ، ويمانعون فطرتهم عن التأثر به ، فكان استماعهم له كعدمه ، وعاقبهم الله على ذلك بأن طمس بصائرهم عن فقهه . والمعنى وإذا قرأت - أيها الرسول الكريم - القرآن الهادى إلى الطريق التى هى أقوم ، جعلنا - بقدرتنا ، ومشيئتنا - ، بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ، حجابا يحجبهم ويمنعهم عن إدراك أسراره وهداياته ، وساترا بينك وبينهم ، بحيث لا يصل القرآن إلى قلوبهم وصول انتفاع وهداية . ويشهد لهذا المعنى قوله - تعالى - { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } ومن المفسرين الذين اكتفوا بهذا القول ، فلم يذكروا غيره ، الإِمام البيضاوى ، فقد قال - رحمه الله قوله وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم { مستورا } ذا ستر كقوله - تعالى - { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } أى مستورا عن الحس … أما القول الثانى فيرى أصحابه أن المراد بالحجاب المستور ، أن الله - تعالى - يحجب نبيه صلى الله عليه وسلم عن أعين المشركين ، بحيث لا يرونه فى أوقات معينة ، لحكم منها النجاة من شرورهم . فيكون المعنى وإذا قرأت القرآن - أيها الرسول الكريم - جعلنا بينك وبين هؤلاء الكافرين ، حجابا ساترا لك عنهم بحيث لا يرونك ، عندما تكون المصلحة فى ذلك . وقد استشهد أصحاب هذا القول بما أخرجه الحافظ أبو يعلى عن أسماء بنت أبى بكر قالت " لما نزلت سورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة ، وفى يدها فِهْر - أى حجر - وهى تقول مُذَّمما أتينا ، وأمَره عصينا ، ودينه قَليْنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، وأبو بكر إلى جنبه . فقال أبو بكر يا رسول الله ، لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك ، فقال صلى الله عليه وسلم " إنها لن ترانى " وقرأ قرآنا اعتصم به منها ، ومما قرأه - { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } . فجاءت حتى قامت على أبى بكر ، فلم تر النبى صلى الله عليه وسلم ، فقالت يا أبا بكر ، بلغنى أن صاحبك هجانى فقال أبو بكر لا ورب هذا البيت ما هجاك . فانصرفت وهى تقول لقد علمت قريش أنى بنت سيدها " . ومن المفسرين الذين استظهروا هذا القول ، الإِمام القرطبى ، فقد قال بعد أن ذكر ما روى عن أسماء بنت أبى بكر - رضى الله عنها - وقال سعيد بن جبير " لما نزلت سورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } جاءت امرأة أبى لهب إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ، فقال أبو بكر لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك فإنها امرأة بَذِيَّة . فقال صلى الله عليه وسلم " إنه سيحال بينى وبينها " فلم تره . فقالت لأبى بكر يا أبا بكر هجانا صاحبك . فقال أبو بكر والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله . فاندفعت راجعة . فقال أبو بكر يا رسول الله ، أما رأتك ؟ . قال لا . ما زال ملك بينى وبينها يسترنى حتى ذهبت " . ثم قال القرطبى وقيل الحجاب المستور ، طَبْعُ الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة . قاله قتادة . وقال الحسن أى أنهم لإِعراضهم عن قراءتك ، وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب فى عدم رؤيتهم لك ، حتى كأن على قلوبهم أغطية … ثم قال والقول الأول أظهر فى الآية . ويبدو لنا أن كلا القولين صحيح فى ذاته ، وأن كل واحد منهما يحكى حالات معينة ، ويشهد لذلك ما نقله الجمل فى حاشيته على الجلالين عن شيخه فقد قال - رحمه الله - . قوله { حجابا مستورا } ، أى ساترا لك عنهم فلا يرونك وهذا بالنسبة لبعضهم ، كان يحجب بصره عن رؤية النبى صلى الله عليه وسلم إذا أراده بمكروه وهو يقرأ القرآن وبعضهم كان يحجب قلبه عن إدراك معانى القرآن … وبعضهم كان ينفر عند قراءة القرآن … وقوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } يؤكد أن المشركين كانوا طوائف متعددة بالنسبة لموقفهم من القرآن الكريم ، ومن النبى صلى الله عليه وسلم . أى وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة { أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } أى أغطية تسترها وتمنعها من فقه القرآن الكريم ، وفهمه فهما سليما . وجعلنا - أيضا - { وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً } أى صمما وثقلا عظيما يمنعهم من سماعه سماعا ينفعهم . وقوله - سبحانه - { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة . أى وإذا ذكرت أيها الرسول الكريم - ربك فى القرآن وحده ، دون أن تذكر معه آلهتهم المزعومة انفضوا من حولك ورجعوا على أعقابهم نافرين شاردين { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } وبذلك ترى أن هاتين الآيتين قد صورتا قبائح المشركين المتنوعة أبلغ تصوير ، لتزيد فى فضيحتهم وجهلهم ، ولتجعل المؤمنين يزدادون إيمانا على إيمانهم . ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال علمه . وأنه - تعالى - سيجازى هؤلاء الكافرين بما يستحقون من عقاب ، فقال - عز وجل - { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } . والباء فى قوله - سبحانه - { بما يستمعون } متعلقة بأعلم ، ومفعول { يستمعون } محذوف ، تقديره ، القرآن . قال الآلوسى قوله { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أى متلبسين به من اللغو والاستخفاف ، والاستهزاء بك وبالقرآن . يروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم عن يمينه رجلان من بنى عبد الدار ، وعن يساره رجلان منهم ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار - إذا قرأ القرآن - . ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام . أى نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء ، وهم متعلقة بيستمعون … وأفعل التفضيل فى العلم والجهل يتعدى بالباء ، وفى سوى ذلك يتعدى باللام ، فيقال هو أكسى للفقراء ، والمراد من كونه - سبحانه - أعلم بذلك الوعيد لهم … وإذ فى قوله { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } ظرف لأعلم . ولفظ { نجوى } مصدر بمعنى التناجى والمسارة فى الحديث . وقد جعلوا عين النجوى على سبيل المبالغة ، كما فى قولهم قوم عدل . ويجوز أن يكون جمع نَجِىٍّ ، كقتلى جمع قتيل أى وإذ هم متناجون فى أمرك . والمعنى نحن - أيها الرسول الكريم - على علم تام بأحوال المشركين عند استماعهم للقرآن الكريم . حين تتلوه عليهم ، وبالطريقة التى يستمعون بها وبالغرض الذى من أجله يستمعون إليك . وعلى علم تام بأحوالهم حين يستمعون إليك فرادى وحين يستمعون إليك ثم يتناجون فيما بينهم بالإِثم والعدوان ، والتواصى بمعصيتك . فالجملة الكريمة وعيد شديد للمشركين على استماعهم المصحوب بالاستهزاء والسخرية من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن . وتسلية له صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، وبيان لشمول علم الله - تعالى - لكل أحوالهم الظاهرة والخفية . وقوله - تعالى - { إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } بدل من قوله - تعالى - { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } . والمسحور . هو الذى سحر فاختلط عقله ، وزالت عنه الهيئة السوية . أى ونحن أعلم بهؤلاء الأشقياء - أيضا - عندما يقول بعضهم لبعض لا تتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يدعوا إليه ، فإنكم إن اتبعتموه تكونون قد اتبعتم رجلا مسحورا ، أصابه السحر فأخرجه عن وعيه وعقله . وقال - سبحانه - { إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ } بالإِظهار دون الإِضمار ، لتسجيل الظلم عليهم فيما تفوهوا به ، وأنهم سيستحقون عقوبة الظالم . وقوله - تعالى - { ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } تسلية عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت له وللمؤمنين على الطريق الحق الذى هداهم الله - تعالى - إليه . أى انظر وتأمل - أيها الرسول الكريم - كيف أن هؤلاء المشركين . قد بلغ بهم الجحود والفجور ، أنهم مثلوا لك الأمثال ، فوصفوك تارة بأنك مسحور ، وتارة بأنك شاعر . وهم فى وصفهم هذا ، قد ضلوا عن الحق ضلالا بعيدا ، وصاروا كالحيران الذى التبست عليه الطرق ، فأمسى لا يعرف السبيل الذى يسلكه . هذا ، وقد ذكر الإِمام ابن كثير رحمة الله - عند تفسيره لهذه الآيات ، ما يدل على أن المشركين كانوا يستمعون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند قراءته للقرآن . فقال قال محمد بن إسحاق فى السيرة حدثنى محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى ، أنه حُدِّث أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق … خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى بالليل فى بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا . حتى إذا جمعتهم الطريق ، تلاوموا ، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئا ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة التالية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا . حتى إذا جمعتهم الطريق ، قال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة ، أخذ كل رجل منهم مجلسه . فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب فى بيته ، فقال أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو سفيان يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها . ولا ما يراد بها . فقال الأخنس وأنا والذى حلفت به ، قال ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل . فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسَىْ رهان قالوا منّا نبى يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه . قال فقام عنه الأخنس وتركه . ثم حكى - سبحانه - أقوالهم الباطلة ، فى شأن البعث والحساب يوم القيامة ورد عليها بما يزهق باطلهم ، فقال - تعالى - { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } .