Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 25-26)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أى أن أصحاب الكهف مكثوا فى كهفهم راقدين ثلاثمائة سنين ، وازدادوا فوق ذلك تسع سنين . فالآية الكريمة إخبار منه - سبحانه - عن المدة التى لبثها هؤلاء الفتية مضروبا على آذانهم . وقوله { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } تقرير وتأكيد لكون المدة التى لبثوها هى ما سبق بيانه فى الآية السابقة . فكأنه - سبحانه - يقول هذا هو فصل الخطاب فى المدة التى لبثوها راقدين فى كهفهم ، وقد أعلمك الله - تعالى - بذلك - أيها الرسول الكريم - ، وما أعلمك به فهو الحق الصحيح الذى لا يحوم حوله شك ، فلا تلتفت إلى غيره من أقوال الخائضين فى أمر هؤلاء الفتية ، فإن الله - تعالى - هو الأعلم بحقيقة ذلك . ويرى بعضهم أن قوله - تعالى - { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ } حكاية لكلام أهل الكتاب فى المدة التى لبثها أهل الكهف نياما فى كهفهم ، وأن قوله { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } للرد عليهم . وقد حكى الإِمام ابن كثير القولين . ورجح الأول منهما فقال هذا خبر من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف فى كهفهم ، منذ أن أرقدهم الله إلى أن بعثهم وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان . كان مقداره ثلاثمائة سنين وتسع سنين بالهلالية وهى ثلاثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال بعد الثلاثمائة { وازدادوا تسعا } . وقال قتادة فى قوله { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ … } وهذا قول أهل الكتاب وقد رده الله - تعالى - بقوله { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } . وفى هذا الذى قاله قتادة نظر ، فإن الذى بأيدى أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع ولو كان الله - تعالى - قد حكى قولهم لما قال { وازدادوا تسعا } ، وظاهر الآية أنه خبر عن الله لا حكاية عنهم … وقوله - تعالى - { لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } تأكيد لاختصاصه - عز وجل - بعلم المدة التى لبثوها ، أى له - سبحانه - وحده علم ما خفى وغاب من أحوال السماوات والأرض ، وأحوال أهلهما ، كما قال - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } وقوله - سبحانه - { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } صيغتا تعجب أى ما أبصره وما أسمعه - تعالى - والمراد أنه - سبحانه - لا يغيب عن بصره وسمعه شئ . وجاءت هذه الجملة الكريمة بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره - تعالى - فى الإِدراك خارج عما عليه إدراك المبصرين والسامعين . إذ لا يحجبه شئ ، ولا يتفاوت عنده لطيف وكثيف ، وصغير وكبير ، وجلى وخفى . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } . أى ليس لأهل السماوات ولا لأهل الأرض ولا لغيرهما غير الله - تعالى - نصير ينصرهم ، أو ولى يلى أمرهم . ولا يشرك - سبحانه - فى حكمه أو قضائه أحدا كائنا من كان من خلقه . كما قال - تعالى - { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } هذا ، وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات مسائل منها . أ مكان الكهف الذى لجأ إليه هؤلاء الفتية ، والزمن الذى ظهروا فيه ، أما مكان الكهف فللعلماء فيه أقوال من أشهرها أنه كان بالقرب من مدينة تسمى " أفسوس " وهى من مدن تركيا الآن ، قالوا إنها تبعد عن مدينة " أزمير " بحوالى أربعين ميلا ، وتعرف الآن باسم " أيازبوك " . وقيل إنه كان ببلدة تدعى " أبسس " - بفتح الهمزة وسكون الباء وضم السين - وهذه البلدة من ثغور " طرسوس " بين مدينة حلب بسوريا ، وبلاد أرمينية وأنطاكية . وقيل إنه كان ببلدة تسمى " بتراء " بين خليج العقبة وفلسطين … إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة ، التى لا نرى داعيا لذكرها ، لقلة فائدتها . وأما الزمن الذى ظهروا فيه ، فيرى كثير من المفسرين أنه كان فى القرن الثالث الميلادى فى عهد الإِمبراطور الرومانى " دقيانوس " الذى كان يحمل الناس حملا على عبادة الأصنام ، ويعذب من يخالف ذلك . ب العبر والعظات والأحكام التى تؤخذ من هذه القصة - ومن أهمها 1 - إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، حيث أخبر - عن طريق ما أوحاه الله إليه من قرآن - عن قصة هؤلاء الفتية ، وبين وجه الحق فى شأنهم ورد على ما خاضه الخائضون فى أمرهم ، وصدق الله إذ يقول { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ … } 2 - الكشف عن جانب من بلاغة القرآن الكريم فى قصصه ، حيث ساق هذه القصة مجملة فى الآيات الأربع الأولى منها ، ثم ساقها مفصلة بعد ذلك تفصيلا حكيما . وفى ذلك ما فيه من تمكن أحداثها وهداياتها فى القلوب . والمرشد العاقل هو الذى ينتفع بهذا الأسلوب القرآنى فى وعظه وإرشاده . 3 - بيان أن الإِيمان متى استقر فى القلوب ، هان كل شئ فى سبيله . فهؤلاء الفتية آثروا الفرار بدينهم ، على البقاء فى أوطانهم ، لكى تسلم لهم عقيدتهم … فهم كما قال - سبحانه - فى شأنهم { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } 4 - بيان أن على المؤمن أن يلجأ إلى الله بالدعاء - لا سيما عند الشدائد والكروب ، وأنه متى اتقى الله - تعالى - وأطاعه ، جعل له - سبحانه - من كل ضيق فرجا ، ومن كل هم مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، وصانه من السوء . فهؤلاء الفتية عندما لجأوا إلى الكهف ، تضرعوا إلى الله بقولهم { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } . فأجاب الله دعاءهم ، حيث ضرب على آذانهم فى الكهف سنين عددا ، وجعل الشمس لا تصل إليهم مع أنهم فى فجوة من الكهف ، وصان أجسادهم من البلى والتعفن بأن قلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وأنام كلبهم بعتبة باب الكهف حتى لكأنه حارس لهم وألقى الهيبة عليهم بحيث لو رآهم الرائى لولى منهم فرارا . ولملئ قلبه رعبا من منظرهم . وسخر أصحاب النفوذ والقوة للدفاع عنهم . وللتعبير عن تكريمهم لهم بقولهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } 5 - بيان أن التفكير السليم - المصحوب بالنية الطيبة والعزيمة الصادقة ، يؤدى إلى الاهتداء إلى الحق ، وأن القلوب النقية الطاهرة تتعاون على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان . وأن فضح الباطل والكشف عن زيفه … دليل على سلامة اليقين . فهؤلاء الفتية اجتمعوا على الحق ، وربط الله على قلوبهم إذ قاموا للوقوف فى وجه الباطل ، وهداهم تفكيرهم السليم إلى أن المستحق للعبادة هو ربهم رب السماوات والأرض ، وأن من يعبد غيره يكون قد افترى على الله كذبا . وأن اعتزال الكفر يوصل إلى نشر الرحمة ، والظفر بالسداد والتوفيق . ولذا تواصوا فيما بينهم بقولهم { فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } 6 - بيان أن مباشرة الأسباب المشروعة لا تنافى التوكل على الله . فهؤلاء الفتية عندما خرجوا من ديارهم ، أخذوا معهم بعض النقود ، وبعد بعثهم من رقادهم أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعاما طاهرا حلالا ، وأوصوه بالتلطف فى أخذه وعطائه وبكتمان أمره وأمرهم حتى لا يعرف الأعداء مكانهم . وهكذا العقلاء ، لا يمنعهم توكلهم على الله - تعالى - من أخذ الحيطة والحذر فى كل شئونهم التى تستدعى ذلك . 7 - إقامة أوضح الأدلة وأعظمها على أن البعث حق . فقد أطلع الله - تعالى - الناس على هؤلاء الفتية ، ليوقنوا بأنه - سبحانه - قادر على إحياء الموتى … لأن من يقدر على بعث الراقدين من رقادهم بعد مئات السنين ، فهو قادر على إحياء الموتى يوم القيامة . 8 - بيان أن من الواجب على المؤمن إذا أراد فعل شئ أن يقرن ذلك بمشيئة الله - تعالى - لأنه - سبحانه - بيده الأمر كله ، وصدق الله إذ يقول { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } هذه بعض العظات والأحكام التى ترشدنا إليها هذه القصة ، وقد ذكرنا جانبا آخر منها خلال تفسيرنا للآيات التى اشتملت عليها . ومن أراد المزيد فليرجع إلى ما كتبه المفسرون فى ذلك . ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بمداومة التلاوة لما أوحاه إليه - سبحانه - ، فإن فيه فصل الخطاب وبالحفاوة بالمؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى ، وبإعلان كلمة الحق فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فقال - تعالى - { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً … } .