Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 32-36)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والمثل فى اللغة الشبيه والنظير ، وهو فى عرف القرآن الكريم الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع . وضرب المثل إيراده ، وعبر عن إيراده بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير فى نفس السامع . أى واضرب - أيها الرسول الكريم - مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حى عن بينة . قال الآلوسى " والمراد بالرجلين ، إما رجلان مقدران على ما قيل ، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما . وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه . فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما كافر … والآخر مؤمن . ثم قال والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين ، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا ، بل من أن للمؤمنين فى الآخرة كذا ، وللكافرين فيها كذا ، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم فى نعم الله ، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر " . أى واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة ، والطاعة مع الفقر ، حال رجلين { جعلنا لأحدهما } وهو الكافر { جنتين } أى بستانين ، ولم يعين - سبحانه - مكانهما ، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض . ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال { من أعناب } جمع عِنَب ، والعنبة الحبة منه . والمراد من كروم متنوعة . وقوله { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة . والحف بالشئ الإِحاطة به . يقال فلان حفه القوم ، أى أحاطوا به ، ومنه قوله - تعالى - { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ … } أى جعلنا لأحد الرجلين ، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب ، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما ، وجعلنا فى وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه ، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر ، ويفيد الناس . ثم ذكر - سبحانه - ما يزيد من جودة الجنتين ، ومن غزارة خيرهما فقال { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } وكلتا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين ، وهو المذهب المشهور ، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم . أى أن كل واحدة من الجنتين { آتت أكلها } أى أعطت ثمارها التى يأكلها الناس من العنب والتمر وغيرهما من صنوف الزرع { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } أى ولم تنقص من هذا المأكول شيئا فى سائر السنين ، بل كان أكل كل واحدة منهما وافيا كثيرا فى كل سنة ، على خلاف ما جرت به عادة البساتين ، فإنها فى الغالب تكثر ثمارها فى أحد الأعوام وتقل فى عام آخر . وفى التعبير بكلمة { تظلم } بمعنى تنقص وتمنع ، مقابلة بديعة لحال صاحبهما الذى ظلم نفسه بجحوده لنعم الله - تعالى - واستكباره فى الأرض . وقوله { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } أى وشققنا فى وسطهما نهرا ليمدهما بما يحتاجان إليه من ماء بدون عناء وتعب . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هاتين الجنتين بما يدل على جمال منظرهما ، وغزارة عطائهما ، وكثرة خيراتهما ، واشتمالهما على ما يزيدهما بهجة ومنفعة . ثم بين - سبحانه - أن صاحب هاتين الجنتين كانت له أموال أخرى غيرهما فقال { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } . قال الآلوسى ما ملخصه " { وكان له } أى للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين { ثمر } أى أنواع من المال … وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائى … { ثُمُر } بضم الثاء والميم ، وهو جمع ثمار - بكسر الثاء - … أى أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك ، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما … " . وقوله - سبحانه - { قَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } حكاية لما تفوه به هذا الكافر من ألفاظ تدل على غروره وبطره . والمحاورة المراجعة للكلام من جانبين أو أكثر . يقال تحاور القوم ، إذا تراجعوا الكلام فيما بينهم . ويقال كلمته فما أحار إلى جوابا ، أى ما رد جوابا . والنفر من ينفر - بضم الفاء - مع الرجل من قومه وعشيرته لقتال عدوه . أى فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن الشاكر أنا أكثر منك مالا وأعز منك عشيرة وحشما وأعوانا . وهذا شأن المطموسين المغرورين ، تزيدهم شهوات الدنيا وزينتها … بطرا وفسادا فى الأرض . وما أصدق قول قتادة - رضى الله عنه - " تلك - والله - أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر " . ثم انتقل صاحب الجنتين من غروره هذا إلى غرور أشد . حكاه القرآن فى قوله { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } . أى أن هذا الكافر لم يكتف بتطاوله على صاحبه المؤمن ، بل سار به نحو جنته حتى دخلها وهو ظالم لنفسه بسبب كفره وجحوده وغروره . قال صاحب الكشاف فإن قلت فلم أفرد الجنة بعد التثنية ؟ قلتُ معناه ودخل ما هو جنته ، ما له جنة غيرها يعنى أنه لا نصيب له فى الجنة التى وعدها الله للمؤمنين ، فما ملكه فى الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما . وقوله { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أى وهو معجب بما أوتى مفتخر به ، كافر لنعمة ربه ، معرض بذلك نفسه لسخط الله ، وهو أفحش الظلم … وقوله { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } أى قال هذا الكافر لصاحبه ما أظن أن هذه الجنة تفنى أو تهلك أبدا . يقال باد الشئ يبِيدُ بَيْدا وبُيُوداً إذا هلك وفنى . ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً } أى كائنة ومتحققة . فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته ، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي } أى والله لئن رددت إلى ربى على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبى بأن هناك بعثا وحسابا { لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا } أى من هذه الجنة { منقلبا } أى مرجعاً وعاقبة . اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشئ إلى غيره . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } وقوله - سبحانه - { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه ، - أولا - قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة ، ويراه - ثانيا - قد بنى حياته على الغرور والبطر ، واعتقاد الخلود لزينة الحياة الدنيا ، ويراه - ثالثاً - قد أنكر البعث والحساب ، والثواب والعقاب . ويراه - رابعا - قد توهم أن غناه فى الدنيا سيكون معه مثله فى الآخرة قال صاحب الكشاف " وأخبر عن نفسه بالشك فى بيدودة جنته ، لطول أمله ، واستيلاء الحرص عليه ، وتمادى غفلته ، واغتراره بالمهلة ، واطراحه النظر فى عواقب أمثاله ، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين ، وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم ، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به ، منادية عليه . وأقسم على أنه إن رد إلى ربه - على سبيل الفرض والتقدير - ليجدن فى الآخرة خيراً من جنته فى الدنيا ، تطمعا وتمنيا على الله … " . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله الرجل المؤمن لصاحب الجنتين ، الذى نطق بأفحش ، وأفجر الفجور ، فقال - تعالى - { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً … } .