Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 9-12)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإِمام الرازى " اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف ، وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان ، فقال - تعالى - { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } ؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السماوات والأرض ، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن ، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل ، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر فى النوم … " . وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة ، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئاً عجبا بالنسبة لقدرة الله - تعالى - . وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها أن قريشا بعثت النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهم سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول . وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن ، فهو نبى مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول . سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من خبرهم . فإنهم قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره ؟ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش . فقالا يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور . ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا ، ثم سألوه عما قالته لهم يهود . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن - أى . ولم يقل إن شاء الله - فانصرفوا عنه . ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة . لا يحدث الله إليه فى ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل - عليه السلام - حتى أرجف أهل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا ، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشئ عما سألناه عنه . وحتى أَحْزَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحى عنه ، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } والخطاب فى قوله - تعالى - { أم حسبت … } للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين . و " أم " فى هذه الآية هى المنقطعة ، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة ، أى بل أحسبت ، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل ، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر ، أى بل حسبت . ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التى للاستفهام الإِنكارى أى أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم . والكهف هو النقب المتسع فى الجبل ، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار ، وجمعه كهوف . والمراد به هنا ذلك الكهف الذى اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم . وأما الرقيم فقد ذكروا فى المراد به أقوالا متعددة منها أنه اسم كلبهم ، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادى الذى كان فيه الكهف ، ومنها أنه اسم القرية التى خرج منها هؤلاء الفتية . ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذى كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم ، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم - فهو فعيل بمعنى مفعول - ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته . ومنه قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أى مكتوب . قال بعض العلماء " والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين أحدهما معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه فى هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم . وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة فى الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى " . والمعنى أظننت - أيها الرسول الكريم - أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية ، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا ؟ لا ، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شئ . ثم حكى - سبحانه - ما قالوه عندما حطوا رحالهم فى الكهف فقال إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } . و " إذ " هنا ظرف منصوب بفعل تقديره اذكر . و { أوى } فعل ماض - من باب ضرب - تقول أوى فلان إلى مسكنه يأوى ، إذا نزله بنفسه . واستقر فيه . و { الفتية } جمع قلة لفتى . وهو وصف للإِنسان عندما يكون فى مطلع شبابه . وقوله { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } من التهيئة بمعنى تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقة . والمراد بالأمر هنا ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم ، ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة . والرشد الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه . وهو ضد الغى . يقال رشد فلان يرشد رشدا ورشادا ، إذا أصاب الحق . أى واذكر - أيها الرسول الكريم - للناس ليعتبروا ، وقت أن خرج هؤلاء الفتية من مساكنهم ، تاركين كل شئ خلفهم من أجل سلامة عقيدتهم فالتجأوا إلى الكهف ، واتخذوه مأوى لهم ، وتضرعوا إلى خالقهم قائلين يا ربنا آتنا من لدنك رحمة ، تهدى بها قلوبنا ، وتصلح بها شأننا ، وتردُّ بها الفتن عنا ، كما نسألك يا ربنا أن تهيئ لنا من أمرنا الذى نحن عليه - وهو فرارنا بديننا . وثباتنا على إيماننا - ما يزيدنا سدادا وتوفيقا لطاعتك . وقال - سبحانه - { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ … } بالإِظهار - مع أنه قد سبق الحديث عنهم بأنهم أصحاب الكهف لتحقيق ما كانوا عليه من فتوة ، وللتنصيص على وصفهم الدال على قلتهم ، وعلى أنهم شباب فى مقتبل أعمارهم ، ومع ذلك ضحوا بكل شئ فى سبيل عقيدتهم . والتعبير بالفعل { أوى } يشعر بأنهم بمجرد عثورهم على الكهف . ألقوا رحالهم فيه واستقروا به استقرار من عثر على ضالته ، وآثروه على مساكنهم المريحة ، لأنه واراهم عن أعين القوم الظالمين . والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً … } يدل على أنهم بمجرد استقرارهم فى الكهف ابتهلوا إلى الله - تعالى - بهذا الدعاء الجامع لكل خير . والتنوين فى قوله { رحمة } للتهويل والتنويع . أى آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك . رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشئوننا . فهى تشمل الأمان فى المنزل ، والسعة فى الرزق والمغفرة للذنب . قال القرطبى ما ملخصه هذه الآية صريحة فى الفرار بالدين وهجرة الأهل والأوطان … خوف الفتنة ، ورجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين … ثم بين - سبحانه - ما حدث لهؤلاء الفتية بعد أن لجأوا إلى الكهف ، وبعد أن دعوا الله بهذا الدعاء الشامل لكل خير . فقال { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } . وأصل الضرب فى كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة . يقال ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها بشدة ، وتفرعت عن هذا المعنى معان أخرى ترجع إلى شدة اللصوق . والمراد بالضرب هنا النوم الطويل الذى غشاهم الله - تعالى - به فصاروا لا يحسون شيئا مما حولهم ، ومفعول ضربنا محذوف . والمعنى بعد أن استقر هؤلاء الفتية فى الكهف ، وتضرعوا إلينا بهذا الدعاء العظيم ، ضربنا على آذانهم وهم فى الكهف حجابا ثقيلا مانعا من السماع ، فصاروا لا يسمعون شيئا يوقظهم ، واستمروا فى نومهم العميق هذا { سنين } ذات عدد كثير ، بينها - سبحانه - بعد ذلك فى قوله { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } . وخص - سبحانه - الآذان بالضرب ، مع أن مشاعرهم كلها كانت محجوبة عن اليقظة ، لأن الآذان هى الطريق الأول للتيقظ . ولأنه لا يثقل النوم إلا عندما تتعطل وظيفة السمع . " وقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم عندما علم أن رجلا لا يستيقظ مبكرا أن قال فى شأنه " ذلك رجل قد بال الشيطان فى أذنه " " أى فمنعها من التبكير واليقظة قبل طلوع الشمس . والتعبير بالضرب - كما سبق أن أشرنا - للدلالة على قوة المباشرة ، وشدة اللصوق واللزوم ، ومنه قوله تعالى - { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } أى التصقتا بهم التصاقا لا فكاك لهم منه ، ولا مهرب لهم عنه . ثم بين - سبحانه - ما حدث لهم بعد هذا النوم الطويل فقال { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } . وأصل البعث فى اللغة إثارة الشئ من محله وتحريكه بعد سكون . ومنه قولهم بعث فلان الناقة - إذا أثارها من مبركها للسير ، ويستعمل بمعنى الإِيقاظ وهو المقصود هنا من قوله { بعثناهم } أى أيقظناهم بعد رقادهم الطويل . وقوله { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } بيان للحكمة التى من أجلها أيقظهم الله من نومهم . وكثير من المفسرين على أن الحزبين أحدهما أصحاب الكهف والثانى أهل المدينة الذين أيقظ الله أهل الكهف من رقادهم فى عهدهم ، وكان عندهم معرفة بشأنهم . وقيل هما حزبان من أهل المدينة الذين بعث هؤلاء الفتية فى زمانهم ، إلا أن أهل هذه المدينة كان منهم حزب مؤمن وآخر كافر . وقيل هما حزبان من المؤمنين كانوا موجودين فى زمن بعث هؤلاء الفتية ، وهذان الحزبان اختلفوا فيما بينهم فى المدة التى مكثها هؤلاء الفتية رقوداً . والذى تطمئن إليه النفس أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف ، لأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك - { وكذلك بعثناهم } أى الفتية { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ … } . قال الآلوسى { ثم بعثناهم } أى أيقظناهم وأثرناهم من نومهم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أى منهم ، وهم القائلون { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ } والقائلون { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } . وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم ، والثانى أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم … والظاهر الأول لأن اللام للعهد ، ولا عهد لغير من سمعت . والمراد بالعلم فى قوله { لنعلم … } إظهار المعلوم ، أى ثم بعثناهم لنعلم ذلك علما يظهر الحقيقة التى لا حقيقة سواها للناس . ويجوز أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز ، أى ثم بعثناهم لنميز أى الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا . فهو من باب ذكر السبب وإرادة المسبب ، إذ العلم سبب للتمييز . ولفظ { أحصى } يرى صاحب الكشاف ومن تابعه أنه فعل ماض ، ولفظ { أمدا } مفعوله ، و " ما " فى قوله { لما لبثوا } مصدرية ، فيكون المعنى ، ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبين أضبط أمدا - أى مدة - للبثهم فى الكهف . قال صاحب الكشاف و { أحصى } فعل ماض ، أى أيهم أضبط { أمدا } لأوقات لبثهم . فإن قلت فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل ؟ قلت ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثى المجرد ليس بقياس … والقياس على الشاذ فى غير القرآن ممتنع فكيف به … وبعضهم يرى أن لفظ { أحصى } صيغة تفضيل ، وأن قوله { أمدا } منصوب على أنه تمييز وفى إظهار هذه الحقيقة للناس ، وهى أن الله - تعالى - قد ضرب النوم على آذان هؤلاء الفتية ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، ثم بعثهم بعد ذلك دون أن يتغير حالهم ، أقول فى إظهار هذه الحقيقة دليل واضح على قدرة الله - تعالى - وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى أن البعث بعد الموت حق لا ريب فيه . وبذلك تكون هذه الآيات قد ساقت لنا قصة أصحاب الكهف على سبيل الإِجمال والاختصار ، ثم جاءت آيات بعد ذلك لتحكى لنا قصتهم على سبيل التفصيل والبسط ، وهذه الآيات هى قوله - تعالى - { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى … } .