Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 151-152)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ } … إلخ متصل بما قبله ، والكاف للتشبيه وهى فى موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف وما مصدرية ، والتقدير لقد حولت القبلة إلى شطر المسجد الحرام لأتم نعمتى عليكم إتماماً مثل إتمام نعمتى عليكم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فيكم ، إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل إذ قالا { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ … } وقيل إن قوله - تعالى - { كَمَآ أَرْسَلْنَا } … إلخ متصل بما بعده ، فتكون الكاف للمقابلة ، أى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين القويم ، والخلق المستقيم ومنحتكم هذه النعمة فلا منى وكرماً ، فاذكرونى بالشكر عليها أذكركم برحمتى وثوابى . وقوله { فِيكُمْ } متعلق " بأرسلنا " وقدم على المفعول تعجيلا بإدخال السرور وقوله { مِّنْكُمْ } فى موضع نصب ، لأنه صفة لقوله { رَسُولاً } والمخاطبون بهذه الآية الكريمة هم العرب . وفى إرساله الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وهو منهم نعمة تستوجب المزيد من الشكر ، لأن إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة وسيرته العطرة ، ومن شأن هذه المعرفة أن تحملهم على المسارعة إلى تصديقه والإِيمان به ، ولأن فى إرساله فيهم وهو منهم شرف عظيم لهم ، ومجد لا يعد له مجد ، حيث جعل - سبحانه - خاتم رسله من هذه الأمة ، ولأن المشهور من حالهم الأنفة الشديدة من الانقياد ، فكون الرسول منهم ادعى إلى إيمانهم به وقبولهم لدعوته . وقوله { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } صفة ثانية للرسول صلى الله عليه وسلم . والتلاوة ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق ، وأصله من الإِتباع ومنه تلاه ، أى تبعه . والمراد من الآيات آيات القرآن الكريم ، وتلاوتها قراءتها ، فإن البصير بأساليب البيان العربى يدرك من مجرد تلاوة آيات القرآن كيف ارتفع إلى الذروة التى كان بها معجزة ساطعة . وفى هذه الجملة - كما قال الآلوسى - " إشارة إلى طريق إثبات نبوته - عليه الصلاة والسلام - لأن تلاوة الأمى للآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإِخبار بالمغيبات والمصالح التى ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته " وعبر بقوله { يَتْلُواْ } ، لأن نزول القرآن مستمر ، وقراءة النبى صلى الله عليه وسلم له متوالية ، وفى كل قراءة يحصل علم المعجزات للسامعين . ويجوز أن يراد بالآيات دلائل التوحيد والنبوة والبعث ، وبتلاوتها التذكير بها حتى يزداد المؤمنون إيماناً بصدقها . وقوله { وَيُزَكِّيكُمْ } صفة ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أى ويطهركم من الشرك ، ومن الأخلاق الذميمة . وإذا أشرقت النفوس بنور الحق ، وتحلت بالأخلاق الحميدة ، قوبت على تلقى ما يرد عليها من الحقائق السامية . وقوله { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة رابعة للرسول صلى الله عليه وسلم . والمراد بالكتاب القرآن ، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه ، فهو غير التلاوة ، فلا تكرار بين قوله { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وبين قوله { وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ } . والحكمة ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال التى جعل الله للناس فيها أسوة حسنة . قال بعضهم وقدمت جملة { وَيُزَكِّيكُمْ } هنا على جملة { وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } عكس ما جاء فى الآية السابقة فى حكاية قول إبراهيم { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين ، فقدم ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهى منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها ، وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها . أما فى دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته فى الخارج ، مع ما فى ذلك التخالف من التفنن " . وقوله - تعالى - { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة خامسة له صلى الله عليه وسلم . أى " ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه ممالا طريق إلى معرفته سوى الوحى . ومما لم يكونوا يعملونه وعلمهم إياه صلى الله عليه وسلم وجوه واستنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها ، وأخبار الأمم الماضية ، وقصص الأنبياء ، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم . وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة . ولقد كان العرب قبل الإِسلام فى حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد … فلما أكرمهم الله - تعالى - برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم الآيات ، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، خرج منهم رجال صاروا أمثالا عالية فى العقيدة السليمة ، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة ، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات . قال الآلوسى وكان الظاهر أن يقول " ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون " بحذف الفعل " يعلمكم " من الجملة الآخيرة ، ليكون الكلام من عطف المفرد على المفرد ، إلا أنه - تعالى - كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا ، فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة ، ولولاه لكان الخلق متحيرين فى أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون " . ثم أمر الله عباده بأن يكثروا من ذكره وشكره على ما أسبغ عليهم من نعم فقال { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ … } . ذكر الشىء التلفظ باسمه ، ويطلق بمعنى استحضاره فى الذهن ، وهو ضد النسيان وذكر العباد لخالقهم قد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح . فذكرهم إياه بألسنتهم معناه أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ، ويقرءوا كتابه ، مع استحضارهم لعظمته وجلاله . وذكرهم إياه بقلوبهم معناه أن يتفكروا فى الدلائل الدالة على ذاته وصفاته وفى تكاليفه وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، وأسرار مخلوقاته ، لأن هذا التفكر يقوى إيمانهم ، ويصفى نفوسهم . وذكرهم إياه بجوارحهم معناه أن تكون جوارحهم وحواسهم مستغرقة فى الأعمال التى أمروا بها ، منصرفة عن الأفعال التى نهوا عنها ، ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله - تعالى - ذكراً فى قوله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ … } وقوله { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } أمر وجوابه ، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم . والمعنى اذكرونى بالطاعة والاستجابة لما أمرتكم به والبعد عما نهيتكم عنه أذكركم بالرعاية ، والنصرة ، وصلاح الأحوال فى الدنيا ، وبالرحمة وجزيل الثواب فى الآخرة . فالذكر فى قوله { أَذْكُرْكُمْ } مستعمل فيما يترتب على الذكر من المجازاة بما هو أوفى وأبقى ، كما أن قوله { فَٱذْكُرُونِيۤ } المراد به اذكروا عظمتى وجلالى ونعمى عليكم ، لأن هذا التذكر هو الذى يبعث على استفراغ الوسع فى الأقوال والأعمال التى ترضى الله . قال صاحب المنار وقال الأستاذ الإِمام هذه الكلمة - وهى قوله - تعالى - { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } - من الله - تعالى كبيرة جداً ، كأنه يقول إننى أعاملكم بما تعاملوننى به وهو الرب ونحن العبيد ، وهو الغنى عنا ونحن الفقراء إليه . وهذه أفضل تربية من الله لعباده إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل ، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل " . هذا ، وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل الذكر والذاكرين ، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله - تعالى - أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه حين يذكرنى ، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى . وإن ذكرتى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم . وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً . وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعا . وإن أتانى يمشى أتيته هرولة " . وروى مسلم عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة أنهما شهدا على النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يقعد قوم يذكرون الله - تعالى - إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . قال الإِمام النووى واعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة فى التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحو ذلك ، بل كل عامل لله - تعالى - بطاعة فهو ذاكر لله - تعالى - . وقوله - تعالى - { وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } معطوف على ما قبله . والشكر فى اللغة - كما يقول القرطبى - الظهور ، ومنه قولهم دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف . وحقيقته عرفان الإِحسان وإظهاره بالثناء على المحسن ، يقال شكره وشكر له كما يقال نصحه ونصح له . وأصل الكفر فى كلام العرب الستر والتغطية والجحود ، ويستعمل بمعنى عدم الإِيمان فيتعدى بالباء فيقال كفر بالله ، ويستعمل بمعنى عدم الشكر - وهو المراد هنا - فيتعدى بنفسه ، فيقال كفر النعمة أى جحدها وكفر المنعم أى جحد نعمته ولم يقابلها بالشكر . والمعنى اشكروا لى ما أنعمت به عليكم من ضروب النعم ، بأن تستعملوا النعم فيما خلقت له ، وبأن تطيعونى فى السر والعلن ، وحذار من أن تجحدوا إحسانى إليكم ، ونعمى عليكم فاسلبكم إياها . قال - تعالى - { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } وقدم - سبحانه - الأمر بالذكر على الأمر بالشكر ، لأن فى الذكر اشتغالا بذاته - تعالى - ، وفى الشكر اشتغالا بنعمته ، والاشتغال بذاته أولى بالتقديم من الاشتغال بنعمته . وقوله { وَلاَ تَكْفُرُونِ } تأكيد لقوله { وَٱشْكُرُواْ لِي } . وهذا تحذير لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقع فيه بعض الأمم السابقة التى { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وبعد أن أمر - سبحانه - عباده بذكره وشكره ، وجه نداء إليهم بين لهم فيه ما يعينهم على ذلك ، كما بين لهم منزلة الشهداء ، وعاقبة الصابرين على البلاء فقال - تعالى - { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ … وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } .